ساهمت جائحة فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط في جعل شراكة روسيا غير المتكافئة مع الصين أكثر اختلالا. ومع تصعيد انتشار الفيروس للصراع القائم بين واشنطن وبكين، باتت موسكو تواجه تحديا صعبا يتجسد في كيفية الحفاظ على شريان الحياة الاقتصادي الصيني دون الانخراط في صدام القوى العظمى الذي يلوح في الأفق.
حسب مدير مركز كارنيغي للأبحاث الاستراتيجية في موسكو ديميتري ترينين، “تدرك روسيا بشكل متزايد أن الاقتراب من العملاق الصيني يمكن أن يؤدي إلى اعتماد غير مرغوب فيه على بكين. لكن أهم شيء بالنسبة لروسيا هو الحفاظ على التوازن وعدم إقحام نفسها في الصراع بين الولايات المتحدة والصين”.
بطريقة ما، يعكس ذلك الديناميكية التي دعمت العلاقات بين الصين وروسيا بعد أن أدى غزو الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا سنة 2014 إلى انقطاع العلاقات بين موسكو والغرب. ونظرا لخضوعها للعقوبات الغربية، سعت روسيا إلى بناء علاقات اقتصادية وأمنية أعمق مع بكين، غير أن الصين التي كانت حريصة على عدم معاداة الولايات المتحدة، كانت مترددة في كثير من الأحيان بشأن الوقوف في صف موسكو. هذه الأيام، تعتبر روسيا شريكا ضعيفا لكن لا غنى عنه بالنسبة للصين، بينما تتصادم بكين مع إدارة ترامب بشأن قضايا ذات صلة بالتجارة ودور الصين في الوباء ومستقبل هونغ كونغ.
في حديثه على هامش الاجتماع التشريعي السنوي للصين في أيار/ مايو، أشاد وزير الخارجية الصيني وانغ يي بشراكة بلاده مع روسيا، بما في ذلك الموقف المشترك ضد الجهود الأمريكية لتحميل بكين مسؤولية عواقب الوباء. وفي هذا الإطار، قال وانغ: “لقد أقامت روسيا والصين معا حصنا منيعا ضد ‘الفيروس السياسي’ وأظهرتا قوة التنسيق الاستراتيجي الثنائي”.
يبدو أن هذه التأكيدات الهدف منها التغطية على التصدّعات الخطيرة في العلاقة، التي تتمثل أبرزها في الإعلان هذا الأسبوع عن اعتقال أكاديمي متقاعد بتهمة تمرير أسرار تكنولوجيا الكشف عن الغواصات الروسية إلى الصين. ولكن هذا العالم، فاليري ميتكو البالغ من العمر 78 سنة، ينفي الاتهامات الموجهة إليه، وذلك وفقا لما صرح به محاميه.
عندما بدأ فيروس كورونا في الانتشار في ووهان، كانت روسيا أول دولة تغلق حدودها البرية مع الصين وتفرض قيودا صارمة على المواطنين الصينيين الموجودين بالفعل في أراضيها. ثم رفضت الصين تزويد روسيا بالتفاصيل الكاملة حول سلالة الفيروس.
بدلا من تنفيذ حظر صارم بسرعة على النمط الصيني بمجرد أن وصل فيروس كورونا إلى موسكو، تردد بوتين لأسابيع، مما أدى إلى تشويه صورته وجعل روسيا تحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد الإصابات في العالم. في المقابل، اضطرت أجزاء من شمال شرق الصين إلى إعادة فرض عمليات الإغلاق في شهر أيار/ مايو لأن المسافرين العائدين من روسيا جلبوا معهم الفيروس. من جهته، قال تشنغ شياو هي، الباحث في الشؤون الدولية في جامعة رنمين في بكين، إن “وضعية فيروس كورونا في روسيا في فوضى عارمة، وهي أسوأ بكثير مما توقعنا”.
انزعج المسؤولون الصينيون بدورهم مما فسّروه على أنه مغازلة بين روسيا والولايات المتحدة في الوقت الذي تتعرض فيه بكين لضغوط من واشنطن. كما استشهدوا بدعم موسكو لإجراء تحقيق دولي في أصل الوباء والإعلان المشترك الذي أصدره كل من بوتين وترامب في 25 نيسان/ أبريل، الذي أشاد باجتماع القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة والسوفييت في ألمانيا سنة 1945 باعتباره “مثلًا على كيفية وضع دولنا للخلافات جانبا وبناء الثقة والتعاون من أجل قضية أكبر”.
يرى فنغ يوجون، مدير مركز الدراسات الروسية وآسيا الوسطى بجامعة فودان في شنغهاي، أن هذا الإعلان يتناقض بشكل حاد مع اللهجة المتشددة بين واشنطن وبكين. وصرح فنغ قائلا: “في مجال الجغرافيا السياسية، ساءت العلاقات الصينية الأمريكية بسبب الوباء، في حين تشهد العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة تحسنا. وبعد سنوات من المواجهة، انخفض الضغط الاستراتيجي للولايات المتحدة على روسيا إلى حد كبير، وهو ما تحلم به روسيا”.
أضاف فنغ أنه بعد أزمة القرم سنة 2014، تمكنت روسيا من تخفيف حدة العقوبات الاقتصادية الغربية من خلال التعاون الاقتصادي مع الصين. بالنظر إلى أن الاقتصاد الصيني يبلغ حجمه تسعة أضعاف حجم الاقتصاد الروسي، فلا يمكن لموسكو أن تكون ذات فائدة مماثلة لبكين. وأوضح فنغ أنه “بالنسبة للصين، لا يمكن للتعاون الاقتصادي مع روسيا بأي حال من الأحوال استبدال القيمة الهامة للتعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، سواء في الزراعة أو التكنولوجيا العالية، ناهيك عن الفائض التجاري”.
