ماذا يعني سقوط بعض أحياء حلب الشرقية ..؟ لقد بدا الحدث الاجرامي لأطراف الجريمة الكبرى نصرا باهرا للأسد وحلفائه , ونهاية لأسطورة حلب الصامدة , وذهب بعضهم الى اعتباره نهاية للمناطق المحررة, وللثورة السورية, تسوغ تنظيم مهرجانات النصر على اوسع نطاق من دمشق وطهران وموسكو وبغداد وضاحية بيروت الجنوبية , كما احتفلوا يوم سحقوا القصير ..!
بيد أن الحقيقة غير ذلك وعلى نقيضه , فهؤلاء يثبتون مرة أخرى جهلهم بحقائق التاريخ , وضحايا وهم يسيطر على أبصارهم , ويؤكدون انحيازهم الى صف الوحوش المنقرضة وعالم الجريمة المنظمة والقوة الغاشمة على حساب القيم الانسانية المتحضرة .
حلب أقدم مدينة في العالم , تاريخها الموثق يعود الى أكثر من عشرة آلاف سنة , تعرضت خلاله لغزوات كثيرة شارك فيها الاسكندر المكدوني والمغول والتتار والفرس والصليبيون والاوروبيون المعاصرون , ولكن هؤلاء جميعا اندحروا على أبوابها مخلفين جثثهم وآثار همجيتهم , وبقيت هي عامرة مزدهرة غنية قوية تضاهي أعظم وأجمل مدن العالم غربا وشرقا, وبقي انسانها (الحلبي )حاملا بصمتها المميزة وهويتها وثقافتها وامكاناتها الاقتصادية وقدرتها على التحدي والمنافسة .
والحق أن ما يحدث يمثل لحظة قاتمة في تاريخ العالم , ويجسد تفوق الهمجية على الحضارة , والوحشية على الانسانية , والبطش على المنطق , إنه مجرد حالة استثنائية شاذة عن قواعد الحياة الازلية . لحظة قصيرة في نهر الزمن العام والخاص , ومجرد محنة في عمر مدينة عاشتها مرارا وتعرضت للغزو والتدمير مرات , ثم نهضت وخرجت من رماد المحرقة , وتفوقت على أعدائها بحضارتها ككثير من المدن والبلدان انهزمت عسكريا وتفوقت حضاريا على المنتصرين , والمثال الالماني المعاصر شاهد يوضح أن إرادة الانسان والبناء والابداع اقوى من همجية السلاح والاجرام .
حتى بالمعايير العسكرية , ما زالت حلب واقفة تقاوم أعداءها المتوحشين , من عصابات الاسد الهمجية الى أوباش ايران ومرتزقتها الذين لملمتهم من بلدان كثيرة لتنتقم من مدينة دحرتها قبل الف سنة .
حلب دحرت جيش النظام طوال اربع سنوات , وحطمت كبرياء الاسد , وأصبحت عاصمة الثورة وقاعدتها المركزية . وحلب طهرت ارضها من داعش بعد أن تسللت اليها حيلة , وقاومت محاولات الايرانيين منذ سنتين ونيف , وتحولت أكبر مصيدة ومقبرة لهم منذ هزيمتهم السابقة أمام جيش العراق العظيم , ولولا ذلك لما استنجدوا بالروس الذين يديرون المعركة مباشرة بواسطة جنراتهم وفقا لخيار ( غروزني ) أو الابادة الشاملة .
رغم ذلك ما زال ( داوود الحلبي ) يقاوم ( جالوت الروسي – الفارسي ) . ما زال مئات من ثوار حلب قادرين على الصمود بمواجهة أوباش العصر والانتصار … لولا ” خيانة ” العالم لحلب .
نعم إنها خيانة عالمية .. واسألوا وزير خارجية فرنسا عن أبعادها واسرارها فعنده النبأ اليقين .
باريس رمز الحضارة الثقافية والعمرانية وقيم الحرية الحية في العالم وحدها التي تحركت منذ سنتين لدرء كارثة حلب , والوحيدة التي شقت مسارا ثابتا في سياستها الخارجية لمنع تدمير حلب واسقاطها بأيدي رعاع طهران . تحركت باريس وحاولت , ولكن يدا واحدة لا يمكنها التصفيق , فالعواصم الاخرى ” قررت ” التنازل عن حلب للروس والمغول مقابل حصص ومساومات رخيصة ومقايضات غير اخلاقية ولا استراتيجية .
نكسة حلب هذه المرة لم تصنعها جبهة الاعداء , ولكن صنعتها خيانة الاخوة والاصدقاء والجيران . ولولا هؤلاء ما تمكن الغاشمون من النيل منها ابدا , لقد ناشدت وطالبت على مدى عامين .. ولكن الجميع خذلوها , وبقيت الوعود لعبا على الوقت .
قاتل الثوار بأسلحتهم البسيطة وصدورهم العارية , وبقيت ظهورهم ورؤسهم مكشوفة لحمم الطيران الروسي – السوري وراجمات الصواريخ والبراميل , ولم يبق في حلب الشرقية مستشفى واحد ولا أطباء ولا دواء ولا غذاء ولا وقود , ما يعني أن ما يجري ليس حربا ولا معركة بل جريمة ابادة سافرة , ووليمة لحم بشري مشوي بالنابالم والفوسفور . هناك قتلى بالمئات وجرحى بالآلاف , ودمار شامل وانعدام لكل اسباب البقاء على قيد الحياة .. حتى الهواء لوثوه بالغازات السامة .
حلب لم تنهزم في الصراع بل تعرضت للخيانة وطعنت في ظهرها بأيدي اشقاء وحلفاء واصدقاء , ولذلك فهؤلاء يتقاسمون اليوم المسؤولية الجنائية والاخلاقية والسياسية عن انهيار صمود حلب مثلهم مثل بقية الدول الكبرى وعلى رأسها روسيا واميركا اللتين ظلتا تتفاهمان على العموميات والتفاصيل في الملفات السورية كافة .
وعلى أي حال : هل بإمكان الاسد وبوتين وخامنئي ونصر الله الاحتفال ب ( نصر) منحط كهذا ؟
احتفالهم دليل على بربريتهم وساديتهم وولعهم بمذاق الدم , لأن ما يجرى مجزرة , لا معركة , ووليمة لحم بشري لا مواجهة مشرفة , وعليهم الخجل منها بدل الاحتفال بها .
هذا النصر لا شبيه له سوى نصر شارون على بيروت الذي توجه واحتفل به في صبرا وشاتيلا عام 1982 .
جريمة لا حرب , والعالم كله ضالع فيها.. وللأسف لا استثناء لأي شقيق عربي أو “صديق” من المسؤولية عن جريمة بهذه البشاعة .. وسكوت الجميع علامة اقرار تدينهم , وسيندم الاشقاء العرب بخاصة على مواقفهم المخزية حين لا ينفع الندم , لأن العدوان سيطالهم واحد بعد آخر .
رسالة حلب الى العالم كله موجزة : إننا نفضل ( الشهادة ) على الاستسلام حتى ولو اجتاحت الدبابات كل شبر من الارض , ولن تصبح حلب فارسية ولا شيعية كما يريد الملالي حتى ولو ابيد سكانها .
حلب ستتحمل الفاجعة وتنهض كما نهضت سابقا, وستصنع من ركامها أنصابا للشرعية الدولية , وقبورا لميثاق حقوق الانسان وميثاق الامم المتحدة ودساتير العالم الحر , وتماثيل من الجماجم للرئيس الاسود وبوتين , ولرموز ( الممانعة ) كلهم بلا استثناء .
============================================
هذا المقال منشور في العدد 351 من ( مجلة الشراع ) اللبنانية الصادر في 2 – 12 – 2016 . لذا وجب التنويه .
ما حدث لحلب لحظة قاتمة في تاريخ العالم بتفوق الهمجية على الحضارة , والوحشية على الإنسانية والبطش على المنطق , إنها حالة استثنائية شاذة عن قواعد الحياة الازلية ، ولكن حلب ( داوود الحلبي ) قاومت ( جالوت الروسي – الفارسي ) الذين جاءا لحماية طاغية الشام، ثوار حلب قادرين على الصمود والانتصار لولا خذلان العالم لهم، حلب ستتحمل الفاجعة وتنهض كما نهضت سابقا, الله يرحم المناضل والكاتب العروبي محمد خليف وأسكنه فسيح جنانه .