قراءة في رواية: مجرد ٢ فقط

أحمد العربي

إبراهيم نصر الله، روائي وشاعر فلسطيني، كتب العديد من الروايات، يتابع أغلبها قصة مأساة الفلسطينيين في كل مراحلها، من ما قبل بداية القرن الماضي، مرورا  بوعد بلفور ثم الهجرة اليهودية لفلسطين، والاحتلال الإنجليزي لها، والثورة عليه، وإعلان الكيان الصهيوني، واللجوء، وتجربة التشرد.. الخ، ومازال يكتب، مطلا على الحالة الفلسطينية من جميع أوجهها، وسمى بعضها الملهاة الفلسطينية.
مجرد ٢ فقط، رواية متميزة، وذات طريقة خاصة في السرد، ومهم ان نعلم انها نشرت أول مرة عام ١٩٩٢ م. نحن أمام بطل غير معرف وصاحبه، وطريقة السرد تعتمد على الاسترجاع الذهني لبطلها، عبر مقاطع محدودة تطل على خبرة حياتية معينة، هي أقرب لحوار نفسي داخلي يعيشه البطل وصاحبه، لا تسلسل في الزمان، ولا مكان محدد يتحرك به البطل، حتى وهو يعيش حواره الداخلي، متروك كل ذلك لتخميننا كقراء لروايته، الرواية محكومة بما يسترجع البطل في ذهنه، أو ما ينقله لنا عن معايشته، والتي تكون أغلبها ضبابية، فنحن كالسائر في طريق والضباب يحيط به من كل صوب، لا يكاد يلتمس موقع قدمه، يأخذنا البطل-لحظيا- لعوالمه، ونعيش تجربته لحظة بلحظة.
تبدأ الرواية وبطلها مع صاحبه في رحلة بالطائرة إلى بلد عربي لأجل حضور احتفالات بمناسبة إنجاز عظيم، هما مدعوان، سنكتشف سريعا ان صاحبه ليس إلا نفسه التي يحاورها، وتحاوره، وهو في كل الرواية وحيد مع سرده المتتابع لما يخطر على باله، ولنكن أكثر دقة، لما يلح على باله، سيذكر انها رحلة إلى بلد عربي تكثر فيه الاحتفالات و”المنجزات” يحاور صاحبه “نفسه”، يعود الى طفولته التي تلح عليه، هو في الملجأ وامه وابوه، وكثير من اهل البلدة، محاصرين من العصابات الصهيونية، هكذا نفهم، الكل خائف والقذائف تتوالى عليهم، اخته الصغيرة تصاب في بطنها وتنزف وتموت، ووالدته لا تتقبل وفاة ابنتها، وتعتبرها نائمه، ينتقل بنا الى البلد الذي وصل اليه، وعبر صور منتقاة بعناية سنعرف أننا أمام بلد متخلف في كل شيء، الهاتف الذي لا تصله الحرارة، والموظف الذي لا يهتم، وهم شبه ضائعين، لكنه سيكتشف أن الأمن حاضر في كل جزئية، ومتابع لكل شيء بكل دقة، سنتابع عبر لقطات متقطعة في الرواية ذهابه إلى تلك الدولة، فهو مجرد مدعو إلى تدشين إنجاز عظيم، لا نعرفه، ولا نرى منعكسه على الناس، يحضر ليقول الزعيم كلمته، ويصور حضور المدعوين، ثم ليعود من حيث أتى، مجرد دليل على أن هناك أمورا عظيمة تحصل في بلاد الزعيم الأوحد والأنظمة المطلقة السيطرة. وبنفس السياق يتداخل عند البطل ذاكرة السفر، يستحضر سفرا آخر لأجل العمل، يتحول فيه لمجرد أداة تخدم عند الدولة أو المستثمر، يحجز جوازه ويصبح رهينة، ولا حقوق له. يسيطر عليه- دائما- هاجس أنه مطرود من بلاده “فلسطين” وأنها دائما هي في وجدانه، ومرجع ذاكرته كل الوقت. سيعود مرات ومرات إلى حصار الملجأ ايام الطفولة، واخته التي ماتت وامه التي رفضت تصديق ذلك، ورفضت تسليمها لمن حولها لدفنها، الحصار والملجأ سيسيطر على ذاكرته وسرده، سنعود معه الى ملجأ آخر وهجوم آخر وموت في الحصار في بلاد اللجوء، سنخمن أن ذلك قد يكون في مخيم تل الزعتر، أو في مخيم صبرا وشاتيلا، حيث حصل الحصار والقتل الجماعي، مجازر أكلت كل اهل المخيم، ومن سلم منهم بقيت ذاكرته تستعيد ذلك الجحيم، تجربة الحصار، في كل المرات، والموت خوفا وقتلا وجوعا، الجوع الذي حلل أكل لحوم الحيوانات ووصل لدرجة أكل لحوم الموتى. القتل الجماعي، وهو بين القتلى لكنه لا يصاب تحملهم الجرافة إلى حفر القبور الجماعية، ستأكل الجرافة يده، يده التي ستعيش معه دائما يحس بها موجودة، ومفقودة، سيفقد لها حين يحب، كيف سيضم حبيبته، سنعود معه لكل تجارب الطفولة والمراهقة، والحب الذي لم يعط فرصة للنجاح، والزوجة التي لم يسمح لجنينها بالحياة فتسقطه قبل الولادة. سنعيش إحساسه العميق بكونه لاجئ مقهور ومظلوم، سنطل معه على تجربة العمل الفدائي كومضة ولكن كانت تجربة طفلية أكثر منها غوص بالعمق. اللجوء ومعاناة العيش في بلاد غير “الوطن” حيث يهضم حقه كإنسان، الآخرون “الانظمة” ينقلونه من مكان لمكان ابعد دوما، ويحرمونه من قدرة العودة للأصل، إلى بلاده، “فلسطين”. في كل الوقت ينتقل من خبرة ألم إلى خبرة أخرى تختلف بالشكل، متفقة بالمضمون، الغربة والقهر وفقدان الهوية، وظلم ينتهك إنسانية الإنسان فيه. تستمر الرواية على الطريقة نفسها، بوح متواصل لألم لا ينضب، متنقلة في الزمان والمكان، ممتلئة بوجع انك فلسطيني، ومفتقد لاعتبارك الإنساني ووطنك، ولم يبق لك إلا ذاتك صاحبا تبث له وجعك، في حلقة دائرية ابتداء مع كل شيء عاشته ولا تنتهي ابدا. إنها دوامة الألم المستمر، الذي لا علاج له.
تنتهي الرواية والحوار الداخلي لبطلها لا ينتهي.
في تحليل الرواية نقول: إن إبراهيم نصر الله نجح في أن يجعلنا نعيش ألمه كإنسان فلسطيني وصاحب قضية، ونجح في أن يجعلنا جزءاً من حكايته التي نعيشها معه.
ونحن الآن في أجواء الثورة السورية، نتفهم ما سرده قبل ثلاثين عاما، وكأنه يسرد الوجع السوري بعد سبع سنوات من المأساة السورية، ردا على مطالبة الشعب السوري بحقه بالحرية والكرامة والعدالة والحياة الافضل.
تجارب الألم واحدة، ومطالب الحقوق واحدة، ومعايشة المعاناة الانسانية ايضا واحدة.. هذا ما جسدته الرواية. وهنا تكمن قوة الرواية ونجاحها.

…١٤/٤/٢٠١٨…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى