حين سئل الأخضر الإبراهيمي- الذي يبلغ التسعين في مطلع العام المقبل- عن استراتيجيته في لقائه الأول مع بشار الأسد، بعد تكليفه من قبل الأمم المتحدة والجامعة العربية بتمثيلهما لحلّ المسألة السورية، بعد كوفي عنان الذي استقال محبطاً، أجاب، مبتدئاً بأنّه قال له: «البلد في ورطة.. وأنت بحاجة إلى التحدث إلى شعبك وإلى الجميع. عليك أيضا أن تأخذ في الاعتبار ما يحدث حولك في المنطقة. عليك أن تتحدث مع جيرانك». ثم أكمل أن ردّ فعل الأسد» كان مؤدّباً للغاية. وأعتقد أنه ربما كان لدينا اجتماع صعب، لكن بخلاف ذلك كان حضارياً». وأشار إلى أنه لم يشعر في أي لحظة بأننا «نقترب من بداية العملية».. يقصد بالطبع عملية الحلّ السياسي.
ثم فسّر الأمر بأن الأسد «يتمتع بالسلطة المطلقة في سوريا.. على هذا النحو، هو معتاد على إعطاء الأوامر أكثر من مناقشة القرارات التي قد يتخذها أو لا يتخذها. وأعتقد أن هذه مشكلة كبيرة للوسيط». وبأن الوسيط «يحتاج إلى بناء الثقة. ويجب على الناس أن يفهموا أن لديهم ما سيكسبونه. إذا كانوا يعتقدون أنهم يفوزون من دونك، فلماذا يستمعون إليك؟ إن عمل الوسيط ينطوي على احتمالات عندما يكون هناك طريق مسدود في مثل هذه المواقف.. أعتقد أن بشار الأسد لم يتوقف قط عن الاعتقاد بأنه يستطيع الحصول على الكعكة بأكملها».
السؤال الذي استدعى تلك التداعيات هو: هل ما زال بشار الأسد يعتقد أنه يستطيع الفوز بالكعكة كلها؟ يستطيع أن يحقق انتصاراً واضحاً ومطلقاً لا شريك له به؟!
أمضى الإبراهيمي في مهمته تلك تسعة عشر شهراً، ثمّ استقال في مايو/أيار 2014، بعد أن زاد عدد ضحايا السوريين عن 150 ألفاً. قبل ذلك بقليل كان قد حذّر في مؤتمر صحافي من إجراء انتخابات رئاسية في سوريا، مؤكداً أن ذلك سوف ينسف جهود أعوام ثلاثة من التفاوض لأجل السلام والحلّ السياسي. تعرّض لانتقادات لاذعة من وزير الإعلام السوريّ بعدها، الذي قال إن تلك الانتقادات «غير لائقة». كان «مؤتمر جنيف» قد سبق مهمة الإبراهيمي بقليل، وقد نجح بشكل كبير، بحيث خيّم التفاؤل على كلّ المعنيين. استطاع الإبراهيمي بعدها المساعدة بشكل إيجابي في تأمين انعقاد ما عُرف باسم» جنيف 2» في مطلع عام 2014، وفي الغالب أدرك عندئذٍ ما أشار له لاحقاً بلطفه الزائد، في مقابلته المشار إليها في مطلع هذه المقالة، من عبث الأسد ونظامه، من خلال مبعوثه «الرفيع» الجعفري، الذي أرسى قواعد طريقة تفاوض تعتمد ببساطة على الدوران حول الموضوع أو تغييره، والغرق بالشكليات، ورفض الدخول الجديّ في العملية السياسية عملياً، وليس الإبراهيمي من النوع الذي لا يستقبل الرسائل ويفهمها… صبر قليلاً تحت إلحاح بان كي مون عليه، ثم استقال نهائياً. كان ذلك يعني للسوريين أن الطريق مسدود إلى الحلّ السياسي، بسبب عنجهية الأسد ونظامه، مدعوماً من قبل الروس والإيرانيين، واستعداده لسفك دماء وتنفيذ تدمير أكثر فأكثر. ما بين تكليف الإبراهيمي واستقالته، مرّ عام 2013، الذي شهد بداية إعصار «داعش»، الذي استغرق من ربيع ذلك العام حتى نهايته ليسيطر على أجزاء كبيرة من مساحة البلاد. وليصبح الإسلاميون بكل أطيافهم وراياتهم عنوان تلك اللحظة، بشكلٍ ينسجم تماماً مع «رؤية» الأسد واستراتيجيته، لتحويل صورة «الثورة» إلى صراع طائفي، يمكن أن يخشى من خلاله العالم من هيمنة الإرهاب وتأسيسه لقاعدة غير مسبوقة. بعد ذلك وفي إطاره أيضاً، سيطر»جيش الإسلام» على مبنى الأركان الاحتياطي جنوب دمشق، وبدا كأن الأخيرة على وشك السقوط. استدعى هذا من الأسد استدعاء التدخل الروسي المباشر، والتدخّل الإيراني الأوسع والأكثر تعدداً في أشكاله. ابتدأت ملامح الخراب العميم بالظهور.
إضافة إلى الجيش والأجهزة الأمنية العديدة، ظهرت ميليشيا الدفاع الوطني، واستقلالية الفرقة الرابعة، وميليشيات الشركات الأمنية، و»فاطميون» و»زينبيون»، وميليشيات عديدة تابعة لأفراد العائلة «المالكة» أو مقرّبيها، وكبار تجّار الحرب. في داخل الجيش أيضاً بدأت مظاهر استقلالية تقلّ أو تكثر هنا وهناك، بنفوذ إيراني وروسي، أيضاً هنا وهناك.
في الطرف الآخر، إضافة إلى ما ورد أعلاه، كانت جبهة النصرة المولودة من رحم «القاعدة»، ثم من «داعش» حين كانت عراقية، قد أرست وجودها بدءاً من التفجيرات الانتحارية الكبيرة في دمشق، ثم ولدت منظمة «أحرار الشام» أيضاً، وتنامى الحشد حتى بلغ العشرات أو المئات من التشكيلات المسلّحة. على الجانب السياسي المعارض، وبعد قرار تصنيف النصرة من قبل الولايات المتحدة، خلال انعقاد أكبر تجمّع دولي في مراكش لأصدقاء سوريا، قال رئيس الائتلاف المعارض المتشكّل حديثاً في الدوحة إن «قرار اعتبار جبهة النصرة منظمة إرهابية يحتاج إلى المراجعة»، وأن سلاحها موجّه إلى النظام ويهدف إلى الإطاحة به. ابتدأ بذلك شرخ متزايد الاتّساع ما بين المعارضة السورية وأقوى أصدقائها، ليُضيف ضعفاً جديداً إلى ما ابتدأ من تفتّت في قوى المعارضة السياسية والمسلّحة، ابتداءً من الأخيرة. خلال فترة ليست بالطويلة، وصل عدد تلك القوى إلى المئات، وابتدأت القوى الأكثر تشدّداً بإنها الأكثر انفتاحاً، وتعمّمت ظاهرة التكفير، للمعارضين ولأفكارهم» الديمقراطية».
على الأرض، أصبحت لدينا مناطق يطلق عليها البعض تسمية «سلطات الأمر الواقع» تخفّفاً، منها منطقة الإدارة الذاتية، التي استطاعت تثبيت أقدامها في الشمال والشرق بقوة «قوات سوريا الديمقراطية» ونواتها الكردية، بعد أن أصبحت حليفة أولى للتحالف الغربي ضدّ «داعش»، عندما رفض الائتلاف والقوى الأقرب إليه ذلك، بدعوى التركيز على معركة إسقاط النظام دون غيرها. (رغم وزنها الواضح على خريطة المسألة السورية، ما زال هنالك اعتراض قاطع من قبل تركيا وحلفائها في المعارضة السورية على وجودها في دائرة التفاوض). منها منطقة الشمال الغربي، ما بين النصرة في إدلب، وقوى تركمانية وعربية تنسق ما بينها تركيا، يمثّل هذه القوى الائتلاف الوطني، الذي تتدهور حصته تدريجياً لمصلحة الراعي التركي ومعادلاته الاستراتيجية.
ومناطق النظام التي يكاد يكون ممكناً حالياً عزل جنوبها في السويداء، التي تشهد انتفاضة نوعية جديدة ضدّ النظام ورموزه، وكذلك في درعا المتحلّلة من سلطة النظام بشكل محدود، وقابل للتوسّع قريباً. مناطق النظام كلّها تشهد تداخلاً بين سيطرة ميليشيات متنوعة، يربط بينها خيط رخو، أو مشدود إلى السلطة المركزية. تلك المناطق تبدو بدورها على وشك أن تشهد حراكاً يبدأ من عجز النظام عن مساعدة الناس على تأمين أبسط متطلبات عيشهم. بذلك طرأ سؤال جديد على مسار العملية السياسية ومفاوضات الحلّ، هذا» التفتّت» و»التذرّر» في الجغرافيا والأيديولوجيا والاهتمام الوطني أو الطائفي، والتنوّع السياسي في كلّ الأطراف، يوحي بأن ذلك الظرف الذي كان فيه عناد الأسد هو العائق الوحيد قد انتهى، ليبدأ آخر يحتاج إلى وساطة خارقة تستطيع تجميع كل الأطراف، وكلّ مصالحها، على طاولة واحدة… ربّما أصبح الأسد نفسه عائقاً شكلياً، أو يكاد يكون كذلك. وإن كان الأمر بالفعل كذلك، فهنالك حاجة لشيء جديد، سوف يستغرق تبلوره وتجسدّه وقتاً وجهوداً مختلفة في تركيبها!
المصدر: القدس العربي