كانت التصريحات العلنية الأولى لزعيم “حزب الله” بشأن غزة حذرة في لهجتها وغامضة من حيث الجوهر، لكن الحزب قد لا يبقى مردوعاً إلى أجل غير مسمى إذا تغير وضعه السياسي أو التكتيكي.
كما كان متوقعاً، لم يعلن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله الحرب على إسرائيل في خطابه في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر، بل كان الخطاب العلني الأول الذي ألقاه حول الصراع في غزة بمثابة تذكير بأن حساباته بشأن الأزمة هي حسابات إيران نفسها، وأن حفاظ طهران على قدرة الإنكار المعقول لأعمال وكلائها هو أمرٌ بالغ الأهمية (للاطّلاع على مقتطفات الخطاب وتحليله باللغة الإنجليزية، راجع سلسلة التحديث المباشر على منصة “لوريان توداي”). وبالإضافة إلى طمأنة المجتمع الدولي بأن إيران ليست مسؤولة عن أيٍ من أعمال “حماس”، فقد قال لـ “حماس” أيضاً أنها تقف بمفردها وعليها الإعتماد على نفسها: “هذه المعركة هي فلسطينية بحتة وليس لها علاقة بأي ملف إقليمي أو دولي”. وبعبارة أخرى، فإن “الجبهة الموحدة” ليست موحدة إلى هذه الدرجة. وبدلاً من الانضمام إلى القتال الفعلي، طلب نصر الله من أنصاره خوض حرب الرأي العام، معتبراً بشكل أساسي أن ساحة المعركة تدور على الإنترنت، وليس في غزة.
وكانت النبرة المنخفضة التي اتسم بها الخطاب أكثر إثارةً للدهشة، حيث أظهر نصر الله قدراً أقل من الغضب والانفعال مقارنةً بخطاباته السابقة حول الصراعين في سوريا واليمن. وبعد شهرٍ من الصمت المحيّر وثلاثة إعلانات تمهيدية مليئة بالتشويق التي سبقت الخطاب، توقع معظم المراقبين تصعيداً بسيطاً، وإن كان خطابياً في الغالب. إلا أن نبرته كانت منخفضة إلى حدٍ كبيرٍ وخطوطه الحمراء غامضة. فإلى جانب التحذير من أن سقوط أي قتلى بين المدنيين اللبنانيين من شأنه أن يرغم “حزب الله” على قتل مدنيين إسرائيليين في المقابل، فقد أدلى بخطاب نموذجي غامض بشأن اختيار “الزمان والمكان المناسبين” للرد على أعمال إسرائيل في غزة. وكانت خلاصة كلامه واضحة: في الوقت الحالي على الأقل، لن تتجاوز مشاركة “حزب الله” في الحرب المناوشات الحدودية الحالية. (لمزيد من المعلومات حول هجمات حزب الله حتى الآن، راجع خريطة التتبع التفاعلية الخاصة بمعهد واشنطن).
أما التحذيرات التي وجّهها إلى الولايات المتحدة فكانت أكثر تحديداً وربما تصعيدية، إذ أشار إلى أن الحوثيين في اليمن سيواصلون إطلاق الصواريخ باتجاه الشمال، وأن الميليشيات العراقية ستستمر في استهداف الوجود الأمريكي في كل من العراق وسوريا. لكنه كان حريصاً على عدم توريط طهران في هذه الأعمال التي يقوم بها وكلاء إيران، ولم يهدد باستخدام أسلحة “حزب الله” ضد القوات الأمريكية. وبالفعل، يبدو أن عمليات الانتشار العسكري التي قامت بها واشنطن في الوقت المناسب على مسافة قريبة جداً من لبنان قد أدت دوراً كبيراً في ردع الحزب.
ولا شك في أن خطاب نصر الله خيّب كثيراً آمال أنصاره في لبنان والمنطقة الأوسع نطاقاً، إذ توقع الكثيرون منهم أن يكون رد زعيم “المقاومة” المزعوم أكثر عدوانية. كما أنه خيّب آمال حركة “حماس”، التي من المحتمل أن تشعر أنها أصبحت أقل أمناً وأكثر عزلة حالياً – وربما أكثر ميلاً إلى التفاوض والتسوية.
إلا أن التداعيات الأكثر خطورة للخطاب ستكون ملموسة على صعيد الشرعية التي يتمتع بها “حزب الله”. فقد أعلن نصر الله بشكل أساسي أنه لن ينخرط في معركة “تحرير فلسطين”، وهو الهدف الذي يكمن في صلب سردية المقاومة التي يتبناها. وأكد من خلال القيام بذلك أن مهمة “حزب الله” قد تحوّلت بشدة منذ حرب عام 2006 – من “مقاومة” إسرائيل إلى حماية مصالحه (وبالتالي مصالح إيران) في المنطقة. وفي ظل افتقار خطاب المقاومة إلى القوة التي تضفي إليه الشرعية، فإن قاعدة الدعم الإقليمي (وربما المحلي) الذي يتمتع بها الحزب قد تفقد الثقة في كلٍ من “حزب الله” وطهران.
وفي الواقع، يربك هذا المأزق “حزب الله” منذ عام 2006. فعلى الرغم من انخراطه في هجمات مدروسة على مدى شهرٍ كاملٍ على طول الحدود، فقد تحوّلت القوة العسكرية للحزب إلى نقطة ضعف من نوع ما، لأن استعراض عضلاته أكثر مما كانت عليه أساساً من شأنه أن يزيد من خطر التعرض لرد إسرائيلي كبير. ولطالما استخدم “حزب الله” التهديد الذي تشكله ترسانته التي تتطور أكثر فأكثر كرادعٍ ضد إسرائيل. لكن نصر الله يعلم أيضاً أن هذه الأسلحة نفسها – وخاصة صواريخها الموجهة بدقة – ستفقد قيمتها الأساسية إذا بدأ “حزب الله” بإطلاقها، لأن قوات الحزب وأصوله ستتعرض بسرعة لحرب مدمرة. ومع ذلك، فمن خلال تخييب التوقعات الإقليمية بشأن رد عسكري كبير وفعال وموحد ضد إسرائيل، قد يتكبد نصر الله تكاليف أخرى. باختصار، سيتعرض الحزب لانتقاد شديد سواء ألجأ إلى التصعيد أم لا.
كما تحدث نصر الله بإيجازٍ عما قد يحدث عندما تنتهي حرب غزة وتعيد إسرائيل صب اهتمامها الكامل على لبنان والصواريخ الخطيرة لـ “حزب الله”. ولم تعد على الأرجح استراتيجية الردع التي اعتُمدت لمدة سبعة عشر عاماً صالحة الآن بعد أن تكبدت إسرائيل خسائر مروّعة على يد عدو آخر مجاور لها في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وحتى قبل حرب غزة، كان التصعيد الذي لجأ إليه “حزب الله” على الحدود يغير حسابات إسرائيل على ما يبدو. واليوم، توصلت العديد من الدول إلى استنتاج مفاده أنه من الضروري احتواء جماعات مثل “حماس” و”حزب الله” قبل وقوع هجوم آخر مثل ذلك الذي وقع في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. بالإضافة إلى ذلك، أعادت الولايات المتحدة ترسيخ وجود عسكري قوي جداً في المنطقة، وحتى لو تبيّن أن بعض عمليات الانتشار هذه مؤقتة، إلّا أن النشاط الدبلوماسي الأخير الذي أظهرته إدارة بايدن في الشرق الأوسط يشير إلى تصميم طويل المدى على منع التصعيد بعد الحرب.
ويبدو أن نصر الله يدرك هذه التحولات، وقد أشار إلى عدم رغبة “حزب الله” في تغيير سياسة الردع على طول الحدود إذ قال: “عمليات المقاومة في الجنوب تقول لهذا العدو الذي قد يفكّر بالاعتداء على لبنان أو قيامه بعملية استباقية أنك سترتكب أكبر حماقة في تاريخ وجودك”. ورغم أن هذه الملاحظة كانت غامضة وتم صياغتها كتحذيرٍ ضد أي عمل إسرائيلي، فقد أوضحت بشكلٍ أساسي أن “حزب الله” لن يلجأ إلى التصعيد ما لم تشن إسرائيل حملة واسعة النطاق وغير متوقعة عبر حدودها الشمالية.
ولكن على الرغم من الحذر الخطابي الذي توخاه نصر الله، يبقى الواقع هو أن المزيد والمزيد من الاشتباكات العسكرية تحدث يومياً على حدود لبنان، وبالتالي فإن مخاطر الحسابات الخاطئة آخذة في الارتفاع أيضاً. وسواء أأراد ذلك أم لا، فقد يجد نصر الله نفسه في نهاية المطاف مضطراً إلى إلقاء خطابٍ مختلفٍ تماماً في خضم التصعيد غير المقصود مع إسرائيل. وبدلاً من ذلك، قد يحسّن “حزب الله” ذات يومٍ وضعه المالي ويعزز معدّاته العسكرية لكي يصبح مستعداً بالفعل لمواجهة إسرائيل في صراعٍ شامل.
وفي كلا الحالتين، يتعين على الولايات المتحدة وشركائها الاستمرار في الإشارة إلى “حزب الله” وإيران بأنهم مستعدين للرد إذا أخطأ الحزب في تقدير المستوى الحالي لهجماته أو غيّر تكتيكاته. وعلى الولايات المتحدة وشركائها أيضاً البدء بصياغة سياسة جديدة تجاه إيران تتصدى لجميع الميليشيات الإيرانية والأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وإلا، سيكونون عرضةً لتكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على حدودٍ أخرى.
حنين غدار هي “زميلة فريدمان الأقدم” في “برنامج روبين حول السياسة العربية” التابع لمعهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى