الأبعاد الثقافية للتأخر العربي الراهن

د- عبدالله تركماني

يعيش العالم العربي محنة حقيقية تجلِّياتها متشعبة، في فلسطين والعراق والسودان واليمن ولبنان وسورية وتعثُّر التنمية وتفاقم الاحتقان الاجتماعي والسياسي في العديد من الأقطار العربية، وتزداد الأخطار تأثيراً بسبب ما يعانيه الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف المتمثلة في: انتشار الأمية، وتخلّف برامج التربية والتعليم عن حاجات المجتمعات العربية ومتطلبات العصر، ونقص الحريات العامة، وتزايد انتهاكات حقوق الإنسان، وسيادة الإعلام السطحي.

وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكِّنه من فهم وتشخيص هذا الواقع، ومن ثمَّ الانخراط في تغييره باتجاه التكيُّف الإيجابي مع معطيات وتحوُّلات العالم المعاصر، وبما ينسجم مع المصالح العربية العليا. فإذا كنا قد خسرنا العديد من لحظات الانتماء والفعل في التاريخ الثقافي – المعرفي الكوني، خاصة في التاريخ الحديث، فإننا في الوقت الراهن نقف مكتوفي الأيدي أمام ثقافة مجتمع المعرفة. فمع العصر الرقمي والانفجار المعلوماتي والاقتصاد المعرفي يبدو أنه لا غنى عن تجديد المصطلحات وإعادة صياغة الإشكاليات، إذ ليست المسألة الآن كيف ننهض من السبات أو كيف نجدد النهضة، أو كيف نندرج في الحداثة، بالرغم من أهمية كل ذلك، بل التكيُّف الإيجابي مع عالم اليوم الذي يكاد يتحول إلى عالم جديد من فرط انكشافه وفيض معلوماته وفائق أدواته.

المسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحوَّل إلى مشاركين في العالم المعاصر بصورة غنية وخلاقة، ولعلَّ ما أعاقنا عن ذلك هو الحمولات الأيديولوجية وطغيان الشعارات التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحوُّل، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلُّم منه، أو التي جعلتنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية عقيمة وغير منتجة.

ومن المؤكد أنّ الثقافة هي أحد أهم المداخل إلى معالجة مختلف إشكاليات العالم العربي، على أن تُفهم بمعناها الأوسع والأغنى والأكثر فاعلية، أي بوصفها تجسِّد حيوية التفكير بقدر ما تمثِّل منبع المعنى ومصدر القوة، وبقدر ما تجسد سيرورة التحوُّل والازدهار في العالم العربي. ومن أجل تجسيد حيوية التفكير بات من التبسيط والتضليل مقاربة هذه الإشكاليات من خلال فكر أحادي الجانب والمستوى، فالعالم هو في بناه ونظامه وصيرورته من التعقيد والتشابك والتحوُّل، بحيث لا تفي بفهمه نظرية واحدة ولا ينجح في تغييره أنموذج أوحد. الأجدى أن تتضافر المقاربات والمعالجات، عبر استثمار نتائج الدراسات العلمية في مختلف الاختصاصات، وبما يؤول إلى ابتكار الاستراتيجيات والآليات والوسائل التي تسهم في بلورة رؤى مستقبلية.

وفي الواقع، تعود أزمة العالم العربي المعاصر، في جانب أساسي منها، إلى أزمة الحامل الاجتماعي لثقافته. فمنذ بداية سبعينيات القرن العشرين بدأ المجتمع العربي يعيش أزمة جديدة تمثلت في تصدُّع الفئات الوسطى، أي الفئات التي كانت الحامل الاجتماعي للثقافة العربية منذ الإخفاق العربي النهضوي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كما أنّ النظام الثقافي العربي ساهم، إلى حدٍّ بعيد، في إبعاد العرب عن دائرة المشاركة الفعلية في النظام الثقافي الكوني، وجعلهم أسرى الثقافة الاستهلاكية. وفي المقابل، حوَّل الثقافة التراثية إلى قلاع مغلقة تحاول عزل نفسها خوفاً من رياح التغيير، وتحتمي وراء التقليد وترديد مقولات السلف الصالح. إنه نظام متناقض مع نفسه، خالٍ من الاتساق والمصداقية، يسعى إلى إشاعة ثقافة الغفلة والامتثال والخضوع والعاطفية الجوفاء، بينما يهمل ثقافة الوعي الموضوعي بحقائق الأشياء وواقع المجتمع وواقع العصر الذي نعيش فيه.

وقد أدى كلُّ ذلك إلى تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة التي تؤيد إلى النار. هكذا، رأينا الاعتداء على المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة. وأضيف إلى ذلك تحوُّل هذا الإرهاب من إرهاب محلي إلى إرهاب دولي.

 وفي زمن ثقافة مجتمع المعرفة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرة هذه الهوية الثقافية العربية على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة المستدامة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقِّي، وتوفير وسائل تمكِّينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابَّة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.

إنّ حضور سؤال المستقبل في أيَّة ثقافة هو دليل حيويتها، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي. إنّ الوعي المستقبلي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصراً من عناصر الحاضر الذي يقبل التحوُّل والتطور والمساءلة. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقدم.

وانطلاقاً من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج: الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى. والنقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالنا الوطني على الأقل.

وهنا تبرز مهمة المثقفين النقديين بالتوجُّه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنِّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلِّي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأيِّ تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقاً من نسبية المعتقدات والقناعات ” رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب “.

وهكذا، لابدَّ من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير، الذي يمكِّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية:

(1) – مبدأ الحرية والاختيار، لأنّ الحرية ترتبط بالمسؤولية وتنفي الحتمية أو الجبرية، وتجعل من الضروري إلقاء الضوء على فعل الاختيارات الممكنة تاريخياً، وصنع الاختيار انطلاقاً من الوعي بمعطيات الواقع والذات.

(2) – النسبية والتنوع والاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلِّياتها الجزئية، ومن حق المجتمع أن يطَّلع على كل الخيارات المتاحة، التي تبلورت بحرية، وأن يختار من بينها.

(3) – ثقافة حسن الاختيار، إذ يترتب على القول بنسبية كل حقيقة أنّ أيَّ اختيار يكون صائباً بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع، ويحلُّ بعض أهم معضلاته في مرحلة تاريخية ما.

(4) – ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية – الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حلَّ محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه. إنّ الواجب الحضاري ليس خطبة فارغة، وليس عظة أخلاقية مجردة، كما أنها ليست فرضاً للرأي بالعنف، ولا ادّعاء صارخاً بالتفوق، إنها الإضافة الحقيقية إلى رصيد الإنسان من المعارف ودوافع الخير ووسائل الإعمار.

(5) – ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ إنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدَّلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة، وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد والثقافة.

(6) – الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ ” الغزو الثقافي ” هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماماً، إذ صار الأمل الحقيقي في الصمود رهناً بالتعلُّم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت، بدءاً من أنظمة الحكم ومروراً بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات.

(7) – المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجاً أساسياً وعميقاً لاستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة، بما تنطوي عليه من: تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام فيما يتعلق بالدور والثروة والسلطة، والاتصال والديمومة في أداء الوظائف، والدقة البالغة في تعيين الاختصاص والتمييز بين الأدوار، وتقسيم العمل، وإحداث التكامل بين الوظائف والاختصاصات عبر آليات مستقلة – نسبياً – عن الأشخاص.

 (8) – التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلُّق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل ” ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي ” ، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في أنموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور. ومن ثمَّ، فإنّ الركود الممتد لأكثر من سبعة قرون له أساس قوي في ثقافتنا، والتحرر من الركود مرهون بتغيير وتجديد نظرتنا للمستقبل. إنّ المستقبل يحمل جديداً وليس مجرد إعادة إنتاج متواصل للماضي، ولذلك يجب أن نصحح – باستمرار – ما نعرفه وما نملكه وما نصنعه، وهو ما يعيدنا للقول بنسبية كل حقيقة بشرية وإخضاعها للنقد والتمحيص.

(9) – استعادة ثقافة المساواة والحق، فمثلاً لم ينجح العرب في إقرار حق المرأة في المساواة، وما زالت تلك الضرورة والحتمية متعثِّرة في الوعي وفي الممارسة على السواء. ونعتقد أنّ تحرير المرأة والإقرار بحقها في المساواة هو شرط مهم لتحرير عقولنا جميعاً، بل ولتحرير تاريخنا من الركود.

(10) – جدلية التعاون والتنافس، إذ يجب أن نغرس في الثقافة العربية فكرة أنّ التطور رهن بالتنافس والتعاون معاً، ومن ثم أولوية النضال السلمي من أجل حلِّ التناقضات حلاً عادلاً، ودون إخلال بالحق.

وهكذا، يبدو واضحاً أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية العربية، بمعنى أننا في أمسِّ الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي. فالثقافة العربية الراهنة تمر في مرحلة انحطاط وردَّة واضحين، فهناك استفحال لظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفِّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى