حرب غير متناظرة

علي العبدالله

أدّى الهجوم السريع والصاعق الذي نفذته كتائب عزالدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تحت عنوان “طوفان الأقصى” إلى ردود فعل محلية وإقليمية ودولية، عسكرية وسياسية وإعلامية، وصدور مواقف مؤيدة للهجوم وأخرى شاجبة له. وقد ترتّب على الهجوم:

أولا، إعلان الحكومة الإسرائيلية أن ما حصل تهديد وجودي يستدعي ردّا ساحقا، ونشوء إجماع إسرائيلي على الذهاب إلى الحرب لتحقيق هدف رئيس: الانتقام لمقتل العسكريين والمدنيين، والقضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين لديها، واستعادة قوة الردع الإسرائيلي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بانضمام زعيم حزب أزرق أبيض، بني غانتس، إلى الائتلاف الحكومي القائم، والتحاق جنرالات سابقين بهيئة الأركان، وإطلاق عملية “السيوف الحديدية”، بعد حشد خمس فرق عسكرية على حدود قطاع غزّة، مئات الدبابات وناقلات الجند ومدافع الميدان من عياراتٍ عديدة، وعشرات الطائرات، قاذفات ومسيّرات، وعشرات القطع البحرية.

ثانيا، إعلان الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، دعمه المطلق إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وحشد قوة بحرية، حاملتي طائرات ومدمّرات وفرقاطات وغوّاصة نووية، وقوات جوية، عشرات الطائرات القاذفة والمقاتلة من طرازات متعدّدة، وقوات خاصة، في شرق المتوسط لردع أي جهةٍ يمكن أن تتحرّك لدعم حركة حماس، وتوجّهه إلى إسرائيل واجتماعه إلى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت، وهيئة الأركان والمجلس الوزاري المُصغر، “الكابينت” الحربي، والاتفاق معهم على خط سير المواجهة وحدودها وعلى حزمة مساعدات عسكرية، صواريخ للقبّة الحديدية وقذائف ذكيّة وذخائر متنوّعة للدبابات ومدافع الميدان، ومالية.

ثالثا، تبنّي الغرب الرسمي الرواية الإسرائيلية، واصطفافه خلفها في “حقّها” بالدفاع عن نفسها، وتزويدها بأسلحة وذخائر متنوعة وإرسال مدمّرتين بريطانيتين وأخرى فرنسية إلى شرق المتوسط، ومنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في المدن الأوروبية، الذي تراجعت عنه تحت ضغوط شعبية.

رابعا، نشوة قيادة حركة حماس بنصرها الكبير، وتحرّكها المتسّرع للحصول على مكاسب سياسية بإعلانها قبول حل سياسي شامل، على قاعدة حلّ الدولتين واستعدادها للإفراج عن الأسرى مقابل إفراج إسرائيل عن الأسرى الفلسطينيين. وتحريك أنصارها في الضفة الغربية للتظاهر ضد السلطة الفلسطينية، والعمل على قطع الطريق على أي دورٍ يمكن أن تلعبه في غزّة بعد انتهاء الحرب، بالحديث عن سلطة قادمة على ظهر دبّابة أميركية، وعن رفض حكومة فيشي في القطاع، وهذه تعني حكومة عميلة للاحتلال، مثل حكومة فيشي الفرنسية التي تعاونت مع المحتل الألماني، للإيحاء أنها باتت الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني، ما يعني أن يكون التفاوض معها حصريا.

خامسا، نفي إيران علاقتها بالهجوم الحمساوي، وتنصّلها من أفعال مليشيات موالية لها هاجمت مواقع عسكرية أميركية في سورية والعراق، وإطلاق حركة أنصار الله، الشهيرة بالحوثيين، صواريخ بالستية وكروز وطائرات مسيّرة على إسرائيل، ومشاغلة حزب الله اللبناني القوات الإسرائيلية على الحدود الشمالية، لتخفيف الضغط عن غزّة، بدعوى أن هذه الفصائل سيدة نفسها وتتحرّك بقرارات ذاتية.

سادسا، عدم تفعيل “وحدة الساحات”، حيث لم تهاجم قوى محور الممانعة إسرائيل في التوقيت نفسه الذي شنّت فيه كتائب القسّام هجومها، وجاءت مساهماتها التالية في حدّها الأدنى.

سابعا، انفجار النزعة الشعبوية بين الكتّاب والفاعلين السياسيين والمدنيين الفلسطينيين والعرب، حيث تواترت عمليات استبدال خرائط فلسطين والكوفية الفلسطينية بالصورة القديمة على الصفحات على “فيسبوك” ومنصتي إكس وتلغرام؛ وترويج فيديوهات وهاشتاغات داعمة لحركة حماس ونشرها على نطاق واسع، ومهاجمة الأنظمة العربية لوقوفها صامتة أمام المجازر، والعودة إلى صفحات التاريخ والسرديات المتداولة عن اليهود وغدرهم وجبنهم في الحروب وتآمرهم على البلاد التي يعيشون فيها، واعتبارهم ذلك بمثابة مشاركة في المعركة.

