د عبد الله تركماني مفكر سوري مجد ومواظب على متابعة القضية السورية بكل أبعادها. قرأت سابقا كتابه المهم أضواء كاشفة على الثورة السورية المغدورة وكتبت عنه.
العرب وحقوق الإنسان في عالم متغير (الواقع والطموحات في سورية). كتاب د عبد الله تركماني الجديد. هو حصيلة مجموعة دراسات كتبها ونشرها في فترات سابقة. يجمعها موضوع مشترك بينها كلها: حقوق الإنسان كما أنها في أغلبها تنصب على واقع حقوق الإنسان السوري عبر العقود السابقة. وبعد ثورة الشعب السوري في ربيع ٢٠١١م. كما أن هناك دراسات تستشرف آفاق مستقبل القضية السورية خاصة في مجال حقوق الإنسان. وهناك فصل ختامي مهم يتناول القضية الكردية في سورية…
حقوق الإنسان في عالم متغير.
قدم الكاتب عرض تاريخي عن إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام ١٩٤٨م وذلك بعد عيش البشرية ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية. حقوق الحياة بأبعادها الكاملة للأفراد في مجتمعاتها. وتبعتها اصدارات تتحدث عن حقوق المجتمعات والمكونات المجتمعية. وصولا الى اعلان حق تقرير المصير…
لم يغب عن ذهن الكاتب التحدث عن واقع حقوق الانسان المهدورة في كثير من بلدان العالم، ولو أن معايير حقوق الإنسان ترتبط بين تقدم الدول والمجتمعات ومقدار تحقيقها لهذه الحقوق والمحافظة عليها. فغالبا ما تكون الأنظمة الاستبدادية عدوة لدودة لشعوبها وحقوق الإنسان فيها. واغلبها يوقع على مواثيق حقوق الإنسان لكنه ينتهكها في بلاده فلا آليات محاسبة ومتابعة دولية رادعة. واغلب الدول المتقدمة تغض طرفها في موضوع حقوق الانسان المهدورة في كثير من الدول المستبدة ومنها الدول العربية، لأنها تتصرف وفق مصالحها مع هذه الدول وليس وفق شرعة حقوق الانسان.
مفكري عصر النهضة وحقوق الانسان.
عاد الكاتب الى بدايات القرن الماضي وبداية حصول الصدمة الحضارية بين العرب والغرب ووقوف مفكري عصر النهضة. الطهطاوي والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وقاسم أمين وغيرهم كثير. كيف وجدوا في قيم العلم والتقدم والتطور الحديث والتركيز على حقوق الناس وبناء حياتهم الافضل. النموذج الذي يجب اتباعه. وانه لا يتناقض مع هويتنا الاسلامية بل يحقق مضمونها في تحقيق مقاصد الشريعة والصالح العام والتقدم والحياة الأفضل. ..
تناول الكاتب معوقات تطبيق حقوق الإنسان في البلاد العربية. في العقود الماضية. وأهمها نمط الأنظمة الاستبدادية الملكية الوراثية والجمهورية التي صادرت الدولة والسلطة والمجتمع في عموم البلاد العربية. وان هذا يعني أن الاستبداد عندما يكون هو الحاكم في المجتمع فإن الحقوق جميعها تكون منقوصة. وليس حقوق الإنسان فقط. سجون ومعتقلات ودساتير غير مفعلة وقانون مخترق وفساد واستغلال علاقات غير متكافئة مع الدول العظمى وتبعية لها.. الخ.
العنف الجنسي ضد المرأة.
توقف الكاتب عند موضوع المرأة العربية وانها اهم ضحايا حقوق الإنسان مجتمعيا في بلادنا.
العلاقة الغير ندية في بنية العائلة العربية. والفهم الغير صحيح للتشريع الإسلامي في موضوع حقوق المرأة المسلمة. كما اعتماد الأعراف الاجتماعية المسكوت عنها. من العنف المنفلت ضد المرأة. بما فيه العنف الجنسي التي تكون المرأة ضحيته اولا. ومن ثم قد يتم قتلها من ذويها في جرائم “الشرف” وهذا ظلم واضح ومسكوت عنه منذ القديم. وهو يحتاج لإعادة طرح الرأي الإسلامي التنويري الضامن لحقوق المرأة كاملا. وأن لا يغطي اي أحد ظلمه للمرأة بالاسلام. وان يتم بناء قوانين تعاقب اي تعدي على المرأة وحقوقها . كما يجب خلق تربية وتوعية جيل جديد يؤمن ان تساوي الجنسين هو اساس انسانيتهم و إنهما متكاملان في بناء حياة سويّة أفضل للعائلة والمجتمع…
واقع حقوق الإنسان في سورية قبل الثورة عام ٢٠١١م وبعدها.
توسع الكاتب في الحديث عن سورية التي دخلت في عصر الاستبداد منذ انقلاب ١٩٦٣م وإعلان حالة الطوارئ في سورية وهيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع. وان سورية بعد انقلاب الأسد الأب عام ١٩٧٠م أصبحت دولة استبدادية عائلية عصبوية طائفية بامتياز. سيطرت على كل مفاصل الحياة. وكان هدر الحقوق المجتمعية كاملا وليس فقط حقوق الإنسان الاساسية. لقد عايش السوريون الفساد والمحسوبية والظلم والقمع والتقية ومنع السياسة المعارضة. حيث القمع والبطش السلطوي وهيمنة الجيش والأمن على حياة الناس. هذا غير الاعتقالات والسجون ومحاربة المعارضين الى درجة المذابح كما حصل في ثمانينات القرن الماضي والضحايا بعشرات الآلاف. سوريا لم تكن بلاد حقوق إنسان عبر عقود بل بلاد الانسان مهدور الكرامة والحقوق والضحية كل الوقت…
وحتى بعد توريث الأسد الابن السلطة في سوريا عام ٢٠٠٠م. وادعاء الانفتاح الديمقراطي. وولادة ربيع دمشق. الذي تلقفه المعارضين والناشطين السوريين بلهفة ومصداقية. لكن النظام سرعان ما ارتد عن وعوده وبطش بالمعارضين وناشطي حقوق الانسان والمجتمع المدني وعادت سورية جمهورية الصمت والخوف والاستبداد…
لذلك ما ان بدأ الربيع العربي في تونس ومصر ووصل بعد ذلك الى ليبيا واليمن حتى بدأت تلوح في أفق سورية بوادره. رغم تاريخ القمع من النظام. الذي كان هدر البشر وحقوقهم وقتل عشرات الآلاف منهم في سابق حكمه . ومع ذلك خرج الشعب السوري مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية وهذه كلها القواعد الاولى لتحقيق حقوق الانسان كفرد وجماعة. وحصلت ردة النظام الوحشية بالعنف العاري جعل الواقع السوري يزداد سوء. وخاصة عندما عجز العالم عن ردعه. في مجلس الأمن وفيتو روسيا والصين، وتأمين الدعم العسكري والمالي والمقاتلين من روسيا وإيران وحزب الله. وما أن مضى عقد سنوات الثورة حتى تبين حجم الكارثة السورية. حوالي المليون ضحية من السوريين ومثلهم مصاب ومعاق ومئات الآلاف المعتقلين والمغيبين. وثلاث عشر مليون إنسان لاجئ سوري داخل وخارج سورية. وأكثر من نصف سورية مدمر. بنيتها التحتية منهارة. يحتلها الروس والايرانيين والامريكان والنظام اصبح خيال مآته. وبعض سورية محرر تحت الرعاية التركية. هذه سورية المهدور فيها الإنسان فردا وشعبا ودولة، مستلبة حقوقهم…
الاحتمالات المستقبلية لسورية.
يتناول الكاتب احتمالات المستقبل السوري. سواء بقي واقع الحال كما هو بوجود النظام . أو بسقوطه او حصول توافقات دولية وتطبيق بعض من القرارات التي صدرت ومنها القرار ٢٢٥٤. يؤكد ان كل هذه الاحتمالات تحتاج لجهد حقيقي وجعلها ممكنة التحقق على أرض الواقع وإعادة غرس قيم المواطنة والتعايش وإحقاق الحقوق بعد كل ما حدث في سورية…
يبدو هذا الفصل اقرب لخرائط ذهنية في احتمالات مستقبلية لسورية التي في ذهن مفكرينا. بينما الواقع حاله مختلف…
العدالة الانتقالية في سوريا بعد التغيير.
في موضوع العدالة الانتقالية في الدولة السورية القادمة على فرض أن الثورة انتصرت او تحقق توافق دولي على بناء دولة ديمقراطية في سورية. فإن تجارب العدالة الانتقالية عالميا تقدم النماذج التي يجب أن نسترشد فيها. جنوب أفريقيا والمغرب العربي وتونس وغيرهم كثير. جبر الضرر. محاكمة من يثبت تورطه بدم الشعب. وكذلك المسؤولين الكبار من رأس الهرم وما دون. فتح المجال للمصالحة الوطنية. وإعطاء المجال للدخول في المكاشفة العلنية عن حقيقة ما عاشه الناس. الموضوع يحتاج لسنين. ويحتاج أن يعاد خلق اللحمة الوطنية الواحدة. بالطبق وفق دستور توافقي وقانون عادل ومواطنة متساوية وانتخابات ديمقراطية ومجالس نيابية منتخبة…
كل ذلك سيكون بداية تجاوز مأساتنا نحن السوريين…
المسألة الكردية في سورية.
وقد تناول الكاتب القضية الكردية في سورية بصفتها تنتمي لحقوق الأقليات في الدول، والبعض طرحها ضمن مقولة حق تقرير المصير والمطالبة ببناء دولة كردية في سورية.
لقد توسع الكاتب واجاد في تناول موضوع الاكراد في سورية. واكد ان الاكراد في سورية لا يمثلون اغلبية عددية في مناطق تواجدهم في سورية وكذلك موجودين في مناطق متفرقة وفي أغلب الجغرافيا السورية. وانهم موجودين مع مكونات مجتمعية سورية أخرى دينية واثنية عرب ومسيحيين وأرمن وغيرهم…
كما توقف عن صعوبة تطبيق حق تقرير المصير في كثير من الدول القائمة لأنه سيفتح الباب أمام تقسيم الدول وحتى اندثارها. لذلك يجب دراسة كل حالة بدقة ومنها قضية الأكراد السوريين وامتناع ان يخضعوا الى استفتاء حق تقرير المصير. حيث يفصل الكاتب:
تحدث عن مظلومية الأكراد ثقافيا حيث منعوا من تعلم لغتهم وتداولها. هذا غير مشكلة عدم حصول الكثير منهم على الجنسية السورية…
كما عاد الى بدايات العمل السياسي بين الاكراد منذ خمسينات القرن الماضي وانهم كانوا يتحركون ضمن المطالبة بالحقوق الثقافية في سورية دولتهم ، ولم يكن في أجندتهم أي تفكير بدولة مستقلة ولا يزال هؤلاء الأكراد يطرحون ذات الرؤية ممثلين بالمجلس الوطني الكردي. وكانوا ناشطون من كوادر الثورة السورية. وانهم اضطهدوا في عهد الاسد الاب والابن. وأنهم كانوا جزء من حراك ربيع دمشق ومع الثورة السورية…
لكن هناك أكراد خلق لهم الاسد الاب وجود عسكري منذ ثمانينات القرن الماضي حزب العمال الكردستاني ال ب ك ك بقيادة عبد الله أوجلان و استخدمهم في حربه ضد الأتراك حتى تخلى عنهم تحت التهديد بالحرب وسلّم أوجلان لتركيا وهو مسجون فيها الان. وسرعان ما أعاد الأسد الابن بعد الثورة السورية كوادر حزب العمال الكردستاني من جبال قنديل ودعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ال ب ي د فرع ال ب ك ك في سوريا وسيطروا على المناطق الكردية بالسلاح والدعم من النظام السوري ثم من الأمريكان بعد استخدامهم في معركة الغرب مع داعش. ثم أعلنوا حكم ذاتي روج آفا غرب كردستان في شرق الفرات وشكلوا شبه دولة. يضطهدون الأكراد المختلفين والعرب وبقية المكونات السورية يخدمون اجندة امريكا والنظام. وتحولوا ليكونوا العدو الأول للأتراك. الذين قرروا استئصالهم لكونهم قاموا بعمليات إرهابية في تركيا ويدعمون مشاريع انفصالية كردية في تركيا وهذا خط احمر تركي…
يؤكد الكاتب ان ال ب ك ك وال ب ي د ادوات للايجار وغير منغرسة في المجتمع والوجدان الكردي وان مستقبل أكراد سورية هو جزء من الخيار الديمقراطي السوري المنفتح على اللامركزية الادارية. وحقوقهم الثقافية وعلى إعطاء الأكراد حقوق المواطنة الكاملة ككل السوريين. ضمن دولة ديمقراطية عادلة وفق دستور توافقي وانتخابات ديمقراطية في سورية المستقبل…
ينتهي الكتاب وفي أغلب فصوله الاخيرة يتناول خرائط طريق لمستقبل محتمل ومأمول عند كاتبنا وعند كل السوريين..
لكن واقع الحال في سورية التي هي جحيم للإنسان وحقوقه فردا وشعب ومكونات. وان سورية اليوم هي أقرب لأن تكون دولة محتلة فاشلة عاجزة عن تؤمن أبسط شروط الحياة المعيشية. والأسوأ أن هذه الدول المحتلة لسورية تزداد الصراعات بينهم . فبين الأمريكان والروس حرب في أوكرانيا. والايرانيين يرون أمريكا خصمهم حيث تعمل لتقليص تمددهم في اليمن والعراق ولبنان وسورية وهي لذلك تعمل لصراع وجودي امام الامريكان…
كما أن حصول طوفان غزة من المقاومين الفلسطينيين من حماس والضربة القاسية التي أصابت الكيان الصهيوني. والرد القاسي الاستئصالي الوحشي من الكيان الصهيوني وبدعم مطلق من امريكا والغرب الهجوم على غزة على نموذج النظام السوري بحق الشعب: الإبادة الجماعية والتدمير والتهجير…
كل ذلك يجعل الأفق مظلما…
وقضية وجود دول وشعوب تحت الخطر…
فما بالكم بحقوق الإنسان…