غرق واشنطن الوشيك في مستنقع الشرق الأوسط

جينيفر كافانا  فريدريك ويري

حرب غزة والتوسع الأميركي المفرط والحجة الداعية إلى تقليص الوجود العسكري أبرز المظاهر. أدت تداعيات هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وهو أسفر عن مقتل ما يقدر بـ1200 شخص، إلى ظهور ما يمكن اعتباره التحدي الأشد خطورة لاستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ الانتفاضات والحروب الأهلية التي هزت العالم العربي ابتداء من عام 2011.

وفي المقابل، أفضى الهجوم على قطاع غزة والخسائر الفادحة في الأرواح التي نجمت عنه، بعد أن لقي أكثر من 16 ألف فلسطيني حتفهم جرّاءه، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، بدوره إلى انتشار مشاعر معادية لأميركا على نطاق واسع في أنحاء المنطقة ودعا وكلاء إيران إلى شن هجمات على عسكريين أميركيين في العراق وسوريا. وعليه، فالطريقة التي سيتعامل بها الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته مع أفعال إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، إلى جانب التداعيات الجيوسياسية الأوسع للحرب، ترتب آثاراً بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي، وعلى قدرة واشنطن على مواجهة الخصوم وردعهم في الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى.

وتتجلى خطورة الوضع في التدفق السريع لمزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة، في أثناء الشهر الماضي، بما في ذلك حاملات الطائرات، والطائرات المقاتلة، وأكثر من 1000 جندي، وتزويد الشركاء العرب بأنظمة دفاع جوي إضافية. والهدف من هذه التحركات هو إظهار عزم الولايات المتحدة على ردع إيران عن السعي إلى تصعيد الأزمة في إسرائيل، من طريق استخدام شبكتها من الوكلاء، مثل “حزب الله”، في شنّ هجمات على إسرائيل تنطلق من لبنان وسوريا وأماكن أخرى. ولكن واشنطن قد تسهم من خلال توسيع وجودها العسكري في الشرق الأوسط، في تفاقم التوترات الإقليمية، وتفاقم الأخطار والأكلاف المترتبة على إجراء حسابات خاطئة، وإثارة، عن غير قصد، الصراع الذي تسعى جاهدة في تجنبه.

وقد يؤدي نقل واشنطن المعدات العسكرية والجنود إلى توريط الولايات المتحدة في التزامات أمنية مفتوحة تجاه منطقة كانت تحاول، إلى وقت قريب، إخراج نفسها منها. ومع انتهاء القوات الأميركية من الانسحاب من أفغانستان، وطي العمليات القتالية في العراق في عام 2021، أثبت نهج الولايات المتحدة المعتاد، المتمثل في “الأمن أولاً” في الشرق الأوسط، أنه باهظ التكلفة المالية والبشرية، ومدمر للمنطقة. وأدى هذا النهج إلى سنوات من الحرب، والتمرد، والخراب الاقتصادي. وتوسّع المرابطة الأميركية من جديد، وتعاظم مشاركة الولايات المتحدة العسكرية في الشرق الأوسط إلى ما بعد نهاية الأزمة الحالية، من شأنه أن يؤدي إلى نقاط ضعف وفجوات خطيرة في أماكن أخرى على المدى الطويل، وبخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي حال هذا السيناريو، قد تعود إدارة بايدن عن إجراءات أخيرة كثيرة، وتوجه اهتمامها نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل مواجهة الصين.

ونظراً إلى هذه الأخطار، ثمة حاجة ملحة إلى تصحيح مسار سياسة واشنطن في الشرق الأوسط. وكان هذا التصحيح ضرورياً بالفعل، قبل السابع من أكتوبر، وازداد إلحاحاً بعده. وعلى رغم ذلك، لم تلمّح إدارة بايدن إلى إجراء تعديلات قريبة أو بعيدة المدى تعالج إخفاقات الاستراتيجية الحالية وتتجنّب أخطارها. وعوض ذلك، التزمت من جديد بنهج أمني شديد يقوم على توسيع عمليات انتشار عسكرية أميركية أكثر من أي وقت مضى، وعلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية ولتكتل أمني جديد بقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

وعلى رغم أن نتائج الحرب الإسرائيلية في غزة لا تزال غير واضحة، ليس من السابق لأوانه رسم الخطوط العريضة لسياسة أميركية أكثر استدامة في الشرق الأوسط. والأهم من ذلك، على واشنطن، بمجرد أن تبدأ الأزمة الحالية في الانحسار، أن تسحب القوات التي أعادت إرسالها على عجل إلى الشرق الأوسط، وأن تذهب إلى أبعد من ذلك، فتقلّص حجم الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وتعيد تنظيمه تماماً.

