يتعرّض المرشح الرئاسي السابق لرئاسة الجمهورية الفرنسية للكثير من الانتقادات منذ بضعة أسابيع بسبب موقفه من الحرب في غزة، واليوم يجيب عن أسئلة “أوريان 21”، حيث يشرح سبب اتساع الفجوة بين الغرب وبقية العالم بسبب “ازدواجية المعايير” في دعم إسرائيل، ويستنكر الجدل الدائر حول إحدى تغريداته، ويدحض اتهامه بمعاداة السامية، كما يشيد بعدم الانحياز باعتباره من “أخلاقيات العمل السياسي”.
أوريان 21 – “الصمود” هو أحد تعبيراتك المفضلة في السياسة. كيف يمكن لغزّاوي أن “يصمد” أمام حالة الدمار الهائل والمستمرّ التي يعيش فيها منذ عدة أسابيع؟ مع الأخذ في الاعتبار أيضًا تخلّي المجتمع الدولي عن أهل غزّة منذ عقود.
جان لوك ميلانشون – طالما أحزنني الوضع المقيت القائم في غزة، كما تسبّب لي في صدمةٍ أخلاقية كبيرة. فهناك أكثر من مليوني شخص محتجزون في ما يشبه السجن المفتوح، ولا يسعني أن أصدق كيف يمكن لإسرائيل أن ترتكب فعلاً كهذا نظرًا لتاريخ اضطهاد اليهود في العالم والأسباب التي ارتكزت إليها في تأسيس دولتها. كما أن أزمة غزة هي أحد الأعراض المفزعة لتآكل ما يسمّى بـ“الغرب”، فالعجز عن إنهاء هذا الوضع البغيض بشكلٍ فوري يعدّ علامة على التردّي الأخلاقي لكل من يتصالح معه ويسمح به. الصمود يعني ألا ننسى إنسانيتنا المشتركة.
حرب الجزائر، غصّة في حلق فرنسا
أوريان 21 – منذ عشرين عامًا على الأقل، منذ فشل اتفاقيات أوسلو، أصبحت غزة أيضًا رمزًا لإمكانية مواصلة إسرائيل لسياساتها دون أي عواقب.
ميلانشون – هذا الوضع ليس جديدًا. نحن نواجه في العالم بأسره ظاهرة “ازدواجية المعايير”، والتي تتحدّد وفقًا للاتفاق أو الاختلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية. لقد رأينا كيف تحرّكت الولايات المتحدة وحلفاؤها لمواجهة الغزو الروسي غير المبرّر لأوكرانيا، وصمتها شبه التام إزاء انتهاكات نتنياهو. في 2008-2009 نُفّذت عملية “الرصاص المصبوب”، وكانت بمثابة لحظة تحوّل فكري بالنسبة لي. فأهل غزة لم يكونوا سجناء فحسب، بل يتعرّضون للقصف عقابًا لهم على مسؤولية جماعية مفترضة.
حتى المعتدلون يقرّون بهذا. على سبيل المثال، صرّح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية جان لوي بورلانج عشية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بالتالي: “إن عنف حماس لا عذر له لكنه ليس بلا مبرّر”. إن ما يفعله نتنياهو مع أهل غزة الآن ليس مشروعًا. فهو ليس دفاعًا مشروعًا عن النفس، وإنما إبادة عرقية. الآن تشهد العديد من الدول، منها الولايات المتحدة الأمريكية، مظاهرات حاشدة تشارك فيها قطاعات واسعة من الجاليات اليهودية المحلية. هذا التنوّع يثبت عبثية نظرية “صراع الحضارات” التي وضعها صامويل هنتغتون. فلم يحدث أن شهدت أي دولة انقسامًا نتج عنه عداء للعرب والمسلمين كما توقّع الكثيرون، إلا في قطاعٍ كبير من الإعلام الفرنسي. لكن ما يحرّك جموع المتظاهرين هي قيم العدالة والقانون الدولي والحق في العيش بكرامة وعالمية حقوق الإنسان.
