قراءة في رواية : المئذنة البيضاء

أحمد العربي

يعرب العيسى روائي سوري ، المئذنة البيضاء روايته الأولى التي تجاوزت الأربعمائة صفحة. وهي تعتمد التقنية التقليدية في السرد الروائي حيث تبدأ بمقدمة من الراوي الذي سيتكلم عن بطل روايته بأسمائه المتعددة و حياته الخصبة الممتلئة والكثيفة لأربع عقود تقريبا.

غريب الحصو الشخصية المحورية في الرواية ولد في عمق الصحراء السورية والده كان عسكريا حاكمة مسؤوليه العسكريين بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧م واعدموه بتهمة الخيانة. كان غريب طفلا صغيرا. تخلت أمه عنه إلى  جدته بعد موت والده. عاش في كنف جدته حتى ماتت وقبل موتها أعطته لقريبة له على انها عمته. وهكذا نشأ منذ طفولته في حواري دمشق القديمة. كان متلهف ان يكمل دراسته ويصنع من حياته ما يرد اعتباره لنفسه قبل الآخرين. عمل في مسح زجاج السيارات أمام القصر العدلي في دمشق. وعندما رأى والدته تتشاجر مع احد الرجال من زيجاتها التي تعددت غادر الى مكان آخر وهو باب شرقي يتابع ذات الاعمال وهناك وجد نفسه في مواجهة مئذنته البيضاء التي علم  غريب من قراءاته ومن سرديات الكثير انها ستكون المكان الذي سيعود إليه المسيح عليه السلام ليقتل المسيح الدجال ويملأ الأرض عدلا بعدما ملئت بالجور…

بعد موت عمّة غريب انتقل للسكن في الأطراف العشوائية في دمشق في بيوت فقيرة وبشروط قاسية. يعمل بأي عمل ليؤمن لقمة عيشه. وكان كل الوقت حريصا أن يتابع دراسته ولو دون التزام بالمدرسة. كان يدرس بما يبقى له من وقت ويقدم الامتحانات وينجح ودخل الجامعة ملتحقا في كلية الحقوق…

كان غريب حاقدا على الحياة وعلى الدنيا مما عاشه من معاناة وآلام . قرر في ذاته أنه سيعمل بكل طاقته لينتقم من الأيام السود التي عاشها. ليتحرر من عاره العائلي ومن ماضيه. لقد اصبح الشر سيد حياته ومثله الاعلى…

في عام ١٩٨٤ بدأ غريب رحلة عمل جديدة في حياته فقد طرد من منزله في الدويلعة شرقي دمشق ليسكن فيه من يدفع للمؤجر أكثر. اخذ قرارا بالذهاب الى بيروت ليعمل هناك مثله مثل أغلب السوريين.

عمل هناك في أعمال دنيا حتى كان مستقره في عمل عند القسام في فندقه الذي يستخدمه في جميع أنواع الممنوعات: دعاره، قمار، صالة خمور وتجارة مخدرات …

عمل غريب بتفاني ليثبت جدارته عند سيده الجديد. الذي كان على تواصل مع كل الأطراف اللبنانية المتصارعة آنذاك، له قنواته ومصالحه و حظوته ايام الحرب الاهلية اللبنانية، بنا فيهم بالطبع قيادات مخابرات وجيش النظام السوري في لبنان. فهم الحكام الحقيقيين هناك. حيث كان قد دخل النظام السوري الى لبنان قبل سنوات وأعاد ترتيب لبنان وقواه المتصارعة وضبطها على ايقاع المصلحة السورية. من امتثل اخذ حيزا ووجودا ومن اختلف إصابة البطش السوري وكان الفلسطينيين اول الضحايا بدء من مجازر تل الزعتر حتى طرد الثورة الفلسطينية وقيادتها من لبنان نهائيا…

عمل غريب في الاعمال الدنيا بمواظبة ومثابرة ، عينه على معلمه الذي يدرسه عن بعد ويكتشف ولاء منقطع النظير. كان يخطط أن يدخل في عقل القسام معلمه ومن ثم معه في العمل ليصل الى مراده بأن يكون يوما المعلم الكبير الذي ينتقم من الحياة كلها…

كان يعمل كل الوقت أجره طعامه ومكان نومه. بعد مضي وقت طويل. طلب من معلمه اجازة ليذهب ليقدم فحوصات الجامعة ، فاجأ معلمه أنه لم يطلب مالا. وكانت هذه اول خطوة للدخول في عقل المعلم ومن ثم في قلب عمله حتى يحتله غريب اولا بأول…

ترقى غريب ليكون المسؤول عن تسيير شؤون الاعمال الدنيا كلها في فندق القسام ، كافأه ايضا بأن أطلق عليه لقب مايك الشرقي بدل مايك الأجنبي الذي كان يقوم بهذا الدور سابقا. وكافأه ايضا ان جعله ينام ولأول مرة مع إحدى الفتيات اللواتي يعملن في الدعارة في فندق القسام…

رويدا رويدا بدأ يقتنع القسام بجدارة غريب الذي صار اسمه مايك. وبدأ يطلعه على مسار أعماله. وبعد مضي سنوات قرر القسام أن يعطي مايك حصة في اعماله. وكان حريصا دوما أن يحتفظ بكل اوراق الاتفاق مع مايك وامكانية الغاءها…

كان للقسام ابنتين من زواج سابق كبرتا وابعدتا عن عالم الأب الفاسد زوجهما من شخصيات مسؤولة وتابعوا حياتهم بعيدين عنه…

ومرت السنين وانتهت الحرب الاهلية اللبنانية ومايك يزداد معرفة وحضورا في اعمال القسام الى درجة متابعة أعماله بشكل شبه مطلق. عرف كل اسرار معلمه وخطط للانقضاض عليه كطريدة عندما تأتي الفرصة…

جاءت الفرصة عندما مات القسام بالسكتة القلبية عندما كان يحاول ممارسة الجنس مع إحدى داعراته…

استغل مايك الفرصة فتح الخزنات وثق العقود لمصلحته حصل على بصمة معلمه وهو ميت زور توقيعه. أحكم قبضته على كل ما يملكه معلمه.

بين عشية وضحاها اصبح غريب – مايك صاحب ملايين الدولارات ذهب مجوهرات املاك عقارات الخ…

استطاع مايك أن يحصل من ورثة القسام على مايريد من متابعة أعمال معلمه . بعقود ايجار او شراء بعيدة الأجل…

عندما اصبح مايك صاحب الأعمال بدأ بخلق طاقمه من المحيطين به في مؤسسة معلمه السابق. وبدأ بالتوسع بالأعمال. لم يترك مجالا من الممنوعات إلا وعمل به. الدعارة والقمار وتجارة المخدرات والكحول المغشوشة. فنادق صنع الصفقات المشبوهة توسع خارج لبنان وصل الى الامارات دخل في اعمال العقار وبناء الأبراج هناك. ربط مع اجهزة السلطة في كل دولة وصل إليها. له مداخيل مع الكثيرين من المسؤولين. حصل على الجنسية اللبنانية. ثم على عشرات الجنسيات العالمية ومنها الأوروبية. وسع عمله الى السفن السياحية التي تجوب البحر المتوسط كل الوقت ويمارس عليها كل أصناف الشذوذ والفجور . أصبح مايك امبراطورا في مملكة فساد وممنوعات تمتد عبر العالم…

كانت السنوات تمر على مايك استمر بانتقامه من العالم كله. تصرف كرسول صاحب رسالة. رسالة الشيطان في توطين الشر ونشر جميع انواع الموبقات والرذيلة. لا رحمة في قلبه. حاول ان يساعد طفلة فقدت اهلها عبر ممرضة راهبة نذرت نفسها للخير . فشل مع الطفلة التي تبناها وانكرته وطردته من حياتها. ماتت الممرضة وهي تأمل ان تتوالد داخل روحه نبتة خير لم يجد أي حضور لها داخل نفسه…

توسعت أعمال مايك جدا ، اصبح واحد من مليارديرات العالم إذا أحصينا كل ما يملك. وكان هناك أخيرا تسريب معلومات عن حقيقة أعماله. لم ينفعه تغطياته لها المتنوعة. أصبح مطلوبا دوليا لقضايا المخدرات وتبييض عملة وغيرها في بعض البلدان. خسر بعض امواله. وحول الباقي بسرعة الى الصين التي استقبلت الملياردير مايك وأمواله بصدر رحب. هو مستثمر تعرف حقيقته لكنها تعرف كيف تستفيد من أمواله التي نقلها اليها بوقت قياسي…