مازالت روسيا تشكل قوة عسكرية عظمى وتساعد الصين في محاولاتها لتطوير قدرة عسكرية أكثر عالمية. إن البلدين يخططان لتوقيع اتفاقية دفاع جديدة هذه السنة. في هذا السياق، قال فاسيلي كاشين، الخبير في العلاقات الروسية الصينية لدى المعهد العالي للاقتصاد في موسكو: “ساعدت روسيا الصينيين في التعرف على الخبرة الأجنبية في التخطيط لنزاع واسع النطاق، ولكنها وسعت أيضًا سلاسل الإمداد وخطوط النقل خارج حدودها”.
تنظر روسيا للصراع بين واشنطن وبكين على أنه فرصة لتعزيز صادراتها من المعادن والأغذية إلى الصين على حساب الولايات المتحدة وأستراليا وحلفاء آخرين من الغرب. وبينما تراجعت التجارة بين الصين وروسيا بنسبة 4.3 بالمئة لتصل قيمة المبادلات إلى 41 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من هذه السنة، وذلك كجزء من التباطؤ الاقتصادي العالمي، حلت روسيا محل السعودية باعتبارها أكبر مورد للنفط بالنسبة الصين.
في الواقع، يمثل النفط والغاز الصادرات الرئيسية لروسيا، وتحتاج الميزانية الروسية أن تكون أسعار النفط الخام أعلى من 42.50 دولارًا للبرميل لتحقيق الموازنة. يبلغ سعر خام الأورال بالنسبة لشهر أغسطس/ آب حاليًا نحو 40 دولارًا، بعد أن كان 57 دولارًا في بداية السنة، على الرغم من أنه أعلى بكثير من أدنى مستوى 22.7 دولارًا، الذي سُجل وسط التخمة العالمية في أواخر نيسان/ أبريل.
لطالما رغبت بكين في توقيع اتفاقية تجارة حرة مع موسكو، التي من شأنها أن تمنح الصناعة الروسية مكانة أكبر في السوق الصينية، والتي من المحتمل أيضًا أن تغمر روسيا بالسلع الصينية. قد يبدو هذا الاحتمال أكثر ملائمة لموسكو لأنها تواجه تراجعا اقتصاديا طويل الأمد.
وفقا للباحث في العلاقات الصينية الروسية بجامعة الشرق الأقصى الاتحادية في فلاديفوستوك، أرتيوم لوكين: “إن اعتماد روسيا اقتصاديًا على الصين بات يمثل حقيقة لا جدال فيها. ولكن لا يعني ذلك أننا سنتحول إلى تابع سياسي للصين”. وأضاف لوكين: “لعدة قرون، مثلت روسيا ملحقة للسلع الأساسية ومحيطًا اقتصاديًا لأوروبا، حيث كانت تبيع القنب والقمح والنفط والغاز، ولكنها تصرفت بشكل مستقل للغاية من الناحية السياسية. الآن أيضًا، سنحافظ على مكانتنا كلاعبين مستقلين طالما نمتلك قوة عسكرية استراتيجية، والأسلحة النووية، وطالما نمتلك إرادة لنكون قوة عظمى”.
لتجسيد هذه الرغبة في الحفاظ على قدر من الاستقلال، حثت وثيقة سياسية قدمها الأكاديمي سيرجي كاراجانوف وغيره من الشخصيات البارزة في السياسة الخارجية في موسكو على مساندة تبني نهج “عدم الانحياز الجديد” بين الصين والولايات المتحدة. ووفقًا لنسخة غير سرية من الوثيقة، يجب على روسيا أن تحاول قيادة “مجتمع دول لا تنوي دعم أي من الدول التي تتظاهر بالهيمنة العالمية أو الإقليمية”.
ذهب سيرجي دوبينين ويفغيني سافوستيانوف، وهما أكاديميان آخران مسؤولان عن تقديم المشورة للكرملين، إلى أبعد من ذلك، حيث وصفا في وثيقة منفصلة أي تحرك نحو تحالف أوثق مع الصين بأنه “سوء تقدير استراتيجي” وحثا موسكو على أن تصبح متساوية مع القوتين العظميين.
لكن سيكون من الصعب تحقيق ذلك إذا لم يوجد حل لمشكلة أوكرانيا التي تمثل سبب التوترات الروسية مع الغرب. وعلى الرغم من أن ترامب سعى بكثرة إلى تحسين العلاقات مع روسيا، إلا أن محاولاته للتقارب أحبِطت مرارًا بسبب رد الفعل السياسي المحلي.
حيال هذا الشأن، قال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نانجينغ، تشو فنغ: “لا أعتقد أن العلاقات الاستراتيجية بين بكين وموسكو ستضعف ما دامت إدارة ترامب لا تزال في السلطة. فروسيا والصين يحتاجان إلى بعضهما البعض”. قد يبقى هذا هو الحال بغض النظر عمن سينتهي به المطاف في البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير.
في سياق متصل، يقول مايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية لدى مركز التحليلات البحرية، وهو مركز أبحاث يقدم المشورة للحكومة الأمريكية، “إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه روسيا يتمثل في عدم وجود خيارات متعلقة بالسياسة الخارجية. كما أنها تواجه مشكلة استراتيجية مع الولايات المتحدة ولم تتحسن علاقاتها مع الدول الأوروبية بشكل كبير”. وأضاف كوفمان أن “روسيا ببساطة لا تمتلك مجموعة متنوعة من الدول التي بإمكانها أن تتعامل معها، وبالتالي فهي مضطرة بشكل أساسي لدعم الصين”.
المصدر: وول ستريت جورنال