أوريان 21 – من أين جاءت خصوصية الحالة الفرنسية؟ لقد ذكرت حرب الجزائر، أتعتقد أنها السبب في الانقسام السائد في فرنسا؟
ميلانشون – طالما كانت حرب الجزائر غصّة في حلق الفرنسيين. لقد كانت مصدرًا شديدًا للألم بالنسبة لهم نظرًا لأن قادتهم تخلّوا عن القيم والمبادئ التي زعموا أنهم يعملون باسمها. ففي أعقاب حصول فرنسا على استقلالها في مايو/أيار 1945، تم قصف مدينة سطيف! لم يتم الاعتراف بأنها حرب وليست عملية للشرطة سوى في عام 1999. ماذا فعلنا؟ من فعلها؟ ماذا كان يتعيّن علينا فعله؟ في أي ظروف؟ لم ننجح قط في التطهّر من الفظائع التي ارتُكِبَت في الجزائر وفرنسا. كانت ذكرى المغرب العربي والجزائر وما زالت مصدر مرارة دفينة في الوعي الجمعي الفرنسي. ومع ذلك يظل 35% من الشباب في فرنسا مرتبطين عاطفيًا بالجزائر سواء من خلال آبائهم أو أجدادهم أو حاضرهم أو جنسيتهم المزدوجة أو الشخص الذي تربطهم به علاقة عاطفية. ولكن كم شخص من كبار السنّ ما زال يواجه صعوبةً في التعافي..!
أوريان 21 – أنت وجزء كبير من المجتمع الدولي تتحدثون عن ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في نظر القانون الدولي في عدوانها الحالي على غزة..
ميلانشون – لم يكن هذا بالأمر السهل!
أوريان 21. – بالطبع، ويُعدّ مكسبًا للفلسطينيين. ولكن قبل هذا العدوان كانت هناك أحداث 7 أكتوبر التي قُتِل فيها 1200 إسرائيلي على يد حماس. هل تعتبرونها أيضًا جريمة حرب؟
ميلانشون. – يجب على المحكمة الجنائية الدولية أن تنظر في كل الحقائق! لقد دعوت إلى وقف إطلاق النار في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وناديت بضرورة محاكمة جميع مجرمي الحرب. وبعيدًا عن رأيي الشخصي وطرق الاستفادة منه، فإن ما يهمّ هو طبيعة الأحداث والطريقة التي يمكننا بها قيادة معركة سياسية على أسس ملموسة ومعترف بها. في نهاية عملية الرصاص المصبوب، اتّهم تقرير للأمم المتحدة طرفي القتال بارتكاب جرائم حرب، ولكن لم يسفر ذلك عن أي نتائج. في عالمٍ ينعم بالنظام والاستقرار، لا يمكن اعتبار القانون مجرد بنية فوقية ثانوية. ليس لدينا أي معيار آخر في العالم غير القانون الدولي الذي تجسّده الأمم المتحدة، حتى وإن كان كليهما بحاجة إلى إصلاح. وإلا فما هو المعيار؟ قانون الغاب؟ إن ثمن التقاعس عن التحرك بعد عملية “الرصاص المصبوب” ما زال يُدفَع حتى يومنا هذا. إن المنحى الذي اتخذه الصراع الحالي سيغير مجرى القرن. يجب أن نكون على مستوى الأحداث. لقد مُنِيَ اليسار القديم بالهزيمة في العشرة أو الخمسة عشرة عامًا التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، وإحدى العواقب غير المتوقّعة لذلك كان حجم الموجة الرجعية التي طالت الجميع تقريبًا! وفي النهاية تكوّنت جبهة مقاومة حقّقت انتصارات في الأمريكتين، ليس فقط ضد الإمبريالية الأمريكية، ولكن أيضًا وقبل كل شيء ضد النظام الاقتصادي النيوليبرالي، ولا شيء أبعد من ذلك، تقريبًا! في نضالنا المستمر من أجل إرساء نظام عالمي جديد ونمط جديد للمجتمعات، يجب أن نجد نقاط ارتكاز مستقرة. في ظل ميزان القوى الحالي، يمثّل القانون الدولي نقطة الارتكاز، فبدون الأمم المتحدة، أيًّا كانت حدودها، ما مستقبل الكوكب؟ ليس هدفنا إقامة عالم “متعدد الأقطاب”، فالنتيجة الحتمية ستكون الحرب، ولكننا بحاجة إلى عالمٍ “منظّم” حول القانون كمرجعٍ مشترك. هناك حاجة ملحّة إلى ذلك: 75% من الدول لديها نزاعات حدودية! و28% منها نزاعات مسلحة! إن الصراع الدائر بين إسرائيل وفلسطين استعماري، إنه صراع على الأرض والحدود، وليس صراعًا دينيًا.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى اليوم، نشهد نمطًا متكرّرًا من الأحداث، وفي كلا الجانبين ما نراه يصدمنا. ولكن رفض الانحياز إلى أحد طرفي الصراع لا يعني الوقوف على الحياد أو على مسافة متساوية. نحن لا نشارك في “الدعم غير المشروط لإسرائيل” الذي أعربت عنه رئيسة الجمعية الوطنية السيدة يائيل براون بيفيه لحكومة نتنياهو. هل هذا الدعم باسم التمثيل الوطني؟ لم يفوّضها أحد، خلافًا لما تدّعي!
أوريان 21 – هل تقول إن هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل الذي أعربت عنه في الجمعية لا يمثّلك؟
ميلانشون – لقد صرّحَت بذلك أمام المجلس وقوبل بالتصفيق، ولكن ليس منّا. لا نؤمن بشكلٍ عام بمبدأ “الدعم غير المشروط” لأي من كان. لم أقل قط أنني أساند “بشكل غير مشروط” حتى الدول التي أميل إليها، مثل كولومبيا ورئيسها جوستافو بيترو. إن “الدعم غير المشروط لإسرائيل” ليس له أي معنى آخر سوى الدعم غير المشروط لسياسة السيد نتنياهو. نحن نرفض بشكلٍ قاطع تشكيل حكومته والمبادئ السياسية التي يدافع عنها وسياسته الاستيطانية، وليس من الصواب إعطاء انطباع بالموافقة على أيٍّ من هذا ولو قليلاً. هذا الموقف يعتبره بعض المتعصّبين معاداة للسامية. فهم يستخدمون هذا المصطلح دون تمييزٍ أو تحفّظ، كشعاعٍ مهمّته شلّ كل من يفكر بطريقة مختلفة عنهم. هذا سخيف! يتم إلصاق تلك الوصمة بكل من لا يدعمون سياسة بنيامين نتانياهو حتى النخاع، وهذا يشمل دومينيك دي فيلبان والرئيس إيمانويل ماكرون. كل اختلافٍ في المواقف يقابل فورًا بالذم والإساءة. ما لا يمكن تحمّله هو القمع الفكري والتعصّب الناتجان عن هذا الخلاف.
“العسكرة”، كلمة معادية للسامية؟
أوريان 21- في ظل هذا المناخ الذي تصفونه، ألم تخطئ في استخدام كلمة “تُعسكِر” في حديثك عن رحلة السيدة يائيل براون بيفيه في إسرائيل1؟
ميلانشون – هل لديكِ مقترحات أخرى؟
أوريان 21 – نعم.. تقيم، تلقي بنفسها، تركض، تهرع، تندفع..
ميلانشون – كنت أودّ تسجيل اعتراضي على الطابع العسكري الذي غلّف مبادرتها. في جيلي، كانت “العسكرة” مفهومًا دارجًا يعبّر عن الانحياز القوي إلى إحدى الكتلتين، الشرقية والغربية. ولكن أعدك: سأستشيرك في المرة القادمة. لم يخطر ببالي ولو لثانية أن كلمة مُعسكَر يمكن أن تكون معادية للسامية! كيف أمكن استخدام كلمة معادية للسامية في معاهدة “كامب ديفيد” التي وقّع عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي مع السيد عرفات؟ هذا المصطلح يُساء استخدامه بشكلٍ فجّ. لقد ذهبت السيدة يائيل براون بيفيه إلى إسرائيل مرتدية زيًّا عسكريًّا بصحبة ماير حبيب وإريك سيوتي اللذان ارتديا الزيّ نفسه: البدلة العسكرية والسترة الواقية من الرصاص. كانت هناك إذًا نيّة مبيّتة لإظهار التضامن العسكري. لا يمكنها القيام بذلك باسمنا بينما ننادي بوقف إطلاق النار الفوري! لماذا نُطالب نحن دائمًا بتبرير موقفنا، وليس هؤلاء الذين يغتصبون التمثيل الشعبي عنوة؟
بالأمس شهدَت فرنسا مظاهرةً حاشدة وضخمة وقوية من الناحية الرمزية، بالنظر إلى الحالة الذهنية وردود الأفعال على صور غزة. كان الكثيرون يخشون وقوع انفعالات أو تجاوزات لفظية، وهي أشياء لا يمكن التنبؤ بها دائمًا في أي مظاهرة. ولكن لم يحدث شيء من هذا، بل تم إظهار التضامن وضبط النفس والكرامة والسخرية من الموقف الموالي للحرب الذي تتبنّاه رئيسة الجمعية الوطنية وأعوانها. لذا كان من الضروري في اليوم التالي إثارة الجدل حول أي موضوع لصرف الانتباه عن الدعم الذي قدّمته تلك الأقليّة للسيد نتنياهو. إنه لانحطاط شديد في الخطاب العام أن يكون تعليق السيدة براون بيفيه الوحيد على ما حدث أن كلمة “عسكرت” معادية للسامية، لكي يتحوّل ذلك إلى موضوع الساعة. ولكن هذا لن يسكتنا. إنه جزء من الحرب الأيديولوجية الدائرة في فرنسا، والتي تهدف إلى إسكات المعارضين.
أوريان 21 – يشعر بعض المنتمين إلى الجالية اليهودية بأن اليسار تخلّى عنهم، فهو يبدو لهم متخاذلاً في محاربة معاداة السامية. ما ردّك على ذلك؟
ميلانشون – إنهم مخطئون. لقد كنّا وسنظل أول من حارب بلا هوادة تفشّي العنصرية، لأننا نؤمن بأنها تؤدّي بالضرورة إلى تقويض الوحدة الشعبية. تاريخيًا، قامت الطائفة اليهودية باختيارٍ صحيح وحكيم بانحيازها إلى اليسار، لأن يسار روبسبيير الثوري2 هو الذي أعطى الجنسية لليهود في النظام القديم. إن عددًا من قادتنا العظام ينحدرون من تلك الجالية، واليوم أدعو الجميع إلى استعادة تلك الروح الأخويّة في النضال. ينبغي ألا يحيد تفكيرنا عن الأساسيات، فوحدة العمل تتضمّن وحدة الهدف والاحترام المتبادل للأطراف المشاركة فيه. لكن في سابقةٍ من نوعها قام ممثّلون رسميون عن الجالية بمهاجمتنا أثناء إحياء ذكرى حملة اعتقالات فيل ديف. لم يحدث أبدًا أن تم خرق الإجماع الوطني بهذا الشكل في هذا النوع من الاحتفالات. من اعترض من الجالية؟ وعندما تعرّضت مجموعتنا البرلمانية للاعتداء البدني ثم طُرِدت من مسيرة ميراي نول من قبل رابطة الدفاع عن اليهود (LDJ)، رفض المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) حمايتنا بينما قام بحماية مدام لوبان. إن الجالية اليهودية التي أعرفها والتي شاركت في حملتي الانتخابية عندما تم انتخابي في ماسي، شاركت في النقاشات وتحمّلت خلافاتها. كان هناك “المذهبيون” و“الثقافيون”. كان اليساريون هم “الثقافيون”… أشعر أن من أفنيت عمري في الدفاع عنهم قد تخلّوا عني. لم نتخلّف أبدًا عن واجبنا ولا عن الوفاء بالمبادئ المؤسسة له، والتي تنطبق على جميع من يتعرّضون للعنصرية.
أوريان 21 – بخصوص رابطة الدفاع عن اليهود، يمكن القول أن جزءًا كبيرًا من المجتمع اليهودي أصبح متطرّفًا في دعمه لإسرائيل، وبالتالي شعر بانعزاله عن بقية المجتمع. وفي أوروبا نجد اليمين المتطرّف، سواء أكان على رأس السلطة أو على أعتابها كما هو الحال في الكثير من الدول، في مقدّمة المدافعين عن إسرائيل والمعادين للمسلمين.