عندما بدأت الثورة السورية عام ٢٠١١م كان مايك قد عاش الحصار الدولي وبدأ يفكر بالعودة إلى دمشق ويتفيأ في ظل مئذنة باب شرقي. عاد الى حلمه السابق وفكر انه سيعود الى دمشق منتقما من أيامه السوداء السابقة. التي لم تتركه يوما. امه لجأت له وطردها. بعثت له اخته من زيجات اخرى. عاشرها كعاهرة وعرف بعد ذلك انها اخته أرسلتها أمه له لتنتقم منه. أعاد اخته الى سوريا وساعدها حتى تبني حياتها بعيدا عن الدعارة. اما امه فقد ماتت مدهوسة في حادث سير…

كان حلمه العودة الى دمشق وأن يمتلك الأراضي شرق باب شرقي حيث المئذنة كان ذلك صعبا. لان بعضها ملكية للدولة وبعضها عشوائيات واوقاف اسلامية ومسيحيّة وعندما حدثت الثورة أصبحت بعد وقت منطقة صدامات بين النظام والمجموعات المسلحة…

استفاد مايك من شبكة علاقاته مع النظام منذ تواجدهم في لبنان. ومن ماله الذي قدمه بسخاء للمسؤولين. وبدأ يخطط للحصول على هذه الأراضي بأي شكل. دعم النظام في بطشه على تلك الأماكن. دعم بعض المجموعات المسلحة وخلق بعضها من العدم. قام بحملة اعلامية كبيرة عن إرهابيين متواجدين هناك انتهت إلى تحويل المنطقة إلى منطقة حرب صب النظام عليها كل قوته جوا وأرضا وحولها إلى ركام. عند ذلك دخل مايك وشركاته ليشتروا هذه الأرض الخراب وليجهز لصناعة معجزة غير مسبوقة ابراج وجامعات وحدائق كلها تكون منتظرة نزول المسيح ليقوم بدوره على الأرض…

في هذه الفترة وبعد أن أعاد مايك أغلب ثروته الى سوريا. و تملك الأرض التي حلم بها شرق مئذنة باب شرقي وجمع أهم العقول السورية في كل المجالات ليقدموا له رؤية لما يجب أن يفعله في هذه البقعة. بدء من الشيخ المتنور حتى اختصاصات الجامعية كلها…

حتى ذات الوقت لم يتواجد في نفس مايك أي مساحة خير من اي نوع. وعندما بدأ التجول في دمشق بعد مضي سنوات الثورة الاولى. وبدأت تظهر الفاقة والفقر و المهجّرين الهاربين من بلداتهم المدمرة المنكوبة في شوارع دمشق. كان يشاهدهم مايك في جولاته اليومية. وبدأ يساعدهم ويعطيهم من أمواله الكثيرة. كان يقوم بهذا الدور استعراضا أول الأمر وكأنه يتذكر ايام فاقته في طفولته. وبدأ يدخل دور الإنسان المعطاء اول بأول وأصبح مع الوقت أقرب للرجل الصوفي الذي يعيش ليتقرب إلى الله في تعبده. اما مايك فقد كانت ثروته هي طريقة تقربه إلى الله. الذي لم يكن يؤمن به. ولم يعلن انه آمن به مجددا، ولم نعلم حقيقة مشاعره عندما بدأ يوزع أمواله يمينا وشمالا. ولا عندما حولها الى ملكيات موثقة عبر محاميه لينقلها الى من يراهم يستحقون المعونة من الفقراء والمشردين والمهجرين…

فريقه المرافق له في كل شيء اجتمع ليبحث عن حل لمواجه جنون معلهم مايك المبذر لثروته التي تزيد عن مئة  مليار من الدولارات…

تنتهي الرواية هنا…

هل وزع ثروته.. ؟ . ام منعه فريقه الذي يحيط به ويعمل لمصلحته ؟… لم نعلم الجواب.

