الوعى السياسي العربى، والقيم الإنسانية الغربية

نبيل عبد الفتاح

منذ مطلع النهضة العربية المغدورة ظل سؤال لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا الذى طرحه شكيب إرسلان، يشاغل العقل العربى للنخب المثقفة، وبعض الحكام ، قادة حركات الاستقلال الوطنى عن الاستعمار الغربى! كانت ولاتزال القيم الإنسانية والسياسية الغربية ملهمة لبعضهم في الإجابات المختلفة تاريخيا وحتي الآن ، علي الرغم من صدمة مجافاة الإدارات الغربية لهذه القيم  تجاه انتهاكات إسرائيل لها ، ودعمهم لها في الحرب ضد قطاع غزة ومجازرها البشعة ! هل يستمر هذا الإيمان بالقيم الغربية الإنسانية في اليوم التالي في ظل عدم احترام آية قيم أخلاقية تجاه المدنيين في القطاع  ؟ لابد من نظرة طائر علي تاريخية الوعي العربي بهذه القيم أولا ، وثانيا مستقبل احترامها في اليوم التالي بعد وقف الحرب عربيا ، وذلك علي النحو التالي :

أولا: تطور الوعي العربي بالقيم الانسانية الغربية

—————————————-

كانت غالب إجابات، النخب المثقفة، تبحث فى أسباب التطور الحضارى/ الثقافى، والعلمى، والاقتصادى والاجتماعى الغربى حول النموذج الأوروبى، لاسيما الفرنسى، والبريطانى، ومرجع ذلك أن البعثات الأجنبية للطلاب، تمركزت حول المؤسسات التعليمية الجامعية الفرنسية، والبريطانية. بعض الوعى السلطوى بهذا النموذج كان سباقا لدى الوالي محمد على، والخديو إسماعيل باشا، وركز كليهما علي مشروع التحديث السلطوى للقيم، وبناء المؤسسات العامة، وتكوين جهاز بيروقراطى حديث، وأيضا أحداث تغيير فى الهندسة القانونية والإدارية من خلال بعض التعديلات على الموروث القانونى، والعرفى الذى كان سائداً قبل وصوله إلى الحكم. مع إسماعيل باشا ازدادت البعثات إلى فرنسا، وقام بنقلة نوعية فى الاستعارات القانونية من المرجع الأوروبى – الإيطالي والفرنسي – من خلال الدور الذى لعبه مانورى المحامى السكندرى فى إعداد قوانين المحاكم المختلفة -28 يوليو  187-  كان بعض الوعى السلطوى بأهمية، بناء الدولة على المثال الأوروبى، وفى ذات الوقت وضع بعض التمرينات الدستورية الأولية المجسدة لبعض القيم القانونية الحداثية، أولها الأمر السلطانى فى 27 نوفمبر 1824 الذى وضع بعض من الخطوط العامة للحكم، وأسس المجلس العالي، وطرق إدارة مناقشاته، وقانون ترتيب المجلس العالى 1833، ثم قانون السياستنامة فى يوليو 1833، ثم لائحة مجلس شورى القوانين فى عهد إسماعيل فى 22 أكتوبر 1866، ثم” دستور” 1879 فى أواخر عهد إسماعيل باشا، ثم دستور 1882 فى عهد الخديو توفيق كأحد  آثار الحركة الوطنية العرابية، وبعدها أول دستور مصرى متكامل 1923، على أثر الانتفاضة الوطنية العظمى عام 1919، ثم الانقلاب الدستورى 1940 فى عهد إسماعيل صدقى باشا! والعودة لدستور 1923.

فى تونس صدر أول دستور 1861، الذى أسس لمجموعة من المبادئ الدستورية والإدارية فى عهد محمد الصادق باى (1859)، وذلك دلالة علي بعض من الوعي بالقيم القانونية الغربية ، وبدأ العمل بأحكامه فى 26 أبريل 1861، وتأسيس المجلس الأكبر المكون من 60 عضوا يتم تعيينهم لمدة 5 سنوات، وتم فرض الحماية الفرنسية على تونس 1881، وانتهت فى 1956 .

كان السعى لوضع هذه التجارب الأولية والبسيطة للدساتير، محض تمرينات وبعض من الوعي السياسي، لإستلهام القيم والقواعد الدستورية لدولة القانون على النسق الغربى، وتعبيراً عن وعى جزئي من بعض الحكام بأن الخروج من دائرة التخلف التاريخى المصرى، والتونسى، يكمن فى استلهام بعض القيم السياسية والدستورية، والقانونية الغربية. تكرس هذا الوعى مع حركة البعثات فى مصر وأيضا تونس حتي الاستقلال، ونشأة الجامعات في مصر، والصحف، وتطور المدن الكوزموبوليتانية ، وثقافتها فى القاهرة، والإسكندرية، والمنصورة، وبعض حواضر المدن، والتفاعلات بين المكونات الثقافية بين المتمصرين والأجانب والمصريين. الأهم هو تشكل نخبة مدنية من المثقفين، والجدل العام حول ضرورة الاستقلال الوطنى، والدستور معا فى إطار الحركة القومية الدستورية، وتبلور مفهوم الأمة المصرية، ومبدأ مصر للمصريين بدءاً من العرابيين حتى حركة 1919 الوطنية الكبرى، والحياة شبه الليبرالية حول المدن الكبرى والأنفتاح النسبي علي الفكر الأوروبي، مع تشكل جماعة المحامين، والقضاة، وفئة الأفندية، وحركة الأحزاب السياسية لاسيما، حزبي الوفد، والأحرار الدستوريين.

من هنا كان الوعى الدستورى والقانونى حول دولة القانون، ومفهوم الأمة، مدخلا للنخبة القانونية -والسياسية- لتبني بعض أو غالب القيم الغربية الثقافية والسياسية والأخلاقية الغربية فى مواجهة وعى سلطوى لأسرة محمد عمل على وضع عراقيل إزاء النخبة الوطنية المصريةً واحزابها السياسية، والقيود علي الحكومات المنتخبة والأنتخابات العامة. ظلت النخب الثقافية، وكبار المفكرين تدور فى إطار الثنائيات المتضادة -التقدم والتخلف، والأصالة والمعاصرة، الإسلام والحداثة -، فى مناورات مع التراث الديني والتأويلى التاريخى حول نظام الشريعة الإسلامية، وانماط التدين الوضعي السائدة في المجتمع لاسيما في الأرياف.

فى ظل الحكم الاستعمارى البريطانى، ظهرت نخبة الفكر النقلي المضاد للقيم الإنسانية والسياسية الغربية مع ظهور الجمعية الشرعية على 1913، وأنصار السنة 1926، ثم جماعة الإخوان المسلمين – نهاية عام 1927 /1928 – فى مواجهة النزعات التغريبية، وتأكيد علي الهوية الإسلامية للأمة المصرية بدعم من بريطانيا. هذه الاتجاهات السلفية والأخوان المسلمين، كانت ترفض النموذج شبه الليبرالى السياسى والثقافى والاجتماعى، والثقافة والقيم الغربية، ولا تزال إلى الآن، علي الرغم بعض من تطوراتها التاريخية والإيديولوجية السياسية، ومناوراتها، وتعاونها مع السلطة بين الحين والآخر، والمصادمات العديدة معها.

فى ظل نظام يوليو 1952، حدثت بعض التغيرات حول القيم السياسية الغربية، لكن ظلت فوائض المرحلة شبه الليبرالية حول القيم الإنسانية والسياسية والقانونية ظلت مستمرة، حتى مع بعض التوجهات العروبية الشعبوية حول الاشتراكية العربية، ثم التحول إلى نمط من السلطوية الأمنية، ثم مع التحول إلى نموذج الانفتاح الاقتصادى، وسياسة إعادة التكيف، والإصلاح الاقتصادى، والنيوليبرالية الاقتصادية، وإلى الآن. ظل النموذج الغربى، وقيمه السياسية والأخلاقية ومفاهيم الحرية، والمساواة، والعدالة، والأخوة الإنسانية مسيطراً رغم الضعف الشديد، وهشاشة المعارضات السياسية، التى تفتقر إلى قواعد اجتماعية، وروئ سياسية متجددة ذات صلة بالواقع الموضوعى، والعالم المتغير.

ثانيا : الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة ، وإنتهاك الأطر الأخلاقية الغربية

——————————————————————————

فى ظل صدمة طوفان الأقصى، وعملية السيوف الحديدية الإسرائيلية، وانهيار التزام الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وايطاليا، بالقيم الغربية، وانتهاك إسرائيل الشامل لها، من خلال القتل للمدنيين من الأطفال والنساء، وكبار السن، والحصار والعقاب الجماعى، ، وضرب المستشفيات وافراغ بعضها من المرضي ، وشبه المجاعة، ونقص الغذاء والدواء، والماء. والتهجير القسرى، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقى، ومخاطر محدقة حول انتشار الأوبئة والأمراض المعدية ، وموت المصابين بلاًعلاج ، او عمليات جراحية ..الخ  ، وخروج إسرائيل السافر على قوانين الحرب، والدولى الإنسانى ، والدولى العام. بدأ الشك يسود بعض من القطاعات الاجتماعية في المنطقة العربية حول مدي جدية واخلاقيات هذه القيم ومحمولاتها ؟ وخاصة خارج المجتمعات الغربية وإزاء الإنسان غير الغربي ؟! . سوف تحاول التيارات الإسلاموية المتطرفة توظيف ذلك، وإعادة خطابها القدحي ضد هذه القيم الغربية وسط غالب المواطنين والقطاعات الشعبية الواسعة فى خطابها التقليدى، المعمم حول القيم الإنسانية الغربية، فى سياستها الدينية أيا كانت نتائج الحرب.

أن إشاعة خطاب التطرف المناهض للقيم الإنسانية يبدو مرجحاً، ومعه بعض التيارات الأقلوية الحزبية الأخرى. ان إمعان النظر فى هذه النظرات السياسية الدينية، وغيرها، تشير إلى أنها محض تعميمات بسيطة، وسطحية، لأن الغرب ليس واحداً، إزاء السقوط الأخلاقى لإسرائيل، والإدارات الأمريكية والبريطانية، والألمانية، والفرنسية والإيطالية، وخاصة من نمط السياسيين الذي تشكل ما بعد الحرب الباردة، وهشاشة خبراتهم السياسية ، ورؤاهم إزاء المشاكل الدولية، وتجاه الاتجاهات الشعبوية، واليمينية، والمتطرفة، وأيضا لشيوع سياسة ما بعد الحقيقة سياسياً، وإعلامياً، وتأثيرها على بعضهم ! وأيضا الأجهزة الإعلامية التقليدية . هناك أيضا قادة سياسيين ودول رفضت سياسة الإبادة الجماعية، وغيرها من جرائم الحرب والقانون الدولي الإنساني مثل إسبانيا، وبلجيكا، وأيضا أيرلندا.

من ناحية أخرى، تشكل التظاهرات الكبرى في عالمنا، تعبيرا عن رفض بعض القطاعات الاجتماعية والجمعيات ، لسياسة الإبادة، والمجازر الإسرائيلية، والحصار والعقاب الجماعى للمدنيين، وهو ما يبدو فى مظاهرات بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا، وكندا، وبلجيكا، وأسبانيا والدانمارك، وبولندا، واسطنبول، والمغرب ، والأردن..الخ.

أن رفض بعض الأجيال الجديدة للسياسة الإسرائيلية العدوانية، هو تعبير هام عن الأنتصار للقيم الإنسانية ، ورفض انتهاكاتها الوحشية. لا شك أن الفضاءات الرقمية لوسائل الاتصال الاجتماعى، أدت إلى انتصار هذه القيم الإنسانية والقانونية والحقوقية الدولية، لدى بعض الشباب وكبار السن فى المجتمعات الغربية . من هنا يبدو خطاب جحد القيم الإنسانية، والثقافية الغربية من قبل بعض المتطرفين من الجماعات الدينية، وبعض المثقفين والإعلاميين البسطاء والسطحيين لا يستند إلى الواقع الموضوعى، ويشكل خلطاً بين السياسات الرسمية للادارات السياسية فى أمريكا، وبعض دول المجموعة الأوروبية، وبريطانيا! وبين بعض الجماعات داخل المجتمعات المدنية ، وغيرهم في هذه البلدان التي ترفض مواقف قادة بلدانهم الرسميين وحكوماتهم !

لا شك أن هذه الاتجاهات الأنسانوية التى ترفع القيم الإنسانية، والرافضة لانتهاكات إسرائيل السافرة ، ووحشيتها إزاء المدنيين سوف تؤثر فى السنوات والعقود القادمة على العمليات الانتخابية في بعض هذه الدول الكبرى ، وأيضا على النزعة الشعبوية اليمينية، وأيضا على أسئلة ما بعد الحرب الوجودية داخل المجتمع ، والنظام السياسى الإسرائيلى، والأساطير التوراتية لليمين الدينى المتطرف، واليمين عموماً، على الرغم من احتمالات استمراريته، وتأثيره ما بعد صدمة طوفان الأقصى، والمرجح أيضا طرح أسئلة عديدة على قادة حماس، وقواعدها الاجتماعية، وربما على أيديولوجيتها السياسية الإسلاموية ، بعد ان تضع الحرب أوزارهاد! حول مدي دقة حساباتها اوجدواها وأهدافها ، وعلي حياة المدنيين والقتلي والجرحي ، وتدمير مدن ومخيمات القطاع !

لابد من بناء الجسور والحوار مع دعاة الحرية فى عالمنا فى الغرب المتعدد، وخارجه فى جنوب العالم لدعم قضايانا وعلى رأسها المسألة الفلسطينية التى عادت مجدداً إلى قائمة أعمال الإقليم، وبعض دول العالم الكبرى.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سؤال لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا ؟ ولم تواكب النهضة العربية المغدورة الركب العالمي ؟ بالرغم من بعض المحاولات من التأثر بالوعي السياسي الغربي واستلهام القيم والقواعد الدستورية لدولة القانون على النسق الغربي، لذا يجب بناء الجسور والحوار مع دعاة الحرية في عالمنا بالغرب المتعدد وخارجه في جنوب العالم لدعم قضايانا وعلى رأسها المسألة الفلسطينية ، لأن رفض الأجيال الجديدة للسياسة الإSرائيلية العدوانية، هو تعبير هام عن الانتصار للقيم الإنسانية .

زر الذهاب إلى الأعلى