وفي الوقت نفسه، على واشنطن الاستثمار في بناء قدرات شركائها الإقليميين، وتمكينهم حتى يتمكنوا من العمل معاً بشكل أكثر فعالية في سبيل الحفاظ على الاستقرار وإدارة التحديات الأمنية بدعم أقل من الولايات المتحدة. ولا شيء غير هذا النهج الثنائي يستطيع حمل الولايات المتحدة على اتباع سياسة متوازنة في الشرق الأوسط تتجنب الإفراط في التوسع، وتبقى قادرة في الوقت نفسه على طمأنة الشركاء، وتجنّب وقوع كوارث مستقبلية.

من دون أي قيد أو شرط

كانت استجابة الولايات المتحدة للأزمة الحالية سريعة وشاملة. ففي أعقاب هجمات “حماس” مباشرةً، أمر بايدن مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات، تابعتين للقوات البحرية، وعديد الواحدة منهما من 7500 فرد تقريباً، بالتوجه إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. وأرسل إلى المنطقة غواصة ذات قدرة نووية من طراز أوهايو، وطائرات مقاتلة، وطائرات الدعم الجوي القريب مثل أف- 16، و أف- 15، وأف- 35، و إي- 10، وأكثر من 1200 جندي أميركي إضافي، غير المرابطين بالفعل في أنحاء الشرق الأوسط، والبالغ عددهم 45 ألف جندي تقريباً. وإلى ذلك، أرسلت الولايات المتحدة كتائب دفاع جوي من طراز “باتريوت” إلى شركائها الإقليميين القدامى، بما في ذلك العراق والأردن والكويت والسعودية، ونشرت نظاماً دفاعياً واحداً على الأقل من طراز “ثاد”، وهو نظام مضاد للأهداف التي تحلق على ارتفاعٍ عالٍ، في المنطقة. وهذه الزيادة الملحوظة في القوات الأميركية تخللها نشر بعض أنظمة أسلحة للمرة الأولى في الشرق الأوسط منذ غزو الولايات المتحدة أفغانستان عام 2001.

ويقترن النشر الواسع النطاق للقوات والأصول الأميركية بإمدادات مساعدات عسكرية إلى إسرائيل، إلى ما يقرب من 4 مليارات دولار هبة سنوية من الولايات المتحدة. (قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات عسكرية أكثر من أي دولة أخرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وبلغت أكثر من 124 مليار دولار، منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948). وبعد السابع من أكتوبر، قدم بايدن طلباً إلى الكونغرس للحصول على حزمة أسلحة طارئة بقيمة 14.3 مليار دولار لإسرائيل، وبقي الطلب قيد البت، بسبب خلل سياسي وإجرائي وليس جراء ضعف التأييد لإسرائيل.

وعلى رغم أن بايدن معروف بميله إلى اتخاذ قرارات مدروسة وبطيئة، في بعض الأحيان، تلفت طبيعة الاستجابة السريعة والحاسمة هذه المرة الانتباه، وتناقض النهج التدريجي الذي اعتُمد في تقديم المساعدة العسكرية إلى أوكرانيا، في أعقاب الغزو الروسي، خصوصاً في ضوء التهديد العسكري الأضعف الذي تمثله إيران ووكلاؤها، مقارنةً بالتهديد الروسي. وخلافاً لشفافية المساعدات إلى أوكرانيا، بقيت عمليات نقل الأسلحة غير المشروطة إلى إسرائيل طي الكتمان، ما أثار القلق في الكونغرس، وأدى إلى استقالة مسؤول في وزارة الخارجية يدعى جوش بول، أصر في بيان علني على أن حجم دعم واشنطن لإسرائيل “لا يخدم المصلحة الأميركية على المدى البعيد”.