في التعقيب على الرواية اقول:

لا استطيع الا ان اعبر عن انبهاري من القدرات الأدبية والمعلوماتية والمتابعة والترصد والدقة بحيث تظهر الرواية وكأنها أقرب الى مذكرات شخصية حقيقية منها الى رواية مختلقة …

كما لا استطيع ان استغرب واتساءل لماذا تكتب رواية بكل هذا الحجم وهذا الجهد تترصد عالم الموبقات البشرية. الجانب الأسود من حياة الإنسان. الدعارة بصفتها مأزق إنساني عند المرأة الداعرة اولا. وكونها مهنة تستغلها غالبا شبكات وتكون ضحيتها المرأة الداعرة اولا. يتم استغلال الجنس الغريزة الاقوى في البشر تلبية غير سوية وغير شرعية. يضاف الى ذلك جميع أنواع الشذوذ من مثلية وغيرها أصبحت مشرعنة عند اغلب الدول الغربية… لكنه هنا ظهرت كتجارة رقيق جنسي تستعمل فيه المرأة كسلعة وهذا أسوأ ما في الدعارة …

كذلك القمار والمخدرات والكحول ادارة وتعاطي وتجارة. كلها تؤدي لضرر فردي ومجتمعي.

كما تظهر ترفا يقوم به الأثرياء ليشبعوا غرائز يبدوا انها لا تشبع. هذا غير الجانب الاسوأ لتجارة المخدرات التي لها دور كبير في تدمير المجتمعات والشعوب بحيث أصبحت تسمى بجدارة الحرب عبر المخدرات التي يتقنها النظام المستبد السوري…

أما امبراطورية الشر هذه التي بناها مايك من الدعارة وتجارة الممنوعات والرقيق الحي والرقيق الأبيض. هل هي اشارة الى تجار العالم من الدول الغربية أمريكا وأوروبا وروسيا وايران وغيرهم تجار الحروب وقتل الشعوب. أم هي تغطية عليهم.؟…

ونصل الآن إلى نقطة ضعف الرواية  رغم كل التقريظ الذي ذكرته بحقها سابقا. وقبل التفصيل اقول ان اي عمل ادبي والرواية خاصة ان لم تكن مرآة لحقائق الحياة و انتصارا لحقوق الفرد كإنسان وحقوق الجماعة بالكرامة والحرية والعدالة في حياتهم. فانها تكون اما شهادة زور عن الحياة او تزييف لها أو تغطية عن الجرائم بحق شعوبها خاصة فيما حصل في سوريا بعد ربيعها الذي بدأ في عام ٢٠١١م…

عندما تحدثت الرواية عن سوريا التي عاد إليها مايك وملياراته. لم يتوسع الكاتب بالحديث عما يحصل في سوريا. ؟. رغم أن ما حصل في سوريا وصلت أصداؤه لكل الدنيا وأصوات ضحاياه تقرع أبواب السماء. مليون شهيد ومثلهم مصابين غير عشرات آلاف المعتقلين وثلاثة عشر مليون إنسان مشردين داخل سوريا وخارجها. سوريا المحتلة من روسيا وإيران وحزب الله وامريكا والميليشيات الكردية الانفصالية والنظام الذي أصبح يمثل كيانا طائفيا مجرما. اضافة الى المناطق المحررة شمال سوريا…

سوريا هذه تحدث عنها الكاتب عبر الرواية بصفتها مجموعات مسلحة تخلقها قوى لها مصالحها. حيث خلق مايك مجموعة ودعم اخرى ودعم النظام…

انه استهتار بمظالم السوريين عبر عقود اربعة الذين ثاروا في سوريا على امتداد الخارطة. واستهتار في الضحايا واستهتار بمصائر السوريين الذين فقدوا حياتهم وبلادهم و اولادهم في المعتقلات او غرقا في البحار أو مشردين في دول الدنيا او في مخيمات الذل والجوع والفاقة…

هل ثمن أن تكتب من دمشق وتستمر العيش في دمشق أن تبيع بلدك وشعبك وضميرك المهني برواية يبتسم لك فيها المسؤول الأمني ويشد على يدك ويقول لك انت رمز الأدب السوري المنتمي للبلاد…

نعم بلاد محروقة ومسروقة من أهلها وخراب…

بكل الأحوال اختم:

قال تعالى(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)﴾ [الرعد] صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “المئذنة البيضاء” للروائي السوري “يعرب العيسى” قراءة جميلة مع التعقيب للمبدع “احمد العربي” رواية تتبع السرد الروائي لشخصياتها ،

زر الذهاب إلى الأعلى