كثرت التحليلات بشأن الجهات المتّهمة في عملية استهداف حفل تخريج دفعةٍ من طلاب الكلية الحربية في حمص، يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، في وقتٍ تحتفل فيه سورية بذكرى حرب تشرين (1973) التي خاضها الجيش ضد إسرائيل. والملفت أن الأخيرة حصلت على براءة مستعجلةٍ من المذبحة، فلم تتهمها أيٌّ من الجهات السورية التي تتراشق الاتهامات، فيما يفترض أنها العدوّ الأول لدولة مواجهة، وتتشارك مع إيران، وتابعها حزب الله، في ترويج حلف المقاومة، على الرغم من أنها (إسرائيل) دكّت مئات المرّات مواقع سورية بشكل شبه متواتر، وعلى كامل المساحة السورية منذ 2013، وقدّر عدد غاراتها عام 2022 فقط بنحو 32. ويعني هذا أن النظام السوري، ومعه الحلفاء المقاومون، لا يرون في جيشهم، وزيادة عدد عناصره وضبّاطه، ما يبرّر أن تصطاد إسرائيل، الكيان الأكثر امتلاكاً كل المقدّرات التكنولوجية، عدوها من جيش النظام في ذكرى احتفالاته بما يعتبره نصراً عليها. أو أن النظام يراهن على أخلاقيات عدوّه، ما يجعله يستبعد توجيه التهمة إلى هذا العدو، وحصرها في جماعات إرهابية.
وفق ذلك، كل الجهات المتصارعة في سورية، من دول ومليشيات مسلحة تابعة لها، هي على لائحة الاتهام في مجزرةٍ راح ضحيتها مئات بين قتلى وجرحى من الطلاب الخرّيجين وذويهم، وقد دلّلت كل جهة على اتهاماتها الطرف الآخر، وما يفسّر توجيه إصبع الاتهام حجم الاستفادة المعوّل عليها نتيجة هذه المجزرة. ورغم أن ما يمكن تسميتها فوائد، لها وجه آخر أسود، على الجهة التي تُطلق الاتهامات، فالنظام، مثلاً، أطلق حكمه على مناطق إدلب وريف حلب وحمّلها مسؤولية المجزرة، وأوقع عليها ما يمكن تسميته حكماً جائراً، وارتكب عمليات قتلٍ جماعية للمدنيين، ثأراً لأهالي الضحايا، في محاولة منه لإخماد ثورة الغضب المحتملة من هؤلاء، لعجزه عن حماية أبنائهم، في أعتى المواقع حماية، كلية تخريج الضبّاط، ما يجعلهم يتساءلون: إذا لم يستطع الجيش حماية نفسه، كيف له ادّعاء حمايتهم في مناطقهم المدنية؟ أي أن النظام أوقع نفسه أمام حاضنته، باعترافه بتفوّق القدرات العسكرية للفصائل التي تحكم المناطق الخارجة عن سيطرته، وهو ما يجعله يقصف أهدافاً مدنية، وليست مراكز القوى المسلحة التي يقول إنها المستهدفة، أي أنه يواجه الجريمة بمتابعة جرائمه بحقّ المدنيين في إدلب وغيرها.
على الجهة المقابلة، توجّه أصواتٌ في المعارضة اتهاماتها للنظام السوري، بأنه من ارتكب المجزرة، أو صمت عن ارتكابها، من أحد داعميه إيران أو حزب الله أو بالاتفاق معه، معلّلة ذلك بعائدات مصلحية كبرى، ففي وقت تزداد عليه الضغوط لإنجاز ما تسمّى التسوية التي تنهي الصراع، وتحقّق بنود قرار مجلس الأمن 2254، وهو أحد شروط إتمام صفقة التطبيع العربي معه، وفق ضغوط أميركية وأوروبية على الدول العربية، يمكن أن يكون النظام اختار الهروب نحو التصعيد العسكري، وفتح جبهات الحرب من جديد. ولكنه لا يستطيع الذهاب إلى هذا الخيار من دون مساندة من داعميْه الأساسيين (روسيا وإيران) اللذيْن يملكان القدرات العسكرية والمسيّرات، وهما من المستفيدين من استعادة أسباب تصاعد العنف في سورية واستمرار الصراع، وتأجيل أيّ جهد “سلمي تفاوضي” إلى ما بعد استكمال تفاهمات القوى المتدخّلة في الملف السوري بشأن الخرائط الجديدة لحدود التماسّ، وبشأن ملفّاتهم الخارجية، إيران في صراعها مع إسرائيل والغرب حول ملفّها النووي، ووجودها في المنطقة المحاذية لإسرائيل، وتدخّلها في الوضع الفلسطيني، وروسيا في غزوها أوكرانيا، وتركيا لترسيم حدود الوجود الكردي على حدودها، والدور الذي تعوّله على النظام السوري في هذا، وكذلك حاجة النظام لحدث كبير يستعيد به تحشيد حاضنته الداخلية التي تراخت عُراها وتعالت أصواتها ضدّه.
ولكن هذا كله يضعنا أمام أسئلة كثيرة: هل يوجد ما يبرّر أن يضحّى النظام بهذا العدد الكبير من شباب حاضنته وأهاليها ليشنّ هجومه العنيف على مناطق هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، ومناطق المعارضة، فيما لم تنقطع مدفعيّته وطائرات حليفته روسيا عن تمارين القتل شبه اليومية للمدنيين في إدلب وغيرها؟ وإذا كان النظام ينوي فعلياً أن يستفيد من الحادثة بأقصى ما فيها من دموية، هل كان يخشى خسارة وزير دفاعه وبعض قادة جيشه، أم أن التضحية بهم كانت أكثر فائدة له، ليزيد من قدرته على النواح، وتبرير عنفه؟ هل صار النظام حريصاً على عناصره، بعد أن توالت تصفيات ضبّاطٍ كبار قبل الثورة وبعدها: عملية انتحار وزير الداخلية غازي كنعان، تفجير خلية الأزمة ومقتل رئيسها حسن تركماني، ووزير الدفاع داود عبد الله راجحة، ونائبه اللواء آصف شوكت زوج شقيقة الرئيس، وعضو القيادة القطرية رئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، ثم مقتل رستم غزالي وتصفية جامع جامع وعصام زهر الدين، وغيرهم الكثير؟ أي أن استدلال المعارضين على أن النظام ارتكب هذه المقتلة بحقّ ضبّاطه المحتفلين وذويهم، بمغادرة وزير الدفاع، علي محمود عبّاس، ومعه بعض المسؤولين، قبيل استهداف الكلية، ضعيفة جداً، فمن معرفتي به، لا يتشارك النظام مع أيٍّ من قياداته غير الأمنية في الدائرة الضيقة معلوماتٍ كهذه، ولو فعل ذلك حقاً، وكان أيّ منهم على اطّلاع بما سيجري لكانت تصفيته هدفاً له، قبل غيره، إضافة إلى أن أكثر ما يحتاجه النظام اليوم القول بقدرته على حماية حاضنته الشعبية. وربما يمكن القول (للأسف) حاضنته “الطائفية”، فالأولوية أن يحذّرهم، ومحاولة إنقاذ ما تيسّر له منهم، لمنع استفاقتهم على واقع أنه ببقاء النظام محميّاً بهم كطائفة يجعلهم هدفاً مستمرّاً، مع استمرار العنف وتصاعده وانفلات السلاح في سورية.
المصدر: العربي الجديد