يعرف جيدا المسؤول عن تفجير الوضع على جبهات غزة وتأجيجها على هذا النحو، أنه استهدف مباشرة التحولات الإقليمية التي كانت قاب قوسين من حقبة سياسية جديدة في العلاقات العربية الإسرائيلية والتركية الإسرائيلية، وحيث كانت إدارة الرئيس الأميركي بايدن تسعى من خلالها التأسيس لتسهيل عودتها بقوة إلى المنطقة وقلب كثير من التوازنات. فمن له مصلحة في استهداف مصالحة هنا وعرقلة تطبيع هناك وتعريض مصالح أميركا على هذا النحو للخطر؟ وهل المسألة تتعلق بما فعلته مجموعات حماس فجر السابع من الشهر المنصرم داخل غلاف غزة فقط؟
مع اشتعال جبهات قطاع غزة في السابع من تشرين الأول المنصرم اتجهت الأنظار أيضا نحو النظام في دمشق وما سيفعله، وهل سيدخل في لعبة توسيع رقعة المعارك وفتح جبهة قتال مع إسرائيل؟ الإجابة السريعة كانت من خلال تساؤل: لم يفعل بشار الأسد ذلك بعدما أبلغه نتنياهو أن لا مشكلة لهم معه، وأن إسرائيل لا تعارض استرداد سيطرته على كامل الأراضي السورية، طالما هو يقبل “بحق تل أبيب في التحرك العسكري عند الضرورة لحماية حدودها وأمنها القومي مع سوريا، ويبتعد عن أي عمل عسكري ضد إسرائيل بعد انفجار الوضع في غزة، لأنه سيعرض نظامه للخطر”.
التقت كثير من التحليلات وتقديرات الموقف والتصريحات عند الرغبة الإسرائيلية ببقاء بشار الأسد ونظامه على رأس الحكم في سوريا لاعتبارات جيوستراتيجية، تتعلق بالبدائل المطروحة. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان بين أبرز المدافعين عن هذه الفكرة التي تقوم على استمرار “الاستقرار” السائد منذ 5 عقود على الحدود السورية نتيجة سياسات الأسد الأب والابن. “نأخذ ما نريد دون أي اعتراض لتبقوا في أماكنكم”. المشكلة إذا هي ليست برحيل نتنياهو بل بتبديل إسرائيل لسياساتها السورية، فهل ما زالت تل أبيب قادرة اليوم على مواصلة هذه السياسة وفرض نفسها على المشهد السوري بعد ما جرى في غزة؟ وهل ما زالت إسرائيل تعبر عن الرأي الذي يتجنب سيناريو إزاحة الأسد، لأن الطريق ستفتح أمام علبة “الباندورا” التي ستقود إلى ما هو ليس في مصلحتها سوريا وإقليميا؟ تل أبيب محقة ربما هنا، فرغم كل التحرشات بالجناح الإيراني في سوريا تجنب هو الرد واكتفى بتوجيه الرسائل المهادنة المحسوبة بدقة. فلماذا بناء معادلة معقدة صعبة ومحاولة توحيد خطين متوازيين لا يلتقيان: دمج رحيل الأسد بمغادرة نتنياهو لمنصبه في الحكم؟ وهل ستقبل واشنطن بمقايضة سياسية من هذا النوع دون ربطها بأكثر من ملف استراتيجي بطابع سياسي وأمني واقتصادي يخدم مصالحها ويعطيها ما تريد؟ وهل انتهت المدة الزمنية التي أشارت إليها واشنطن قبل عقد حول أن الأوضاع في سوريا ستستمر لعشر سنوات أخرى؟ وهل تراجعت معادلة ضرب الجهادي بالمتطرف والراديكالي بالمتشدد ليخسروا معا في سوريا؟
عقب عملية “طوفان الأقصى” وجد نتنياهو نفسه في صدر الانتقادات الداخلية والخارجية، وبات يواجه دعوات سياسية وحزبية من قلب إسرائيل بضرورة التنحي والمغادرة نتيجة الفشل الذي يتحمل مسؤوليته في التعامل مع ما جرى في غزة. الأنظار تتجه نحو بيني غانتس البديل والمنافس الأقوى لنتياهو على مقعد رئاسة الوزراء اليوم بحسب كثير من استطلاعات الرأي الإسرائيلية، التي تقول إنه في حال إجراء انتخابات مبكرة سيضاعف حزب الوحدة الوطنية بزعامة غانتس مقاعده من 12 إلى 43 في حين سيتراجع الليكود من 32 إلى 18 مقعدا.
ما قد ينقذ نتنياهو من الوقوع في مطب سياسي حزبي داخلي من هذا النوع، هو اختراع ذريعة أمنية وسياسية عاجلة تمنحه فرصة القيام بهجوم عسكري واسع وكاسح ضد قوات النظام ومحاولة إضعاف إيران وروسيا هناك وخلط الأوراق على حسابهما لصالح واشنطن وبعض العواصم الإقليمية. خطوة بهذا الاتجاه ستسهل إزاحة الأسد والتقريب من جديد بين تل أبيب والعديد من العواصم العربية والإقليمية الغاضبة حيال ما فعله نتنياهو في غزة.
