
رغم منع السلطات المصرية الراغبين في الوصول إلى رفح، فإن ما أحدثته ” قافلة الصمود” فاق كل التوقعات، فأهمية هذه المبادرة السلمية والمدنية الشعبية ليست في مدى قدرتها على كسر الحصار الصهيوني، لأن ذلك يفترض أن تقوم به الجيوش عندما يتحمّل حكامها مسؤولياتهم، أما النشطاء المدنيون فأسلحتهم مختلفة، وقدراتهم تُقاس بمقاييس أخرى.
تونسياً، أحدثت المبادرة رجّة إيجابية في صفوف عموم التونسيين، حيث أصبحت حديث الشارع، وأظهرت ما يحمله مواطنو هذا البلد من حب وتعلّقٍ بفلسطين، واستعداد للتضحية من أجل مساعدة أشقّائهم الجائعين الذين يميتهم العدو المشترك يومياً. لقد تخلّى معظمهم عن خلافاتهم، واتّجهوا نحو هدف واحد هو نصرة المظلومين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت. لقد استعاد التونسيون بفضل هذه المبادرة المشاعر نفسها التي عاشوها أيام الثورة، من حيث الاندفاع التلقائي وتبادل مشاعر الحب والصدق والبذل من دون حساب سياسي أو أيديولوجي أو حزبي. حصل ذلك باستثناء مجموعاتٍ قد تشكل أقلية سمحت لنفسها باتهام أصحاب المبادرة بالسذاجة و”التخونج” واستغلال القضية من أجل غايات غير وطنية وغير بريئة. ولكن الأنظار، بعد تعطيل القافلة في قلب الصحراء، توجهت نحو السلطة التونسية لمعرفة كيف ستتصرف مع النظام المصري الذي تربط بينهما علاقات قوية.
مغاربياً، حصل الشعور نفسه، حيث انتفت الخلافات بين الجزائريين والمغاربة، وجمعهم التعلق بالأقصى، والرغبة في أن يكونوا قريبين من أهل غزّة ليشعروهم بأن مصيرهم مشترك. وقد كشفت مواقع التواصل الاجتماعي عن غضب شديد في أوساط الجزائريين بعد احتجاز الأمن المصري وفداً جزائرياً في مطارالقاهرة. وقد يزيد ذلك في توتير العلاقات بين البلدين.
مصرياً، بدا المشهد غريباً ومتناقضاً، فالقافلة أربكت السلطة ودوائرها التي صمتت في البداية قبل أن تقرّر منع القادمين من أجل التضامن مع فلسطين، وهو موقف يصعب فهمه، حيث التصدّي للآلاف الذين توجّهوا إلى القاهرة، والقادمين من حوالي 80 دولة، وجرى احتجاز بعضهم وترحيل آخرين. ونظراً إلى طبيعة العلاقة بين خليفة حفتر في ليبيا والنظام المصري، صدرت التعليمات لمنع القافلة من الوصول إلى الحدود المصرية. وفي مقابل هذا الموقف الرسمي ذي التداعيات السلبية على سمعة مصر، طالب آخرون في مصر، وفي مقدّمتهم أحزاب المعارضة، بتمكين القافلة من الدخول، ومصاحبتها نحو رفح للتضامن والاحتجاج. ويتواصل الخلاف والضغط من أجل تغيير الموقف وتعديل البوصلة، حتى تلتقي إرادة الشعوب مع سياسات أصحاب القرار.
في غزّة، تابع الأهالي حركة هذه القافلة قبل أن يفاجئهم العدوان الإسرائيلي على إيران، الذي سيغيّر معطياتٍ عديدة. هم لا يؤمنون بالمعجزات، ولا يعتقدون أن القافلة ستغيّر موازين القوى، لكنهم راهنوا على تأثيرها السياسي المحتمل من خلال تكثيف الضغط على العدو المناهض كل شعوب الأرض، التي يزداد وعيها بخطورة العصابة الظالمة المتحكّمة في تل أبيب، والعمل على مزيد فضحها أمام العالم، عسى أن يُحدث الله من خلال ذلك كله انفراجة تُخرجهم من حالة الضيق واليأس التي يمرّون بها.
هناك تغيير مهم يحصل في العالم، فالعزلة الدولية التي يعيشها الكيان الصهيوني غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد اكتشفت الشعوب مدى خطورة الصهيونية وقدرتها على تهديد الحضارة الإنسانية، فالصراع معها لم يعد يدور ضمن نطاق جغرافي ضيق، وإنما يتّسع حجمه وتأثيره يوماً بعد يوم، وهو ما جعل بعضهم، منهم المعلق الصحافي توماس فريدمان، يرفعون أصواتهم عالية للقول إن الصهيونية أصبحت خطراً على اليهود في كل العالم.
في هذه الظروف التي تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط وبقية العالم، وأمام تغوّل إسرائيل غير عابئة بالمؤسسات والمواثيق الدولية، قد تصبح قافلة الصمود المعلقة داخل ليبيا بلا جدوى في هذا السياق، حسب ما يعتقد بعضهم، لكن ذلك لن يقلل من الرصيد الرمزي الذي تحقّق، فالتحدي الجيو سياسي أكبر وأصعب، ويحتاج عوامل أخرى، لكن المهم أن يستمرّ التراكم النضالي، وأن تبقى الجماهير واعية ومشاركة في إدارة الصراع.
المصدر: العربي الجديد