لم تأت الدفعة الأولى من قوائم عقوبات قيصر شاملةً ولا واسعة النطاق، بل جاءت محدودة وانتقائية في تركيزها على قطاعات دون غيرها، بحيث أنها جاءت تحمل رسائل سياسية موجهة أكثر مما تسعى إلى إيقاع تأثير اقتصادي ملموس ومباشر وجارف. وإذا كان جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، قد أعاد التأكيد خلال ندوة أقامها معهد الشرق الأوسط عبر الانترنت قبل يومين، على أنّ الولايات المتحدة لا تريد تغيير النظام بمعنى أنها لا تريد القيام بـ «عمل عسكري أميركي أو دولي» لتحقيق ذلك، بل تريد فقط أن ينخرط النظام جدياً في العملية السياسية، فإن استعراض الكيانات والأشخاص المشمولين بالحزمة الأولى، يمكن أن يكون مفيداً على طريق فهم الآلية التي تريد أن تستخدمها الولايات المتحدة بديلاً عن العمل العسكري لإنجاز أهدافها في سوريا.
كانت الخارجية الأميركية قد نشرت في 17 حزيران الجاري بياناً باسم الوزير مايك بومبيو، أعلنت فيه دخول عقوبات قيصر حيز التنفيذ، والكيانات والشخصيات المشمولة بالحزمة الأولى منها، وجاء فيه أنّ «نظام الأسد ومن يدعمونه يقفون أمام خيار بسيط اليوم، ألا وهو اتخاذ خطوات لا رجعة فيها باتجاه حل سياسي للصراع السوري يتسق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، أو مواجهة لوائح جديدة من العقوبات».
وتضمنت القائمة أسماء 15 شخصاً قامت وزارة الخارجية بتحديدها، بينما قامت وزارة الخزانة بتحديد 24 شخصاً وكياناً آخرين منخرطين في عملية إعادة الإعمار التي يشرف عليها نظام الأسد، مؤكدة في بيان مستقلّ لها في اليوم نفسه على أنّ قائمة العقوبات التي اختارتها تستهدف عملية إعادة الإعمار التي نتجت عن التهجير والتغيير الديموغرافي الذي تسبب به نظام الأسد، مفصّلة في أسباب فرض العقوبات على الشركات والأشخاص المدرجين في قائمتها.
وكان مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة قد نشر، بالتوازي مع التصريحات الرسمية، القائمة الكاملة للأشخاص والكيانات الـ39 التي أُدرجت في قائمة العقوبات الأميركية، وذلك وفق قانون قيصر والأوامر التنفيذية التي تحمل أرقام 13894 و13582 و13573. وضمّت قائمة العقوبات رئيس النظام بشار الأسد وعدداً من أفراد أسرته، مثل زوجته أسماء وأخته بشرى المقيمة في دبي، وأخوه ماهر قائد الفرقة الرابعة، ومنال الأسد (جدعان) زوجة ماهر، كما ضمّت القائمة الجديدة أفراد عائلة محمد حمشو ومن بينهم أخته سمية حمشو المقيمة في قطر، وهي والدة رجل الأعمال السوري معتز خياط المقرب من السلطات في الدوحة، والذي حظي بدعم من الإعلام القطري لجهوده في تجاوز المقاطعة التي فُرضت على قطر من السعودية والإمارات والبحرين ومصر.
وتضم القائمة خمسة أفراد من آل حمشو، من بينهم زوجة محمد حمشو رانيا الدباس، في حين تضم أربعة من آل الأسد، وهو ما يظهر استمرار عائلة حمشو في لعب دور أساسي في إدارة الاقتصاد السوري لصالح نظام الأسد وتجاوز العقوبات المفروضة عليه منذ العام 2011. بينما لم تضم القائمة الأولى أسماء أخرى لرجال اقتصاد مقربين من النظام مثل سامر فوز.
وتحظى الفرقة الرابعة بتركيز خاص في القائمة، إذ بالإضافة إلى اسم قائدها ماهر الأسد، تم إدراج الفرقة نفسها ككيان مستقل ضمن العقوبات، مع إضافة اسمي غسان بلال رئيس مكتب أمن الفرقة، واسم سامر الدانا قائد اللواء 41 مدرع التابع للفرقة. كذلك تضمنت القائمة لواء «فاطميون»، المشكّل من عناصر أفغانية جرى تجنيدها من قبل الحرس الثوري الإيراني للقتال في سوريا لصالح النظام، وهو تطور قد يكون خطوة أولى على طريق ضم الميليشيات الأجنبية إلى قوائم العقوبات. ويُظهِرُ إدراج الفرقة الرابعة وثلاثة أسماء لأشخاص قياديين فيها، بالإضافة إلى لواء فاطميون، تركيز الإدارة الأميركية على الأذرع العسكرية للنفوذ الإيراني في سوريا، مع الابتعاد حتى هذه اللحظة عن إدراج شخصيات عسكرية مقربة من موسكو.
وقد ركّزت قائمة رجال الأعمال والشركات التي تعرضت لعقوبات، وفق قانون قيصر والأوامر التنفيذية الأخرى التي صدرت في أوقات متفرقة خلال الأعوام الماضية، على الشركات ورجال الأعمال المنخرطين بشكل واضح في مشاريع إعادة الإعمار التي يقودها نظام الأسد، وعلى رأسها مشروع ماروتا سيتي المقام على أنقاض حي بساتين الرازي (بساتين المزة)، الذي تم تهجير سكانه وهدمه من أجل إقامة المشروع. وقد اعتبرت وزارة الخزانة الأميركية أنّ المشروع يهدف إلى التغيير السكاني، من خلال تهجير سكّانه من الطبقة العاملة التي انخرطت في الثورة السورية، وجلب سكان أغنياء موالين للأسد إلى هذه المنطقة الاستراتيجية جنوب غرب دمشق.