التمعن في التفكير

وأكّدت إدارة بايدن مجدداً التزامها بإرسال مزيد من الأسلحة والقوات الأميركية إلى الشرق الأوسط. ولكن لا يزال تقويم صناع السياسة الأميركيون تأثيرات الالتزام اللاحقة وغير المباشرة المترتبة على تعزيز الدور الأمني للولايات المتحدة في المنطقة غير واضح، شأنه شأن تقويم نظرة الحلفاء، على حد سواء، إلى ذلك. وعلى وجه التحديد، ثمة ثلاثة أخطار على إدارة بايدن الاعتراف بها، ومعالجتها، وهي التصعيد، ورد الفعل العكسي، والتوسع المفرط.

أولاً، على رغم أن البنتاغون جادل بأن الهدف من عمليات الانتشار، منذ السابع من أكتوبر، هو منع احتمال نشوب حرب أوسع نطاقاً، فمن المرجح، على القدر نفسه، أن تؤدي زيادة القوات الأميركية، في نهاية المطاف، إلى التسبب بدوامة تصعيد عوضاً من منعها. فمنذ السابع من أكتوبر، تصاعدت هجمات وكلاء إيران على العسكريين الأميركيين في العراق وسوريا، على رغم تعزيز الولايات المتحدة وجودها الإقليمي، وشنها ضربات انتقامية على بنية الميليشيات التحتية في سوريا. ويبدو أن القوات الإضافية، أو جولات الضربات الجوية، بما في ذلك بعض الغارات التي قيل إنها قتلت ميليشياويين، لم يكن لها أثر يذكر في ردع خصوم الولايات المتحدة، لا بل جعلتهم أكثر جرأة. وعلى سبيل المثال، أسقط أخيراً المتمردون الحوثيون، أنصار إيران في اليمن، طائرة أميركية من غير طيار فوق البحر الأحمر، وشنوا ضربات تستهدف إسرائيل منذ بداية الصراع الحالي.

وثمة احتمال أن يكون الوجود العسكري الأميركي الكثيف أدى إلى ثني إيران ووكلائها عن الانخراط في أعمال استفزازية أكبر. والاحتمال الأرجح هو أن إيران و”حزب الله” لا يرغبان في التصعيد، وكلاهما يدرك الخسائر التي قد تنجم عن اندلاع حرب إقليمية. ولا يستحيل أن تتغير هذه الحسابات، على الخصوص إذا استمرت الخسائر في صفوف الفلسطينيين في الازدياد، أو اختارت إسرائيل احتلال غزة مدة طويلة. وفي وضع تفتقر فيه الخطوط الحمراء التي وضعها كل جانب إلى الوضوح، قد يزيد الوجود العسكري الأميركي المتعاظم في المنطقة أخطار سوء التقدير والاستفزاز. وهو يمنح المتشددين في طهران، وداخل الجماعات الملحقة بإيران، الذين يرون واشنطن شريكاً متآمراً في الحملة العسكرية الإسرائيلية، مسوّغاً لمواصلة تعزيزاتهم العسكرية والتهديد بالتصعيد.

ثانياً، قد لا يكون الخصوم من يواجهون وحدهم تحديات غير متوقعة جراء التدفق العسكري الأميركي الجديد. فقد يؤدي الوجود المتعاظم إلى تقويض العلاقات بالحلفاء والشركاء الرئيسيين لأميركا، مثل مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة وغيرها، زمناً طويلاً، إذا كان جوهر تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو التزامها الثابت بتأمين الضمانات الأمنية والمساعدة العسكرية لإسرائيل. ولكن الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، وموجات العداء لأميركا التي تجتاح العالم العربي، والخلاف الفعلي بين الحكومات العربية وواشنطن على إكمال إسرائيل حملتها العسكرية، عوامل تهدد بزعزعة الأساس الذي يقوم عليه التعاون الأمني الأميركي- العربي، على الخصوص بعدما أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أشد نفوراً وأكثر إثارة للجدل.