ثامنا، ميل المحللين العسكريين والسياسيين الفلسطينيين والعرب إلى مسايرة عواطف الجماهير العربية ومشاعرها وتطلعاتها ومراعاة هذه العواطف والمشاعر في تحليلاتهم بإخفاء الوقائع الميدانية وإطلاق أحكام وتقديرات تجزم بأن نتيجة الحرب لصالح “حماس”.

تاسعا، عدم تحضير “حماس” الغزّيين للمعركة، وعدم أخذ احتياطات إدارية وعملية من حكومة القطاع لتأمين احتياجاتهم من الغذاء والدواء والطحين والوقود للمشافي والأفران، وتوجّهها إلى الاستغاثة ودعوة الدول العربية والإسلامية والأمم المتحدة للقيام بدور في تأمين هذه الاحتياجات.

عاشرا- تعاظم التظاهرات الشعبية المؤيدة للفلسطينيين في معظم الدول ردّا على القصف الوحشي وقتل المدنيين، وخصوصا الأطفال والنساء، والدعوات إلى وقف الحرب وحماية المدنيين.

بدأ الانتقام الإسرائيلي بقصفٍ جوّي كثيف وواسع، باعتماد سياسة الأرض المحروقة، استهدف المباني السكنية والمدارس والأسواق والأفران والمشافي، لدفع الفلسطينيين إلى النزوح خارج القطاع، وتحقيق هدفه الثاني من حملته الجوية: تفريغ القطاع من سكّانه. وعمل، في الوقت نفسه، على حشد قواته البرّية، الدبابات والمدرّعات والجرّافات ومدافع الميدان، استعدادا للهجوم البرّي الذي بدأ يوم 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

لم تسر الأمور كما أراد الرئيس الأميركي بايدن، فقد اصطدمت محاولته تأجيل الهجوم البرّي ووضع حدّ زمني وجغرافي للهجوم الإسرائيلي بهدف نتنياهو الخاص: إنقاذ مستقبله السياسي وترميم صورته عبر التشدّد في المواقف، وتركه المجال مفتوحا لقادة الجيش لفعل ما يرونه مناسبا لمحو الانطباع المُخزي عن المؤسّستين العسكرية والأمنية الذي تركه الهجوم الحمساوي الصاعق والمدمّر. وقد تجلّى ذلك بوضوح في إصراره على الهجوم البرّي الشامل واحتلال قطاع غزّة ورفضه دعوات أميركية وأممية لتنفيذ هدنٍ إنسانية لإدخال مساعداتٍ غذائيةٍ ودوائيةٍ ووقود للقطاع، خصوصا إدخال الوقود إلى المشافي، وتحرّكه سياسيا ودبلوماسيا للضغط على مصر للقبول بفتح معبر رفح واستقبال الغزّيين في مخيماتٍ في سيناء، ثم توطينهم في المدن الجديدة مقابل تعويضاتٍ ماليةٍ سخية، وإلغاء ديون البنك الدولي عليها. وقد زادت صور الضحايا والدمار واستهداف المشافي والمدنيين على الطرقات من حرج الإدارة الأميركية، خصوصا وقد خرجت تظاهرات شعبية حاشدة في مدن رئيسة في الولايات المتحدة نظم بعضها وقادها يهود أميركيون، ما دفعها إلى إعلان مواقف جديدة، مثل رفض احتلال غزّة مجددا وتهجير الفلسطينيين منها، وضغطت على إسرائيل لقبول إدخال المساعدات الإغاثية ووقف إطلاق نار أربع ساعات يوميا، وقيام وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بجولات مكوكية لاحتواء ردود الأفعال العربية والإسلامية الغاضبة ومنع توسّع الحرب ومحاولته حرف تركيز العالم على الوحشية الإسرائيلية وقتل المدنيين بالآلاف، بطرح أفكار عن إدارة غزّة بعد القضاء على “حماس” على الحراك الدبلوماسي العربي والدولي، وزاد الطين بلة بدء حدوث تململ أوروبي من السلوك الإسرائيلي وانطلاق دعوات أوروبية إلى هدن إنسانية، ووقف تسليح إسرائيل، انفردت نائبة رئيس الوزراء البلجيكي، بيترا دي سوتر، بالمطالبة بفرض عقوباتٍ على إسرائيل، وتسريع إدخال مساعدات إنسانية وبكميات كافية.