نتياهو قد يضحي برهانه على بشار الأسد في المرحلة المقبلة للاحتفاظ بموقعه الحزبي والسياسي. لكنه قد يقحم تل أبيب بمغامرة أكبر إذا ما شعر أن مفعول المنشط الأميركي له في الأسابيع الأخيرة قد انتهى. لكن العقبة هي هل يسمح له الداخل الإسرائيلي بالإقدام على مغامرة بهذا الاتجاه غير مضمونة النتائج؟
منح الأسد واشنطن فرصة إزالته عن الحكم أكثر من مرة، لكنها فرطت بها لصالح مناورات تبادل الخدمات مع طهران وموسكو في ملفات ثنائية وإقليمية. أسلوب نتنياهو في حرب غزة اليوم يقدم لها فرصة مماثلة باتجاه صناعة سياسة أميركية مغايرة في التعامل مع الملف الفلسطيني ودفعه نحو مسار الحلحلة. كما أن مقايضة إزاحة الأسد في سوريا مقابل التضحية بنتنياهو قد ترضي العديد من الأطراف وتمنح الإدارة الأميركية فرصة جديدة لإطلاق سياسة شرق أوسطية مغايرة على خط دمشق – تل أبيب يطالبها بها العديد من الشركاء والحلفاء. لكن إدارة بايدن تريد حصد أكثر من هدية وجائزة محلية وإقليمية لدعم سيناريو صعب من هذا النوع سيكون مكلفا نتيجة ردود الفعل الروسية والإيرانية والصينية. هي تتطلع صوب خطة سلام إسرائيلية سورية ربما يعقبها اتفاقية سلام مع لبنان بعدما عرقلت دمشق المحاولة عام 1983. فهل تسهل لها موسكو وبكين هذه المهمة؟
صحيح أن هناك كثيرا من النقاط التي تقرب بين الأسد ونتنياهو في التعامل مع مشاهد وأحداث داخلية وخارجية بينها القدرة على المناورة واللعب على الحبال والاستفادة من التناقضات للبقاء على كرسي الحكم. لكن الصحيح أيضا أن نتنياهو وحكوماته لا علاقة لهما بإطالة عمر الأسد في السلطة. ما فعله رئيس الوزراء الإسرائيلي تم بقرار أميركي بحت. حماية الأسد من السقوط تقف خلفها في العلن موسكو وطهران وبكين ربما. لكن من يقف خلفها بعيدا عن الأضواء هو الجانب الأميركي الذي عول على مقايضات يجريها مع روسيا وإيران في ملفات ثنائية وإقليمية تبقي الأمور على ما هي عليه في سوريا والجوار، وتمنح تل أبيب فرص التوغل السياسي والأمني في المنطقة. سقوط الأسد لن يعني بالضرورة سقوط نتنياهو والعكس صحيح رغم أنه خيار يرضي كثيرين. القرار هنا هو أميركي قبل أن يكون سوريا أو إسرائيليا.
سياسة أميركا في المنطقة أمام امتحان لا يقل أهمية عن امتحان نتنياهو في إسرائيل.
كيف ستكون عملية تحليل وتفسير ما يقوله رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس الأميركي مارك وورنر حول أن إسرائيل فقدت التعاطف الشعبي الدولي معها؟ المعني هنا هو نتنياهو قبل غيره. فهل الهدف هو مساعدته أميركيا على استرداد ما فقده من تأييد خارجي، أم استغلال الفرصة لإزاحته واستبداله بمن يفتح الطريق أمام سياسة إقليمية جديدة؟
بقدر ما هناك من تحرك إسرائيلي محلي لإزاحة نتنياهو ومحاكمته وتحميله مسؤولية ما جرى في قطاع غزة، هناك تحرك دولي جديد باتجاه تفعيل إنشاء محكمة دولية خاصة تحاكم الأسد وأعوانه على جرائم ضد الإنسانية ومجازر واستخدام الأسلحة المحظورة دوليا لسنوات طويلة ضد الشعب السوري. حرب غزة قد تكون فرصة للتخلص منهما معا لكنها ليست وسيلة، فواشنطن لن تبدل في مواقفها وسياستها الإسرائيلية حيال الملف الفلسطيني. تستطيع إدارة بايدن لو أرادت استبدال نتنياهو اليميني المتشدد بنتياهو آخر أكثر اعتدالا، لكن ذلك قد يكون أكثر ما يمكن أن تفعله في هذه الآونة بعيدا عن نقاشات إزاحة الأسد.
كثر هم من يعولون على “بشارة” الربط بين الأسد ونتنياهو طبعا. لكن الظروف والمعطيات تقول إن سيناريو الحل السوري – السوري بدعم عربي – إسلامي هو الفرصة الممكنة والأقرب اليوم، لإبعاد الأسد بدلا من انتظار ما ستقوله وتفعله تل أبيب وواشنطن.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة تحترم للمقاربة بين استمرار الطاغيتين بالحكم بعد حرب غزة الأسد ونتNياهو لوجود نقاط عديدة تقرب بين تعاملهما مع مشاهد وأحداث داخلية وخارجية والقدرة على المناورة واللعب على الحبال والاستفادة من التناقضات للبقاء على كرسي الحكم. فهل ستنتج نها يتهما مع نهاية حرب غزة ؟ أم سيستمران ضمن ذات اللعب على الأحداث ؟.