لذا، فقد ترغب الدول العربية، على أضعف تقدير، في اعتماد نهج أكثر خفاءً في أي تعاون أمني في المستقبل، وقد تؤدي الحاجة إلى حماية القوات الأميركية العاملة في البلدان الشريكة إلى فرض قيود أقوى على حرية عمل واشنطن. وفي الأحوال الاستثنائية الحَرجة، قد تعمد الأنظمة الشريكة إلى تعليق بعض الأنشطة، مثل التدريبات المشتركة، أو قد توقف بعض المشتريات الدفاعية. بينما يستبعد أن تقطع دولة من الدول علاقاتها بالولايات المتحدة، يبطل الصراع، بلا شك، عدداً من افتراضات إدارة بايدن في شأن شركائها، ويعقّد العلاقات التي تعوّل الولايات المتحدة على استخدامها في المنطقة، وتتيح استخدام القواعد والمرافق العسكرية في تلك الدول، وحماية المصالح الاقتصادية الأميركية. وعلى رغم أن المنافسة العريضة بين القوى العظمى، الصين وروسيا، لا يفترض فيها أن تكون المحرك الرئيسي لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، فمن المحتمل أن يلجأ الشركاء الإقليميون إلى بكين أو موسكو، إذا وجدوا التعاون مع واشنطن متعباً.

وأخيراً، قد يؤذن إحياء الموقف الأميركي الذي كان معتَمَداً سابقاً في المنطقة، بعودة الولايات المتحدة إلى العادات السيئة، أي تجديد استراتيجيتها المعتادة المتمثلة في التعويل على الانتشار العسكري الأميركي الكبير ونقل الأسلحة لضمان أمن المنطقة من التهديدات الخارجية. وهذا النهج لم يبسط الأمان على المنطقة. وعوض ذلك، أدت عقود من التدخل العسكري الأميركي إلى تفاقم المنافسات الإقليمية، وأذكى سباق التسلح تفاقم الصراعات المحلية، ناهيك عن التداعيات الكارثية المترتبة على الغزو الأميركي للعراق في عام 2003: مئات الآلاف من القتلى المدنيين الذين خلفهم، وظهور تنظيم “داعش”، ووصم سمعة الولايات المتحدة عالمياً. وعلاوةً على ذلك، شجعت سنوات من المساعدة الأمنية الأميركية غير المشروطة لشركائها في الشرق الأوسط هذه الأنظمة، في كثير من الأحيان، على التصرف على نحو قوّض الاستقرار الإقليمي، وحقوق الإنسان، تقويضاً حاداً.

وإذا نظرنا إلى التأثيرات الأوسع نطاقاً، وهي لا تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، بدا أن اضطرار واشنطن إلى نشر قوات، ونقل أسلحة ومعدات إلى الشرق الأوسط، يزيد أخطار التوسع المفرط، على قدر لا يسع واشنطن معه أن تفي بالتزاماتها، وردع الخصوم في أماكن أخرى، لا سيما في دائرة المحيطين الهندي والهادئ، حيث على الولايات المتحدة التعامل مع الصين التي تزداد إقداماً يوماً بعد يوم. والحق أن كثيراً من أنظمة الأسلحة التي يتعاظم الطلب عليها من شركاء واشنطن في الشرق الأوسط، على غرار صواريخ “هاربون”، وأنظمة الدفاع الجوي من طراز “باتريوت”، تمس الحاجة إليها في تايوان، من أجل تعزيز دفاعاتها لصد العدوان الصيني. وعلى المثال نفسه يرجّح في حال اندلاع صراع في دائرة المحيطين الهندي والهادئ، أن تحتاج الولايات المتحدة إلى عدد من الأصول البحرية والجوية الأميركية المنتشرة الآن في الشرق الأوسط. ومع الوقت، قد تؤدي عمليات الانتشار العسكري الموسعة في الشرق الأوسط إلى إرهاق هذه الأنظمة، وإخراجها من الاستعمال حين انفجار أزمة في آسيا، وتكبيد الولايات المتحدة نقصاً في الموارد. وتتفاقم التنازلات والتضحيات هذه في حالين. أولاً، في حال اتساع هذا الصراع بين إسرائيل و”حماس” ليشمل إيران، فتقدم الولايات المتحدة على تزويد إسرائيل بصواريخ هجومية بعيدة المدى، لا تتوافر منها إلا كمية محدودة حالياً. وثانياً، في حال بقاء أعداد أكبر من القوات والأنظمة الأميركية في ساحة الحرب على المدى البعيد.

