يدفعون إلى العنف ويدينونه

راتب شعبو

بعد إدانة قتل المدنيين، وإدانة كل أنواع الجرائم التي يرتكبها هذا الطرف أو ذاك، والكلام عن الردود المتناسبة وغير المتناسبة … إلخ، يبرُز سؤال تلقائي: لماذا الإلحاح الشديد على هذه الإدانات، والسكوت التام عن إدانة انتهاك مستمر لحقوق صريحة يعرفها ويقر بها المجتمع الدولي منذ عقود، ويعرف الجميع أنها مصدر (ووقود) الانتهاكات الحالية التي لا يكفّ العالم عن المطالبة بإدانتها؟

ما يجري في الواقع يتجاوز هذا السؤال البسيط المتكرّر. يتم استخدام إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين (من الحقّ إدانة قتل المدنيين) ليس فقط من أجل تبرير قتل أضعاف مضاعفة من المدنيين الفلسطينيين، بل أيضاً، وهو الأهم، من أجل تمرير واقع انتهاك الحقوق الوطنية الصريحة للشعب الفلسطيني وتكريسه. هذا هو أخطر ما يجري، وهذا ما يجعلنا نقول إن الإلحاح الشديد على إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين بوجه خاص (يكتفي الغرب الرسمي بإبداء الأسف، ولا يدين قتل المدنيين الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزّة)، لا يصدُر عن حرصٍ على المدنيين، بقدر ما يصدُر عن حرصٍ على محو حقوق وطنية، وإخفائها وراء دخانٍ كثيفٍ يُثار حول عملية 7 أكتوبر التي نفّذها مقاتلو حركة حماس، وراح فيها مدنيون إسرائيليون.

يسير المنطق السياسي السائد في الغرب حيال ما يجري في فلسطين اليوم في الواقع عكس المنطق، فبدلاً من اعتبار أن العدالة هي الأساس الذي يُبنى عليه السلام، ومن شأنه أن يفكّك تشكيلات العنف، يذهب إلى اعتبار أن القوة الكاسحة (قوة الجيش الإسرائيلي مسنوداً بأقوى الاقتصادات وأقوى مصانع الأسلحة وأقوى الجيوش في العالم) يمكن أن تبني سلاماً على جثة العدالة، على غرار حروب المستوطنين الأميركيين ضد الهنود الحمر. غير أن هذا المنطق الإجرامي، لسوء حظ أصحابه، لا يمكن تطبيقه في القضية الفلسطينية التي لها مكانة مهمة لدى شعوب واسعة، تشمل ليس فقط الشعوب العربية، بل وغالبية المسلمين في العالم. ما يعني أن هذه القضية غير قابلة للموت، وأنه لا يمكن حلها بالقوة بل بالعدل.

يمكن لكاتب عربي بارز مثل الطاهر بن جلون أن يكتب، في دورية فرنسية، تماشياً مع الموجة الغربية الكاسحة لإدانة عملية طوفان الأقصى وعزلها عن كامل سياق الصراع، إن القضية الفلسطينية ماتت في 7 أكتوبر. أي أن الانتهاكات التي جرت في هذا اليوم بحقّ أفراد مدنيين إسرائيليين، وهي ممارسات مدانة بحد ذاتها من غالبية الناس، تلغي الانتهاكات الإسرائيلية التي سبقتها وتلتها، وتجعلها منسيّة، وهي انتهاكات بحقّ شعبٍ كامل، كما تجعل قضية هذا الشعب تموت. ولكن يمكن لأي متابع أن يقول إن العالم يفكّر في الموضوع الفلسطيني اليوم أكثر مما كان يفكر فيه قبل عملية طوفان الأقصى. وهذا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يعيد العملية إلى سياقها، حين يصرّح بأن هجمات حماس لم تأت من فراغ. ويتذكّر معظم سياسيي العالم القرارات الدولية الخاصة بفلسطين، ويفكّرون في أسباب فشل اتفاق أوسلو … إلخ. وفي المحيط العربي، يلغي زعماء عرب لقاء قمّة مقرّراً مع الرئيس الأميركين بايدن، خلال زيارته التضامنية مع إسرائيل، ويرفض زعماء دول عربية وإسلامية توقيع بيان مشترك لا يطالب بوقف القصف على غزّة، وذلك كله تحت ضغط حراك شعبي واسع لدعم غزّة.

يقول هذا كله إن الموضوع الفلسطيني بعد “طوفان الأقصى” هو أكثر حياةً مما كان عليه قبلها، وذلك على عكس الكلام عن موت القضية الفلسطينية. صحيحٌ أن الاهتمام بالموضوع الفلسطيني اليوم ثمنه دم فلسطيني غزير وآلامٌ مهولة، لكن من يراقبْ يرَ أن مسيرة الإجرام الإسرائيلي المتمثلة في القمع والقتل والتضييق والحصار والمصادرات والتوسّع وتفتيت المناطق وتقطيعها كي لا يبقى مكان للكلام عن دولة فلسطينية … إلخ، كانت متواصلة ولا تكفّ عن تغيير الواقع بصورة يومية في اتجاه تمويت القضية الفلسطينية، مدعومة بتفوّق هائل في القوة العسكرية والاقتصادية، قياساً على ما يملكه الفلسطينيون، من دون أي إدانة أو ردّ فعل عالمي مؤثر.

من يراقبْ يرَ أن العالم لا يتوقّف للنظر في الموضوع الفلسطيني إلا عقب عملية فلسطينية. وقد مالت العمليات في الفترة الأخيرة إلى أن تكون فردية في مناطق الـ48، مثل عمليات الطعن أو الدهس. وهذا في حقيقته تعبير عن يأس المظلوم، وليس عن نزوعٍ جُرمي، كما يحاول التيار الرئيسي من الإعلام الغربي تصويره. وفي الضفة الغربية، ظهرت في السنوات القليلة الماضية جماعات مسلحة، مثل كتيبة جنين ومجموعات عرين الأسود، للتأكيد على البندقية، وهذا تعبيرٌ عن فشل اتفاق أوسلو، وعن اليأس من الحلول التفاوضية المجرّدة من قوّة السلاح. الدرس الذي يحشر نفسه حشراً في رأس كل فلسطيني أن المقاومة سبيل التحرّر. “بشرف عرضكم لا تتركوا البارودة”، هذه وصية سريعة بأنفاسٍ لاهثة قالها، قبل حوالي سنة، أحد المقاتلين الفلسطينيين وسط اشتباكه مع قوات الاحتلال، قبل استشهاده بقليل.

إدارة الظهر لحقٍّ منتهك تولّد عند صاحب الحقّ دوافع قتالية، ويمكن له أن يتجاوز في اندفاعه ويأسه أخلاقيات القتال وحتى القيم الإنسانية. نرى هذا ضمن المجتمعات الديمقراطية نفسها. حين تدير الحكومات ظهرها لمطالب المحتجّين مراهنة على تعبهم وتخامد قواهم، يميل بعض المحتجّين إلى تخريب الممتلكات العامة والخاصة بالحرق والتكسير، كي يُرغموا الحكومة على معالجة مطالبهم. وقد حمل هذا السلوك التخريبي هناك اسم “بلاك بلوك”، وبات له منظّرون وأتباع.

لا يختلف الأمر كثيراً هنا، لا غرابة في أن تخرُج من الشعب المظلوم والمنتهكة حقوقه من دون أمل باستعادتها بالسياسة، مجموعات “انتحارية” لا تبالي بحياتها، كما لا تبالي بالعالم وحساسياته. المفارقة أن هذه المجموعات التي يدينها أصحاب القوّة العالمية بأشد العبارات، وحدها التي تجعل العالم يعيد التفكير في سلوكه تجاه الشعب الذي خرجت منه هذه المجموعات. العالم الحالي المنحاز للأقوياء والضعيف الحساسية تجاه حقوق الضعفاء إنما يعمل، في تواطئه مع مغتصبي الحقوق، على بروز الجماعات العنفية التي لا يكفّ عن إدانتها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لماذا هذا العهر الغربي الذي يعتبر القوة الكاسحة (قوة الجيش الإسرائيلي المستند بأقوى دول العالم) يمكن أن يبني سلاماً على جثة العدالة، على غرار حروب المستوطنين الأميركيين ضد الهنود الحمر ، الكيل بمكاييل التآمر على الشعوب وفرضه فقدان الأمل بالحصول على حقوقها سياسياُ ، لتَّخرج مجموعات “انتحارية” لا تبالي بحياتها، كما لا تبالي بالعالم وحساسياته لتحصل على حقوقها بالعنف الثوري .

زر الذهاب إلى الأعلى