ميلانشون – لماذا يجب أن يؤدي التعاطف مع إسرائيل إلى الانعزال عن المجتمع؟ لماذا نخلط بين حق دولة إسرائيل في الوجود والدعم غير المشروط لكل حكّامها؟ يجب أن نغيّر طريقة تفكيرنا. أنا مؤيّد لحل الدولتين وهو نفس موقف الأمم المتحدة، كما أنني منفتح على أي اقتراحاتٍ أخرى قد يطرحها كلا الطرفين معًا على طاولة المفاوضات. ما أدينه اليوم هو سياسة حكومة بعينها وتداعيات تلك السياسة. أعرف جيّدًا مشاعر الأذى الناتجة عن التعرّض للذمّ والتهديد، فأنا أيضًا عانيت من هذا الوضع. ولكن ينبغي ألا نقبل حصر أنفسنا في إطارٍ معيّن يريده البعض لنا، لا سيّما هؤلاء الذين يؤيّدون هجرة جميع الجاليات اليهودية إلى إسرائيل بدافع الدين. أرفض تمامًا تلك الفكرة. لقد طرد النظام الفرنسي القديم اليهود إحدى عشرة مرة، خاصةً “القديس لويس” صاحب التمثال الضخم في قاعة مجلس الشيوخ، أما اليسار فقد جعل وحدة الشعب الفرنسي ممكنة بفضل العلمانية. نعم، اليوم يقترب اليمين المتطرف من السلطة في كافة أنحاء أوروبا، لقد بدأ صعود المنحدَر، وستهبط كل دول أوروبا منه لا محالة كما حدث في إيطاليا، والسيدة ميلوني خير مثال على ذلك. هل هذا الوقت المناسب لكي يخلق المجتمع لنفسه أعداءً آخرين؟ في مواجهة اتجاه اليمين والوسط إلى أقصى اليمين، ليس هناك بديل سوى اليسار المتطرف، فاليمين المتطرف الذي يمثّله فيليب بيتان وشارل مورا معادٍ للسامية بحكم “الجينات الوراثية”. إنه لمن المدهش أن نشهد اليوم في فرنسا رفع صفة الخيانة الوطنية عن اليمين المتطرّف التي طالما لازمته منذ الاستقلال. في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، لم يجد البعض غضاضة في التظاهر مع أحزابٍ قائمة في الأصل على معاداة السامية، بينما تم غمرنا بالإهانات والشتائم مع مسلمي هذا البلد. على الجميع أن يفهم جيدًا من نحن. إن ما يشغلنا ليس تأمّليًا أو جماليًا أو ميتافيزيقيًا، وإنما مبدأنا هو الوحدة الشعبية لتحقيق ثورة المواطنة، ومن أجل تشكيل هذه الوحدة الشعبية يجب منع سمّ العنصرية من التغلغل في صفوف الشعب. كل أنواع العنصرية: العنصرية ضد اليهود وضد العرب وضد المسلمين، كلها. يجب علينا القضاء عليها وتوعية جموع الشعب حتى يأخذوا حذرهم ويكتشفوا السمّ في الوقت المناسب، لأن العنصرية ما هي إلا عملية أيديولوجية هدفها تقسيمنا.
لم يتقدّم أحد ببلاغٍ رسمي ضدّي بتهمة معاداة السامية، رغم أنها تعدّ جريمة في فرنسا، وهذا دليل على أن من يتّهمونا بذلك لا يصدّقون أنفسهم. أين سيجدون ما يثبت صحة ادّعاءاتهم؟ يجب أن يصمد الشعب في وجه التطرّف بأشكاله وفي وجه اليمين التطرّف. هذا ينطبق علينا أيضًا، حتى في الأوقات التي يتصاعد فيها العنف والظلم.
أوريان 21 – لقد أصبح إقحام كلمة “إرهاب” سلاحًا سياسيًا يتم اللجوء إليه دون منحه تعريفًا محدّدًا. حماس منظمة اختارها الفلسطينيون، والقول بأنها منظمة إرهابية يعني عدم إمكانية التفاوض معها. هل حماس حركة مقاومة؟ ميلانشون – أكرّر، هناك بلا شك أعمال إرهابية، أعمال هدفها هدفها بثّ الرعب والصدمة من أجل تفريق الأطراف المتصارعة للأبد. تلك الأعمال الإرهابية يتم إدانتها كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ويمكن محاكمة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية. أما توصيف “منظمة إرهابية” فهو أمر آخر. إنه نتاج توازن القوى. “سن فاين” في أيرلندا على سبيل المثال كان يتم اعتبارها منظمة إرهابية، وهي تحكم أيرلندا اليوم وتحظى بالأغلبية في كل من الشمال والجنوب. هل يمكن أن نقول إنهما دولتان إرهابيتان؟ هذا لا معنى له. أوافق تمامًا على مناقشة تلك القضية، فهذا مفيد، لكنها ليست أولويتنا في مواجهة الحرب الحقيقية الدائرة في غزة. أولويتنا هي القانون. إذا قدنا حربًا ضد الإرهاب سنخرج من إطار القانون. فأطروحة الحرب على “الإرهاب” تولّد انقسامًا ثانويًّا للغاية، انقسامًا أيديولوجيًا يخدم انحيازاتٍ سياسية. في آخر هذا الطريق نجد معتقل غوانتنامو وقنابل الفوسفور في غزة وما إلى ذلك، ليس هناك أي اعتبار للقانون. هكذا تصبح كل الوسائل مشروعة في “حرب الخير ضد الشر”، وكل من يعارض الولايات المتحدة متّهم بالإرهاب. هذا هو المذهب الذي دعا إليه صامويل هنتنغتون، حيث تحلّ محل القانون الدولي رؤية ترتكز على العرق بحكم الضرورة العالمية. والانتقال من هذا إلى ذاك لا يحدث دون خسائر، ذلك أن كلمة “إرهاب” لا تضعنا فحسب في معركة على اختيار الكلمة، وإنما في معركة سياسية يجب علينا خوض غمارها.
عقوبات اقتصادية محتملة
أوريان 21 – لقد أدرجت فرنسا من قبل الذراع العسكري لحماس في قوائم الإرهاب، ولكن ليس ذراعها السياسي. وفي لبنان، من الصعب القيام بأي خطوة دون التفاوض مع حزب الله.
ميلانشون – انظري إلى مدى تضليل تلك المفاهيم. لأنه إذا وافقتِ على هذا المفهوم في موضع، يجب أن توافقي عليه في مواضع أخرى. هل سنوافق أيضًا على تدخّل عسكري في لبنان؟ من الواضح أن لعبة خصومي هي إظهارنا بمظهر الداعمين للإرهاب، فنحن غارقون في مناخٍ خانق من الإرهاب الفكري. ولكن هذا لا يمنعني، فأنا لست خائفًا. لقد أدنت الوضع منذ عملية الرصاص المصبوب، وقد أكسبني ذلك عداواتٍ شديدة، لكن هذا لن يجعلني أغيّر رأيي. لا يمكن الوقوف على الحياد من مذبحةٍ كتلك الدائرة في غزة. يجب العمل من أجل نظامٍ عالمي غير منحاز.
أوريان 21 – هل ما زال حل الدولتين ممكنًا، أم يمكن تخيّل حل آخر؟
ميلانشون – أنا متمسك بقرارات الأمم المتحدة في الوقت الحالي، فهي تمثّل نقطة ارتكازٍ شديدة القوة، وقد أوصت الأمم المتحدة بحل الدولتين. وإذا توصّلت المفاوضات حول حدود الدولتين إلى اقتراحٍ بتأسيس دولة واحدة متعددة القوميات أو إلى أي حل آخر قابل للتطبيق ومقبول من الطرفين، سنؤيّده كذلك إذا كان يحقّق السلام العادل.
أوريان 21 – هل البادرة التي يمكن أن تقوم بها فرنسا هي الاعتراف بدولة فلسطين، والذي صوّتت عليه الجمعية الوطنية في ظل حكم فرنسوا هولاند؟
ميلانشون – يجب القيام بذلك في ظل ظروفٍ مواتية. الأمر الملحّ الآن هو توقيع عقوبات على حكومة نتنياهو، فإسرائيل حليف مفضّل لدى الاتحاد الأوروبي، وفرض عقوبات اقتصادية أمر ممكن ونحن نؤيّد هذا الإجراء. إذا حدث ذلك، سيتغيّر ميزان القوى على الفور، نظرًا لارتباط الاقتصاد الإسرائيلي بالاقتصاد الأوروبي. إن الاعتراف بازدواجية المعايير يشير إلى انحياز الاتحاد الأوروبي الأعمى إلى نتنياهو. ذلك أن الانحياز يؤدّي إلى التصديق على كل شيء، وربّما المبادرة بالمزيد. كما فعل السيد ماكرون على سبيل المثال عندما اقترح تشكيل “تحالف دولي ضد حماس على غرار التحالف ضد داعش”. هل يعني ذلك أن فرنسا يجب أن تتورّط في الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة؟ لقد استغرق السيد ماكرون 35 يومًا للمطالبة بوقف إطلاق النار. نحن نتحدث عن قصفٍ مستمر لمدة 35 يومًا3، أي بمعدّل قنبلة كل 30 ثانية. لقد دُمِّرت 60% من المباني وقُتِل 15 ألف شخص، وهو عدد يفوق عدد الوفيات في حصار سراييفو خلال أربع سنوات. إننا نعاصر مذبحة، وقد حذّر عدد من الممثّلين عن وكالات الأمم المتحدة رفيعي المستوى من خطر حدوث إبادة جماعية. إن غزة هي “غرنيكا” القرن العشرين. ولكن في يومنا هذا يعيش البشر في تشكيلاتٍ حضرية ضخمة وبالتالي خارجة عن السيطرة، لذا يلجأ المعتدون إلى ترحيل السكان لاحتلال الأراضي، ويتم بلوغ تلك النتيجة عن طريق المذابح الجماعية والتهجير القسري. أصبح هذا جزءًا من استراتيجيات الحرب العادية.