التقليص وإعادة التوجيه

ولعل اضطراب الأوضاع الذي تسبب فيه هجوم “حماس” فرصة لتطوير نهج أميركي أكثر استدامة، وأقل مخاطرة تجاه الشرق الأوسط. فالأزمة الحالية تُظهر أن احتفاظ واشنطن بعشرات الآلاف من الجنود في الشرق الأوسط، يعزز خطر جر الولايات المتحدة إلى صراع إقليمي طويل ومكلف، على رغم عدم تعرض مصالحها الأساسية في المنطقة للامتحان. ومن أجل تجنب هذه النتيجة، تحتاج الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها العسكري، وإعادة تنظيمه هناك. ومن غير التقليص هذا، لن تتمكّن الولايات المتحدة من التحرر من إرث نهجها الفاشل الذي يقدّم الأمن على الاعتبارات الأخرى. وخير مثال على ذلك هو الوحدات الصغيرة من القوات الأميركية التي لا تزال في العراق وسوريا. فالهدف العسكري المعلَن لهذه الوحدات، وهو إلحاق هزيمة دائمة بتنظيم “داعش”، وهذا هدف مشروع وغير قابل للبلوغ على الأغلب. وإبقاؤها حيث هي إلى أجل غير مسمى يقتضي نشراً مستمراً لمزيد من الجنود، ولأنظمة أكثر تقدماً من أجل حمايتهم، ما يستنزف الموارد العسكرية الأميركية من غير فائدة تذكر.

ويمكن للولايات المتحدة أن تقلّص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، تدريجاً، ومن غير ترك الشركاء الإقليميين في خوف من التخلي عنهم. ومع ذلك، ربما يجب انتظار أن تهدأ الصراعات المشتعلة في المنطقة قبل التقليص. فيجب أولاً، إعادة نشر القوات، والنظم الإضافية التي أُرسلت إلى المنطقة منذ السابع من أكتوبر، باعتبارها خطوة يَسهل الانطلاق منها. ويجب، ثانياً، سحب معظم أو كامل القوات الأميركية من العراق وسوريا. فعمليات الانتشار الأميركية في هذين الموقعين تغذي التصعيد الإقليمي لإيران ووكلائها عوض ردعه. وإلى ذلك، أشار القادة العسكريون الأميركيون إلى أن شركاء الولايات المتحدة في العراق وسوريا يقودون، الآن، عمليات فعالة لمكافحة “داعش” بمفردهم، وهذا قرينة على تقلّص الحاجة لاستمرار الوجود البري الأميركي في هذه المواقع، وانخفاض خطر عودة “داعش” في غياب القوات الأميركية.

وأخيراً، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تبدأ في زمّ انتشارها في أرجاء المنطقة، ودمج القوات الأميركية وحصرها في عدد أقل من المواقع. فعلى سبيل المثال، في وسع واشنطن التركيز على القواعد في البحرين والأردن والإمارات العربية المتحدة، وزيادة الاستثمار في مخزون المعدات، والقدرات اللوجستية الاحتياطية، القائمة، التي قد تمكّن الجيش الأميركي من تكثيف العمليات، إذا لزم الأمر. ويرى بعض المراقبين أن من شأن هذا التعزيز أن يشجع خصوم الولايات المتحدة، على الخصوص إيران، على توسيع عملياتهم الإقليمية. ولكن، على رغم الأخطار الحقيقية التي تتسبب إيران فيها، لا تبرر قدراتها العسكرية المحدودة الوجود العسكري الأميركي الكثيف الحالي في الشرق الأوسط. لذا، فإن نشر عدد أقل من القوات الأميركية في المواقع الحيوية، إلى جانب قدرة واشنطن المؤكدة على تعزيز وجودها العسكري بسرعة في المنطقة (بحسب ما تبيّن كذلك بعد السابع من أكتوبر)، يفي بإدارة الاستفزازات الإيرانية.

ويقلل هذا التخفيض من خطر التوسع العسكري المفرط، ويتيح لواشنطن قدرة أكبر على تطوير نهج اقتصادي وسياسي أكثر شمولاً تجاه المنطقة. وفي حال ضَبْط التورط العسكري الأميركي، وسع الولايات المتحدة أن تحظى بمزيد من الوقت والموارد في سبيل إعادة توجيه سياساتها في الشرق الأوسط نحو الدبلوماسية، والمشاركة المجتمعية، والحوكمة الاقتصادية. وهي أدوات تسهم في التصدي للتحديات الناشئة، والتي يواجهها الناس في المنطقة بالفعل، بما في ذلك تغير المناخ، والانتقال نحو الطاقة النظيفة.

ويمكن لواشنطن التعويض عن وجودها المتضائل، وتحصين المنطقة من النفوذ الإيراني، من خلال بذل مزيد من الجهد في سبيل تقليل اعتماد الحلفاء والشركاء الإقليميين على الولايات المتحدة. وحري بها (واشنطن) تمكين الجهات الإقليمية الفاعلة، مثل الأردن، والكويت، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة، وشركاء الولايات المتحدة الآخرين، من إنشاء تحالفات تعالج الحاجات الأمنية الإقليمية ذات الأولوية القصوى، وإدارة التوترات الإقليمية بمشاركة محدودة من الولايات المتحدة. وهذا النهج لن يؤدي إلى تقليص العبء الواقع على كاهل القوات الأميركية فحسب، بل يخفف أيضاً من الأخطار الأمنية الأوسع نطاقاً، والناجمة عن رد الفعل العنيف على الوجود العسكري الأميركي، ويرسي أساساً أمتن لعلاقة الولايات المتحدة بهذه الدول.

وبناءً على ذلك، على واشنطن التخلي عن عملية نقل الأسلحة المكلفة، وعن بذل الجهود في بناء قدرة الدول على التعاون بفاعلية مع القوات الأميركية وحري بها التركيز على الأنشطة التي تساعد الشركاء الإقليميين على العمل المستقل، واستخدام الترسانات الكبيرة المتوافرة لديهم، والقيام بذلك جنباً إلى جنب جيرانهم. وفي ما مضى، فشلت المساعي الأميركية الرامية إلى عقد تحالفات أمنية إقليمية في الشرق الأوسط بسبب المنافسات الأيديولوجية والشخصية بين الدول العربية. والسبب الآخر في هذا الفشل هو وجهات النظر المتباينة في أفضل السبل من أجل التعامل مع التهديد الذي تمثله إيران ووكلاؤها. وعلى رغم بعض التخفيف من حدة هذه التوترات، فمن المرجح أن تستمر. والحق أنه في مستطاع الولايات المتحدة تجنُّبها من طريق تحفيز تعاون أضيق، وأكثر تحديداً، في القضايا ذات الأولوية القصوى التي تتناغم فيها المصالح، مثل الأمن البحري، والدفاع الجوي. وعلى عاتق واشنطن التفكير في تشجيع إقامة ما يسمى بالتحالفات المصغرة، أي تحالف ثلاث إلى خمس دول ذات أهداف محدودة. وقد استخدمت دول جنوب شرقي آسيا هذا الأسلوب بنجاح في إدارة قضايا الأمن الإقليمي بمفردها، مثل القرصنة والصيد غير القانوني، من دون الاعتماد على الولايات المتحدة أو الصين.

وهذه التغييرات قد تُحدث تحوّلاً كبيراً في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فتبتعد فيه من نهجها الأمني المتشدد، وتتجه نحو نهج أكثر توازناً يخفف أخطار التصعيد، أو التوسع المفرط، ويدعو القوى الإقليمية إلى أخذ زمام المبادرة. وهذا النهج الجديد ليس ضمانة في مواجهة الأزمات الأمنية الإقليمية في المستقبل، ولكنه يحمي مرونة واشنطن العسكرية والدبلوماسية، ويقلل من احتمال تورُّط واشنطن في حرب أخرى في الشرق الأوسط، ويحافظ على قدرة عسكرية أكبر لأولويات الأمن القومي الأخرى. ومع ذلك، إذا فشلت واشنطن في تغيير مسارها، قد ينتهي بها المطاف إلى السير في طريق مألوف للغاية.

*جينيفر كافانا هي زميلة شرف في برنامج فن حكم الدولة الأميركية “أميريكان ستايت كرافت” في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي.

**    فريدريك ويري زميل شرف في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي.

مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين الثاني) 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل ستغير الولايات المتحدة استراتيجيتها بالمنطقة من تقليص الوجود العسكري الى الانخراط بكل قوة لدرجة الغرق بوحل المنطقة بعد طوفان الأقصى ودعمها اللامحدود للكيان الصهيوني بحربها المتوحشة على فلسطين/غزة ، المؤشرات تدل على ذلك كأننا بعد 11 أيلول/سبتمبر وغزو أفغانستان، وذلك لفشلها بضمان حلف إقليمي عربي ينفذ أجندتها .

زر الذهاب إلى الأعلى