وطالت العقوبات محافظ دمشق عادل العلبي، وشركة دمشق الشام القابضة المملوكة لمحافظة دمشق، التي هي المشرف الأساسي على مشروع ماروتا سيتي. كما طالت القائمة مجموعة من الشركات المنفذة في المشروع، مثل شركة ميرزا التي يَملك رجل الأعمال محمد أنس طلس ربع أسهمها، فيما لم تتعرض شركة «طلس للصناعة والتجارة» صاحبة ماركة «توليدو» للمواد الغذائية للعقوبات، ما قد يفهم منه تجنّب الولايات المتحدة معاقبة شركات توريد المواد التموينية الأساسية. كما تعرَّضَ رجل الأعمال نذير أحمد جمال الدين للعقوبات، وهو مالك شركة «أبكس للتطوير والمشاريع ذ.م.م.» المشاركة في مشروع «بنيان» الذي يهدف لبناء عدد من مقاسم مشروع ماروتا سيتي.
وأدرجت وزارة الخزانة أربع كيانات مملوكة بشكل مباشر أو غير مباشر لابن خالة الرئيس السوري رامي مخلوف، هي «راماك للمشاريع التنموية والإنسانية» وشركة «الإعمار» و«ألتيميت للتجارة»، وأيضاً «شركة أجنحة الخاصة» التي قال بيان الخزانة إنها تشارك في شركة «روافد» التي تنفذ مشروعاً في ماروتا سيتي، والتي شملتها القائمة أيضاً. ويخضع مخلوف أصلاً لعقوبات أوروبية وأميركية سابقة.
ولم تكتفِ قائمة وزارة الخزانة الأميركية باستهداف مشروع ماروتا سيتي، فقد قامت الوزارة بإدراج كل من رجلي الأعمال نادر قلعي وخالد الزبيدي مالكا شركة «الزبيدي وقلعي ذ م م»، نتيجة استثمارهما مشروعاً سياحياً بالقرب من مطار دمشق. وقد تمّت إضافة شركات قلعي والزبيدي الأخرى مثل شركة القلعة القابضة، والقلعة محدودة المسؤولية ومقرها لبنان، وشركة آرت هاوس ومقرها النمسا، وشركة Telefocus Consultants Inc في كندا، وشركة Telefocus SAL Offshore في لبنان. بالإضافة إلى شركة Castle Investment Holding التي هي جهة مستثمرة في واحدة من شركات قلعي، وشركة Kalai Industries لأنها تعود لنادر قلعي، كما أُدرِجَ مشروع «غراند تاون» السياحي الذي يديره قلعي والزبيدي في القائمة أيضاً.
وتقوم العقوبات الأميركية، سواء كانت مفروضة وفق قانون قيصر أو وفق الأوامر التنفيذية التي يصدرها الرئيس الأميركي، بفرض عقوبات مالية على الأشخاص المذكورين ما يؤدي إلى تجميد ممتلكاتهم وأموالهم في الولايات المتحدة، وفرض غرامات كبيرة وعقوبة سجن تصل إلى 20 عاماً على أي أميركي يتعاون أو يعقد صفقات معهم، كما تقوم بحرمانهم من الحصول على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة وإلغائها إن كانت موجودة. لكنّ التأثير الأهم هو التأثير غير المباشر، إذ تقوم المصارف الدولية عادةً بتجنب التعامل مع أي شخص يتعرض لعقوبات أميركية كي لا تتعرض هي بدورها إلى عقوبات، خاصةً بعد أن تعرَّضَ بنك خلق التركي لعقوبات أميركية نتيجة تسهيل عمليات تحويل لإيرانيين موجودين على قوائم العقوبات.
ويؤدي هذا إلى حرمان رجال الأعمال هؤلاء من القدرة على إجراء صفقات كبيرة بالدولار الأميركي، ومن الاحتفاظ بحسابات بالدولار، وهي العملة الأكثر استخداماً في التجارة الدولية. أما بالنسبة للشركات الكبرى، فإنها تتجنب أي تماس مع أي شخصية أو شركة تعرضت لعقوبات، حتى لا تتعرض هي بدورها لتلك العقوبات التي ستؤدي لخسارتها أهم سوق استهلاكي في العالم، ما يعني عدم قدرة رجال الأعمال هؤلاء على القيام بأي صفقات تجارية مع الشركات العالمية، التي لن تقوم بأي عمل يؤدي لخسارتها التواجد في الولايات المتحدة.
يبدو واضحاً أنّ القائمة الأولى من عقوبات قيصر قد تجنبت القطاعات الحيوية، ومن بينها قطاع النفط، وركّزت على قطاع إعادة الإعمار الذي لن تؤدي معاقبته إلى خسائر كبيرة في السوق السوري، إذ كانت هذه المشاريع خاسرة أصلاً ومتعثرة خلال الفترة الماضية. ويبدو أنّ الهدف منها هو إرسال رسالة واضحة مفادها أنّ عملية تعويم الأسد، أو البدء بإعادة الإعمار، غير ممكنة من دون القيام بإجراءات «لا رجعة عنها» من أجل المضي قدماً في الحل السياسي، وذلك من دون التأثير بقوة على الاقتصاد السوري، وهي رسالة موجهة أولاً إلى موسكو، التي تراقب الإجراءات الأميركية الأخيرة، وتراقب الرسائل التي لم يتوقف المبعوث الخاص السفير جيمس جيفري عن إرسالها طوال الوقت خلال الفترة الماضية.
المصدر: الجمهورية نت