أوريان 21 – على خطى بعض منظمات المجتمع المدني الفلسطينية ثم الإسرائيلية، تستخدم منظّمتان كبيرتان متخصّصتان في حقوق الإنسان، وهما هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، مصطلح “الفصل العنصري” بفروقٍ بسيطة لوصف التمييز الذي يتعرّض له الفلسطينيون. إلا أن استخدام هذه الكلمة يثير انقسام اليسار، فقد رفضه الحزب الاشتراكي، وليس هناك إجماع في الحزب الشيوعي وحزب الخضر حول استخدامه ونطاق تطبيقه. كيف تفسّر هذا الخلاف؟
ميلانشون – نحن جميعًا ملتزمون ببرنامجنا ولا أعتقد أننا ناقشنا هذا الأمر. إن المزاج العام المسيطر على قادة ونشطاء حركتنا هو أنها سياسة فصل عنصري. هناك تعريف للفصل العنصري وقد أدين في الماضي. الفصل العنصري يصف وضعًا، ومن الواضح أنه ينطوي على حكمٍ أخلاقي شديد السلبية. ولكن على من يرغب في التخلّص من هذا الحكم الأخلاقي أن يخلّصنا من الممارسة التي تسبّبه. نعم، أعتقد أن هناك رغبة في “توسُّع تباعدي تمييزي”، مقرونًا بالوحشية والمصادرة والعنف بجميع أشكاله وبممارسةٍ استيطانية. هذه حقائق مثبتة، ويقرّ بها كذلك جزء من المواطنين الإسرائيليين الذين يعارضونها ويتظاهرون ضدّها بشجاعةٍ لا تصدّق. لهذا أصرّ على التمسّك بفكرة الإنسانية العالمية القادرة على خلق شعوبٍ إنسانية على أساس المبادئ التي توحّدها. إن التاريخ يحتّم علينا أن نراهن على التفاؤل وأن نستند دائمًا إلى المطالب الأكثر عدالة. إن كلمة عدالة ليست الكلمة الأجرأ، لكنها تحيلنا إلى مفهوم القانون. أنا متفائل، لأننا انتصرنا أخلاقيًا على مستوى الوعي الشعبي. سنبقى دائمًا معسكر السلام.
ألان غريش مدير مجلة أوريان ٢١، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها “علام يدل اسم فلسطين؟”، من منشورات “les liens qui libèrent 2010، و”أغنية حب، فلسطين وإسرائيل، قصة من تاريخ فرنسا“مع هيلين آلدغير ، منشورات”La Découverte 2017
جان ستارن صحفي سابق بجريدتي “ليبيراسيون” و“لا تريبون”، متعاون مع مجلة منظمة العفو الدولية. نشر سنة 2012 كتاب Les Patrons de la presse nationale, tous mauvais (رؤساء الصحافة الوطنية جميعهم سيئون) بدار “لا فابريك” وفي 2017، بدار “ليبرتاليا” Mirage gay à Tel Aviv (سراب مثلي في تل أبيب).
المصدر: موقع أوريان 21
المرشح الرئاسي السابق لرئاسة الجمهورية الفرنسية “جان لوك ميلانشون” اليساري الفرنسي بمقابلته أوضح بكلمة واحدة موقفه “إن ما يفعله نتنياهو مع أهل غزة الآن ليس مشروعًا. فهو ليس دفاعًا مشروعًا عن النفس، وإنما إبادة عرقية” نعم إنها إبادة عرقية لمن يعرف الحقيقة بدون خلفية مصلحية .لإن التاريخ يحتّم علينا الرهان على التفاؤل والمطالب الأكثر عدالة. إن كلمة عدالة ليست الكلمة الأجرأ، لكنها تحيلنا إلى مفهوم القانون. انتصرنا أخلاقيًا على مستوى الوعي الشعبي. سنبقى دائمًا معسكر السلام .