لم ينجح بلينكن في تسويق مقاربته الداعية إلى البحث في وضع غزّة بعد انتهاء الحرب، ولا في تسويق فكرته قيام دول عربية بتأدية دور أمني في غزّة بعد انتهاء الحرب وفتح معبر رفح لخروج الغزّيين إلى سيناء، حيث كان الرفض المصري والأردني جازما وقاطعا، فقد لخّصت الخارجية الأميركية نتائج جولته بقولها “إن كل الأمور قيد البحث”، بينما رأى فيها محلّلون أميركيون “فشلا مذلا”. وقد زاد ضعف النتائج التي حقّقها الهجوم البرّي الإسرائيلي الموقف الأميركي تعقيدا ودقّة، لأن إطالة أمد الحرب ستثير مزيدا من المشكلات، بسبب صور الضحايا والدمار، وبسبب تصاعد الغضب الشعبي العربي والإسلامي، وانعكاسه على مواقف الدول العربية والإسلامية، وما قد ينجُم عنه من تبعات وقرارات، وزيادة احتمال توسّع الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية تفتعلها إسرائيل باستدراج حزب الله اللبناني لمواجهة مفتوحة لقطع الطريق على احتمال مطالبتها بوقف إطلاق النار والذهاب إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، ما سيضع بايدن أمام خيارين صعبين: فرض وقف إطلاق نار يصبّ في صالح “حماس” وإيران أو الانخراط في الحرب والغرق في مستنقع حرب غير متناظرة طويلة الأمد، سبق وعاشته في أفغانستان والعراق، ودفعت فيه أثمانا بشرية ومالية باهظة. وهو ما تتمنّاه إسرائيل، لأنه سيجعل الخيارات الأميركية النهائية متطابقة مع خياراتها، بغضّ النظر عن حساباتها الكونية وحسابات إسرائيل الإقليمية، ما قد يمنح خصومها في الصين وروسيا وإيران فرصا لتسجيل نقاط جيوسياسية وجيواستراتيجية على حسابها.

لم تنته الحرب ولن تنتهي في وقت قصير، فالفجوة الواسعة في توازن القوى والطاقة الناريّة والقرب الجغرافي وسهولة إمداد القوات الإسرائيلية بالتعزيزات والذخائر تحدّ من تأثيرهما المساحة الضيقة والكثافة السكانية والعمرانية وركام الدمار ووجود الأنفاق وقدرة كتائب القسّام على الحركة والهجوم المباغت، فإسرائيل تعاني من نقاط ضعف كبيرة، تتجلى في غياب استراتيجية واضحة، فالانتقام ليس استراتيجية، وعدم امتلاكها استراتيجية خروج، ووجود خلافاتٍ داخل مجلسها العسكري والسياسي، ومأزقها الاقتصادي الناجم عن سحب حوالى 350 ألفا من سوق العمل بدعوتهم إلى الاحتياط، ما حمّل الميزانية خسارة يومية حوالى 300 مليون دولار، وخروج تظاهرات كبيرة في تل أبيب تطالب بوقف الحرب وإعادة الأسرى والرهائن. وصمود المقاومة وبقاء قدراتها القتالية البرّية قوية وفاعلة وبقاء شبكة أنفاقها في معظمها سليمة وآمنة، لن ينجح في إخفاء نقاط ضعفها وسوء تقدير قياداتها السياسية والعسكرية بدءا بعدم تحضيرها المجتمع الغزّي للحرب، وتجاهلها احتياجات المواطنين الأمنية والصحية والغذائية، وتجاهل هذه القيادات للسياسة، عكسه أبو عبيدة في تصريحه يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما وصف الإسرائيليين بـ “أنذل وأنجس من أنجبت البشرية” وبـ”أخوة القردة والخنازير”، وهذه ليست لغة السياسة وكسب الرأي العام الدولي وتعاطفه، وتلميحه إلى الخذلان من دون تحديد من خذله، ما يكشف عن سوء تقدير وخلل في الحسابات. وقد جعل تحوّل المواجهة إلى مواجهةٍ صفريةٍ الطرفين أكثر إصرارا على رفع التحدّي وتحقيق هدفهما من الحرب بفرض الاستسلام على الطرف الآخر أو مواجهة الدمار والموت، فالحرب غير المتناظرة تخضع لقاعدة وضعها سيئ الصيت، هنري كيسنجر، يقول: “ينهزم الجيش إذا لم ينتصر، وتنتصر المقاومة إذا لم تنهزم”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أكيد غير متناظرة بين فصيل عسكري وبين دولة يمدها الدول الكبرى بكافة الإمكانيات ، قراءة دقيقة ورؤية علمية للأحداث ومجرياتها “ينهزم الجيش إذا لم ينتصر، وتنتصر المقاومة إذا لم تنهزم”..

زر الذهاب إلى الأعلى