لنبدأ حديثنا بتحليل صناعة الفكر، حيث إن سيكولوجيا التوافق مع ما يدور حولك والفاشية الفكرية التي نعيشها هذه الأيام، يحللها الفيلسوف السياسي تاكيس فوتوبولوس، في تعليقه على رواية المطابق 1951 The Conformist by Alberto Moravia للكاتب الكبير البيرتو مورافيا؛ “هي صورة جميلة لهذه الحاجة النفسية للتوافق وأن تكون” طبيعياً “على المستوى الاجتماعي بشكل عام، وعلى المستوى السياسي بشكل خاص “.
رواية المطابق (The Conformist) للكاتب الكبير Alberto Moravia، عبارة عن دراسة حالةٍ في سيكولوجية التوافق الاجتماعي والسياسي وارتباطها بالفاشية: مارسيلو كليريتشي Marcello Clerici بطل الرواية بيروقراطي، مثقف ولكنه غير إنساني إلى حد كبير بسبب حاجته الشديدة إلى أن يكون “إنساناً طبيعياً ” وأن ينتمي إلى أي مجموعة اجتماعية سياسية سائدة في وقته. نشأ مارسيلو في طبقة ثرية، ربما عائلة مختلة، وعانى من صدمة جنسية كبيرة في مرحلة الطفولة وحلقة عنف مسلح كان يعتقد لفترة طويلة (خطأً) أنه من خلالها قتل سائقه الذي حاول الاعتداء عليه جنسياً في طفولته. يقبل مارسيلو مهمةَ من الشرطة السرية لموسوليني لاغتيال معلمه السابق الأستاذ كوادري Quadri، الذي يعيش في المنفى في باريس. في توصيف بسيط لشخصية مارسيلو وهو ما يهمنا، مارسيلو على استعداد للتضحية بقيمه من أجل بناء «حياة طبيعية» مفترضة يندمج فيها مع المجتمع حوله، حتى لو كان هذا المجتمع فاشياً مع موسوليني أو ليبرالياً رأسمالياً مع نهاية الرواية.
مارسيلو Marcello بطل رواية المطابق The Conformist ينفق الرواية بأكملها في البحث عما يعتقده الحياة طبيعية – الأنشطة العادية، والمظهر الطبيعي، والعواطف الطبيعية، وما إلى ذلك. ومع ذلك، فهو يخلط بين الحياة الطبيعية والمطابقة (أو بمعنى أخر التماهي مع مجتمعه والفكر الأيديولوجي السائد)، وفي سعيه للتوافق، يقهر عواطفَه المكبوتةَ بالفعل. عندما يعرِّضُه المسارُ الطبيعي في حياته لمعضلات أخلاقية – كمهمة خيانة أستاذه كوادري Quadri، أو انجذابه للنساء غير زوجته – يكون غيرَ مستعدٍ للتعامل معها. يوحي الكاتب مورافيا Alberto Moravia في روايته أيضاً بوجود صلة قوية بين القمع الجنسي والفاشية، وهذه فكرة مهمة تحتاج إلى الدراسة والتوسع في مجتمعاتنا الإسلامية.
بالإضافة إلى كونها فحصاً لتطور النوع الفاشي الذي نعاني حالياً منه بشدة في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية، فإن الرواية هي أيضاً صورةٌ لشخص مألوف في روايات ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا: الرجل بدون هوية، الرجل الذي هو أداة لعواطفه وقوى المجتمع. علاوة على ذلك، الرواية مخيفة في الكشف عن الإفلاس الفلسفي، حيث مارسيلو يعيش حياة دون أصالة ودون قيمة.
رواية المطابق The Conformist 1951، التي استخدمتها لتحليل شخصية صناع الفكر الذي تعوم به القنوات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي في تشخيص وتحليل وضع الصراع الحالي والتي حاربها دينُنا الحنيف بشدة هي عبارة عن قصة مروية عن رجل هو ضحية جيله ومجتمعه وعصره وفي الوقت نفسه هو مرتكب وفاعل في جرائم عصره. وقد اخترت شخصية مارسيلو بالذات لأنه لم يقم أحد بتحليل أكثر وضوحاً من الكاتب مورافيا للقواعد النفسية للفاشية ونتائجها العدمية.
على المقلب الآخر ،في صناعة الديمغرافية علينا أن نعي أمراً لا غنى عنه للسيطرة السياسية وأحكام طوق السيطرة على البشر المحكومين، ألا وهو صناعة الديموغرافيا، كنا نستهزئ بدايةً في عبثية مخرجات نادي روما الذي أُسِسَ على فكرة تخفيض سكان كوكب الأرض، أو دفعنا للتقيؤ من سماجة فكرة حماية الأقليات التي سوقتها الطغم الحاكمة في بلادنا، و استغربنا جنون حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف عندما أرسل خيرة الخبراء لدراسة فكرة التطهير العرقي التي أقامتها محاكم التفتيش للقضاء على السكان المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، لكن وعينا ولو متأخراً أنه لايمكن لفئة مهما امتلكت من قوة أن تحكم نقيضها من الأكثرية السكانية على المدى الطويل؛ لذا التهجير القسري والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي ضرورة حتمية للقوى المسيطرة التي تحكم نقيضها المجتمعي!
لكن ما فائدة الأكثرية إذا كانت غثاء كغثاء السيل -كما أخبرنا سيد الخلق (ص)؟ هنا نأتي إلى صناعة الفكر وأهميته في معادلة رفع الظلم ومقاومة مشاريع اقتلاع الناس من أرضهم. لن يستطيع أمثال مارسيلو ولو كانوا أكثرية ساحقة أن يقاوموا كل المشاريع بدايةً من محاكم التفتيش مروراً بالتغريبة الفلسطينية والسورية نهاية بالتغريبة الغزاوية؛ لأن المطابق إنسان متماهٍ مع القوى السائدة منهزمٌ أمام قوة وعظمة حضارة رستم (على عكس ربعي بن عامر) وجبروت حاملات الطائرات، وبراغماتية نظام السويفت وعدالة القواعد الرأسمالية من أمثال البترو-دولار وأدوات قياس الثروة وتداولها.
إسرائيل دولةٌ وظيفية ورأس حربة في منظومة فكرية أنغلوسكسونية ألقت بها بين أكثرية ديمغرافية، فقط لاستمرار طباعة نسخ مماثلة لمارسيلو في رواية المطابق بين الأكثرية الزبدية القوام! مقاومة مشروعها يقوم على مشروع بديل بالكامل ينبع من الماء الكامن تحت الزبد. أما كلُّ الماجريات الباقية فلا تعدو إلا مهرجانات ضوضاء بصرية للضوء المنعكس فوق الزبد الذي بالتأكيد يَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
في النهاية صراع الفكر وصراع الديموغرافيا متلازمان – متكاملان لا يمكن التضحية باحدهما على حساب الآخر.