بعد غياب طويل عن وسائل الإعلام، في وقت تستمر فيه الحرب الإسرائيلية على غزة بكل وحشيتها، يعود بشار الأسد إلى الظهور من بوابة اللجنة المركزية لحزب البعث. ولأنه، ربما، شعر أنه «في بيته» حيث لا أحد غريباً، والحاضرون هم الأتباع الإمعات إياهم الذين يصفقون بصورة جماعية كلما ضحك قائدهم أو هاجم الأعداء الكثر، فقد ارتجل فـ»أبدع» درراً لا تتسع المساحات لاستعراضها جميعاً والتعليق عليها. ربما أفضل ما يفعله الأسد هو حين يصمت، ذلك أن ما يتفوه به، سواء كتبه له آخرون أو ارتجله وفقاً لمزاج اللحظة، إنما تعاف النفس من سماعه عموماً، لكن ظهوره الأخير بمناسبة التحضير لانتخاب «قيادات جديدة» لحزبه أتاح له مساحة حرة تفوق فيه على نفسه وعلى كل تصريحاته القديمة.
كانت إحدى أبرز درره المنثورة بسخاء هي هجومه العنيف على «بعض» البيئة الموالية التي شهدت تمردات فردية متفرقة على وسائل التواصل الاجتماعي، الصيف الماضي، قبل أن تثور ضده محافظة السويداء المستمرة في ثورتها السلمية منذ أشهر. فقد وصف أولئك الموالين بالتفاهة و»الرويبضة» والاستعداد لـ»الغرق في شبر ماء» على حد تعبيره. فبعد سنوات من تأييدهم له سقطوا، في رأيه، في الأمتار العشرة الأخيرة، ويبثون الإحباط واليأس في البيئة الموالية. صحيح أنه برّأهم من اتهامات كالخيانة التي استعاد من جديد إطلاقها على كل معارضيه، لكنه نبه إلى خطرهم، ورد على شكاواهم بالزجر: «يقولون ماذا قدّمت الدولة؟ وماذا قدمت أنت للدولة؟!». فالأفراد والجماعات هم الذين يجب، في رأيه، أن يقدموا للنظام الذي يسميه بالدولة، وليس العكس. إذن لا محل، في عقل الأسد، لمطالب الشعب من نظام يحتكر كل شيء، بل على الشعب أن يقدم ويستمر في التقديم، وفي سياق الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد فالأفراد مطالبون بتقديم أرواحهم وأموالهم ليبقى الأسد في الحكم إلى الأبد.
وبعدما دمرت قواته نصف العمران في سوريا، وقتلت مئات الآلاف من البشر، وهجرت نصف السكان، وبعدما رهن حاضر البلد ومستقبله لروسيا وإيران، وبعدما رفض كل المبادرات الأممية والعربية لحل أزمته، وأغرق البلدان المجاورة بالمخدرات، اكتشف الأسد الحل السحري في إعادة بث الروح في حزب البعث الذي سبق وأنهى دوره في «قيادة الدولة والمجتمع»، فجاء يلقي على «نخبته القيادية» تعاليمه بخصوص «تجديد» تلك القيادة وتخليص الحزب من «السلبيات»! لكن الغريب أن الوصفة التي قدمها لم تتجاوز تبرير ما سماه بالسلبيات كالـ»المحسوبية والمال السياسي»! فالأولى برأيه تعبر عن «تضامن اجتماعي طبيعي محمود ما لم تؤد إلى نتائج سلبية، والثانية لا يمكن ضبطها في غياب الشفافية المالية! وكأن هذا الغياب هو قدر لا فكاك منه. ولا يعرف أحد كيف يمكن لهذا «الحزب» أن يتطهر من سلبياته ما دامت قدرية، وتنبع قدريتها من هذا «الأمين العام» الذي يعرف كل شيء ويوجّه كل شيء ويصوغ الحزب على هواه ومع ذلك لا يتغيّر أي شيء.
الواقع أن حزب البعث الذي أعاد حافظ الأسد صياغته، بل اخترعه، بعد حركته التصحيحية، قد تحول، منذ ذلك الوقت، إلى مجرد كتلة من الانتهازيين المستفيدين من السلطة وسلماً للارتقاء في مراتبها ومخبرين يعاونون أجهزة المخابرات لمراقبة أنفاس المجتمع. وتعرض لتحوّل إضافي بعد صراع مطلع السبعينيات بين السلطة والطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، فبات له دور أمني مسلح في إطار «الكتائب البعثية المسلحة». أما بعد انطلاق الثورة الشعبية في العام 2011 فقد انشق عنه أفراد كثيرون ممن انضموا إلى المظاهرات في مناطقهم، وحمل بعضهم السلاح في إطار فصائل الجيش الحر الذي سيطر على مساحات واسعة من البلاد قبل التدخل العسكري الروسي، في حين انضم آخرون إلى فصائل إسلامية ومنها تنظيم الدولة «داعش» إبان سيطرتها وإقامة دولتها الإسلامية. أما من تبقى في صفوف الحزب المهلهل فقد كان عليه أن يحمل السلاح ويقاتل ويُقتل على جبهات القتال ضد الفصائل المعارضة. وعموماً ليس الحزب أكثر من كتلة هلامية لها هياكل تجتمع حين يطلب منها ذلك لتصادق على ما يأتيها من تعليمات من فوق حيث السلطة الحقيقية. وإذ تظهر عاجزة بحكم موقعها التبعي المرسوم لها، يأتي الأسد ليوبخها على ما لا ذنب لها فيه، ويحمّلها مسؤولية النتائج التي لا يمكن، في ظل «قيادته الحكيمة» إلا أن تكون بهزالة توجيهاته.
ومن النقاط البارزة حديثه عن «القضية» ويا له من حديث شفاف ودقيق! فبالنسبة له لا مشكلة في مقتل آلاف الفلسطينيين في غزة، فهذا أمر مألوف ومتوقع. المهم هو الحفاظ على «القضية»! يا للوضوح القاتل! وبئساً لأنبل قضية إذا كانت تتعارض مع حياة إنسان واحد. وتمسك الأسد بالقضايا مفهوم طبعاً، فبها يبرر كل جرائمه بحق السوريين والفلسطينيين، واستقدامه لاحتلالات أجنبية، وخنوعه أمام احتلالات أخرى، وأمام ضربات اعتياده من «العدو الصهيوني الغاشم» وفق نثريات النظام وأتباعه. فإذا أراد المرء أن يسأل عنه الكنه العميق لتلك القضايا لوصل إلى استنتاج لا مفر منه هو أنها تتطابق مع الراكبين على القضايا كمثل النظام السوري وإيران وغيرهما، يصدف أن أكثرهم ينتظم في «محور الممانعة».
كم من الممكن أن يوفر الأسد على نفسه من الاستهزاء والاشمئزاز لو أنه يسكت!
المصدر: القدس العربي
الأفضل لبشار الأسد أن يصمت لأن صمته نعمة ، كلما ارتجل ظهرت تناقضاته النفسية وغروره اللامحدود ، يبرر موقف بعض الموالين الذين اعترضوا على الوضع الاقتصادي ولم يخونهم لأنهم تراجعوا عند فنجان القهوة ولم يعطي رؤية مستقبلية للوضع السوري إلا بمطالبة الجميع تقديم الدعم للحكومة ، نظام فاسد مبني على الأجهزة الأمنية والمنتفعين ، قراءة موضوعية لخطابه الأخير .