بعد أن انتهى السوريون عموماً – أو كادوا- من صبّ جام غضبهم على السيدين سايكس وبيكو ومشروعهما لهندسة دول المشرق الجديدة أثناء الحرب الكونية الأولى وفي أعقابها، تمركزت النقمة شمالاً وشرقاً لدى الكرد، باعتبارهم الضحية الأكبر للاتفاق المذكور، الذي قام بتوزيعهم بين دولٍ أربع، في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
ربّما- ولعلّ وعسى- يمكن لهؤلاء أن يأخذوا العبرة من السوريين الآخرين؛ الذين أضاعوا الكثير من الوقت رفضاً لكيانهم الذي نشأ، وتعلّقاً بأحلام وأوهام الدولة العربية الكبرى، فخانتهم القناعة بحالهم، ولم يركّزوا جهودهم على تطوير دولتهم الناشئة، التي غدا من السهل فيها على أي ضابط محدودٍ وطامحٍ، أن يرى في نفسه مشروع سلطان، بقلبِ مغامر وعقل زعيم عصابة، مع مكتب استشارات قادر على أن يوائم بين السياسات الدولية والإقليمية، ومصلحته.
كان لحرب أكتوبر/ تشرين الأول بتعديلها لنتائج حرب يونيو/حزيران، وضبط مفاعيلها على مصائر النظام السوري، تأثير مهمٌ علينا، جعلنا نرحم المرحومين سايكس وبيكو، قليلاً من غضبنا منذ السبعينيات، وبشكل أوضح في التسعينيات، ونهائياً في العقد الحاسم الأخير. وابتدأنا بالاقتناع أن» الوطن» هو ذلك الذي نحن فيه، من دون أن نقول إننا» أمة» غير الأمة العربية التي تهرّأت على ألسنتنا وعلى الأرض، ونكتفي بتعبير «الشعب» الذي تعب اختصاصيّو الاجتماع السياسي العرب، حتى فرضوه ضمن تعبير «الشعوب العربية»، مع فرضهم لمفهوم «العالم العربي» بديلاً عن «الوطن العربي». فتحركاتنا القديمة غالباً ما كانت خارج العلم والمنطق والمصلحة، وتفسح الطريق بحماسة للشعارات وحدها، وللاستبداد المتمدّد من بعدها.
سبق أن تعامل السوريون مع صفة الوطنية، وأطلقوها على كل من يَجهر بالعداء للاستعمار والصهيونية، وينادي بالتحرر من الإمبريالية وتحرير فلسطين، بل يدعو إلى الوحدة العربية، خصوصاً إذا فعل ذلك من دون تحفظ ولا دراسة ولا تمهيد: «بدنا الوحدة باكر باكر.. مع هالأسمر عبد الناصر»، «لا دراسة ولا تدريس.. حتى يرجع الرئيس»، بلهجتنا المتنوعة بالطبع. ابتدأت الوطنية السورية في الواقع بالتشكّل في زمن الانتداب الفرنسي، وازدهرت في الخمسينيات مع الديمقراطية القصيرة العمر(أربع سنوات)؛ لكنها لم تتجذّر لدى السوريين إلا بفعل الاستبداد الأسدي الطويل، الذي وحّد السوريين ضمن «مظلومية» شاملة، ثم بفعل ثورتهم في ربيع 2011، حين التمعت أعينهم على ذكر اسم كلّ مدينة أو حيٍّ أو قرية تسهم في الحراك الشعبي الواسع النطاق، وذاقوا تفاحة معرفتهم بوطنهم وتفاصيله التي كانوا يجهلونها. في تلك الثورة، خصوصاً في عاميها الأولين، أزهرت الوطنية السورية، وأكملت نموها، لتصبح قدر السوريين الذين استقبله – معظمهم – بصدر مفتوح، وتنفسوا الصعداء كمن أزاح عن كاهله حملاً ثقيلاً مزمناً.
للوطنية وجوه ظاهرة ساحرة وأخرى خفيّة ماكرة، فهي هوية وانتماء إلى بلد ودولة وشعب، ومحبة وإخلاص.. في حين كان للطغيان الأسدي دور حاسم في نكراننا لها، وتهليلنا لقول جونسون عنها إنها»الملجأ الأخير للأنذال»، أو قول أوسكار وايلد إنها» فضيلة الأراذل»، بسبب الأذى الذي أحدثه إظهارها من قبل النظام، تعبيراً عن الولاء المطلق للسلطان، أو تكريساً لاعتبار أي انزياح عن الولاء للنظام خيانة وطنية. لكن وجود «هويات» سريعة الانفجار على مستويات متقاطعة أو متعامدة، كلها مؤهلة لتهوين قتل الآخر المختلف- كالطائفية والمذهبية والإثنية والقَبَلية والمناطقية – تفرض أن تتقدم الوطنية السورية إلى الواجهة، ويتحدد معناها ومفهومها، ليصبح الأساس الحاسم في الهوية، سابقاً على الهويات الأخرى، من دون أن ينفيها أو يجعلها حراماً ممنوعاً. سوريا الواقعية بلدٌ عجيب في فسيفسائه، ومن لا ينطلق من ذلك متكئاً على مفاهيم الأكثرية والأقلية سوف يغامر بسلامة جسم بلده لزمن طويل، قد يستغرق الكيان ويمتص تكامله، لذلك تأخذ الوطنية هنا وجهاً مختلفاً، يعتمد ويستند إلى التنوع والتعدد والاختلاف، بدلاً من أوهام الصبغة الواحدة، القاتلة بدورها أيضاً.
ولعلّ خاصية مفهوم الوطنية الأكثر أهمية في الحالة السورية، هي ما يحدّدها بأنها دفاعية، على عكس مفهوم القومية، الذي يتميز بتحديدها من حيث هي هجومية. ففي سوريا تشكّل الوطنية، بمعنى الانتماء والإخلاص إلى هذه الـ»سوريا» الواقعية، ملاذاً أخيراً لازماً بالضرورة، للدفاع عن الكيان؛ في حين أن تلك المبنية على أوهام التاريخ والجغرافيا والروح والأساطير، رغم جمالها، تهتم بمهاجمة «الآخر» أكثر من الاندماج معه، وهذا يشمل الطرفين معاً قبل أن ننسى الإشارة إلى ذلك. لكن ذلك المفهوم غير كافٍ بذاته بالطبع، ولا بدّ له من الاستناد ديالكتيكياً إلى دعامتين، تبدوان للوهلة الأولى والثانية متعارضتين تماماً: هما المواطنة المتساوية أولاً- وأساساً – كملاذ وطني، ومن ثَمّ تلبية حقوق الجماعات المكونة للوطن المعنيّ. في حالتنا السورية قلنا مثل ذلك في المعارضة منذ بداية ربيع دمشق، وطورناه في إعلان دمشق بالإجماع في بيان مجلسه الوطني 2007، وظهر كذلك في عهد القاهرة الوطني 2012، كما تطور أيضاً في اتفاقية الائتلاف الوطني السوري مع المجلس الوطني الكردي.. السوري أيضاً.
في ذلك الاتجاه هنالك نقطتان أكثر إلحاحاً من غيرهما في المسألة السورية، أو مسألة الوطنية السورية: أولاهما القضية الكردية وحساسيتها الكبرى، تفخيخاً أو تعزيزاً للوطنية المطروحة. فمن لا يواجه هذه القضية مباشرة، من أرضية وطنية دفاعية وسلمية، تنزع صاعق الأرضية القومية الهجومية بطبعتها الداخلية (ومعها القومية – الإسلامية بالتكافل والتماهي)، لا يمكن له أن يعيد تأسيس وطن، أو يؤسس دولة حديثة. وعليه فإن التسليم بأهون السبل، وهو سبيل الاحتكام إلى القانون الدولي، وإلى المادة الأولى في ميثاق الأمم المتحدة، والمادة الأولى في العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والسياسية، وإلى العقل والمصلحة قبل أي شيء آخر، عن طريق الحوار والتفويض والتوسيط أيضاً.. يساعد على الخلاص السلس من الأخطار ذاتها التي يراها العرب السوريون – في شمال شرق سوريا خصوصاً – في أسوأ كوابيسهم.
المسألة الأخرى في هذا الحقل هي ثنائية السني – العلوي، وأحدهما قوي بأكثريته وتاريخ حكوماته القديم، والثاني بقوته وتاريخ حكوماته الحديث، ولكلٍ منهما أن يحتجّ – وعن حق- على تعبير حكوماته. للأول مظلوميته المزعومة في العصر البعثي، بمظاهر طائفيته التي ينكرها وتفضحه، يخدش دقة تلك المظلومية عدم صفاء الفئة السائدة من دون أن ينفيها إطلاقاً، وللثاني مظلوميته المزعومة في العصر العثماني، يخدش دقتها غياب التوثيق حتى الآن، رغم مؤشراتها المتفرقة.
ولكل الهويات السورية من هذا الباب مظلوميةٌ تهبّ منها الأهواء، حين تَفتح العواصف أبوابها، ولكن؛ بعد الكارثة التي حلّت بالسوريين وتهدّد وجودهم ونوعهم، لا بدّ من المواجهة والمصارحة والاحتكام إلى قوانين العالم المعاصر، ومنها بنيان الدول على أساس الوطنية، بالمواطنة في الأساس، وتوفير ما أمكن من ضمانات الطمأنينة حتى لا يتكرر ما حدث. وهذه الأخيرة لا يمكن أن توجد بشكل حاسم، ولا تكتمل إلا بالحوار الصريح والتوصل إلى قبول الآخر شرطاً وجودياً ونهائياً. تلوح الآن علامات النهاية على رأس هرم الطغيان، وسيأخذ التغيير الجذري زمناً طويلاً نسبياً حتى يتحقق، وتصبح سوريا دولة وطنية ديمقراطية حديثة، تقوم على المواطنة وسيادة القانون وطمأنينة الأفراد والجماعات إلى حقوقهم، لذلك ربما تنبعث حالياً نقاشات الوطنية السورية، بشكل صحيح، ولا بدّ لهذه النقاشات أن تنضج، وتواجه إشكالات مقوماتها، لا الهروب إلى الدروب الجانبية لتكديس النقاط مسبقاً.. ذلك مع الإقرار بأهميتها التأسيسية لتنظيم القوى وتجميعها هنا وهناك، بل وتعيين اختلافاتها…
المصدر: القدس العربي