الجدل الدائر اليوم بين السوريين حول انتفاضة الأهل في السويداء إنما هو استمرارية للجدل البيزنطي الذي نتميز به كسوريين، نتناقش، ونتساءل، ونشكّك كثيراً، ولكننا لا ننتج إلا القليل القليل في الميدان العملي بكل أسف.
فمنهم من يرى في هذه الانتفاضة سابقة غير معهودة، ويحاول من خلال الإشادة، بل والتمجيد بها، وكأن هذه الانتفاضة هي بنت نفسها، وليست استمرارية للثورة السورية التي انطلقت في آذار/مارس 2011؛ وكلّفت السوريين حتى الآن نحو مليون قتيل، وما يُقارب من هذا العدد من المعتقلين والمغيبين والمشوهين؛ إلى جانب نحو 14 مليوناً بين نازح ولاجئ ومهاجر. هذا رغم اعترافات النخب المجتمعية في السويداء بأنهم قد قصّروا في اللحاق بأهلهم السوريين في بقية المحافظات في بدايات الثورة؛ والأسباب في هذا المجال معروفة مفهومة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتخاذ ذلك وسيلة لإدانة المكون الدرزي ككل عبر الإشارة إلى أسماء بعض الأشخاص ممن كانوا جزءاً عضوياً من سلطة البعث في بداياتها، ثم تعرضوا للتصفيات التي كانت بين القيادات البعثية نفسها حتى تمكن حافظ الأسد، ولاحقاً ابنه بشار، من تصفية العلويين أنفسهم ممكن كانوا لا يوافقون على التوجهات والخطط والممارسات الخاصة بالسلطة الأسدية.
إن اللعب على الوتر الطائفي من جانب السلطة معروف ومستمر، وهو يأتي بمثابة استمرارية لسياسة فرّق تسد التي اعتمدتها القوى الاستعمارية والأنظمة التي قلدتها لاحقاً، وأمعنت في الظلم والاستبداد وارتكاب الجرائم ضد مواطنيها بشكل لا يمكن مقارنته مع تلك الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الخارجي، يعتبر حكم هذا الأخير بالنسبة إلى السوريين اليوم رحمة قياساً إلى الأهوال التي ذاقوها في عهد سلطة آل الأسد.
أما أن تعتمد اللعبة ذاتها من جانب بعض الأشخاص أو الجهات التي تعتبر نفسها معارضة فهذا ما لا يمكن فهمه، بل يثير الكثير الكثير من التساؤلات والتوجسات، لأننا إذا حولنا المواجهة بين السوريين والسلطة المذكورة إلى مواجهة طائفية، فهذا معناه تحييد الكثير من المكونات السورية، ومحاول لتبرئة الكثير من السنّة الذين كانوا وما زالوا من أركان السلطة وجزءاً من حاضنتها، ويسري ذلك على رجال الأعمال والدين أيضاً.
ولكن إذا اعتبرنا أن المواجهة هي بين السوريين الثائرين على الاستبداد والفساد، من جميع المكونات المجتمعية السورية، وبين سلطة مستبدة فاسدة مفسدة، فحينئذ ستستقيم المعادلة الوطنية، ولن نقع في الإشكالات التي يدفع نحوها بعضهم بسوء نية، وبعضهم الآخر بحسن نية تصل إلى حد الدروشة.
ولعل هذا ما يفسر ما نسمعه هنا وهناك حول أن الانتفاضة لم تبدأ في السويداء إلا بعد أن «وصل السكين إلى العظم» على الصعيد المعيشي، وكأن العيش الكريم لا يدخل في عداد مطالب الثورة السورية العادلة، وهي المطالب التي تمثلت في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
أما الأمر الآخر الذي يتم تداوله هنا وهناك، ويثير الجدل، ويستخدمه المتشككون لدعم مواقعهم، فهو التلويح بوجود رغبة لدى الدروز في فرض أمر واقع على الصعيد الإداري في مناطقهم؛ ويستند هؤلاء إلى المنظومة المفهومية الشعاراتية التشكيكية التي رسختها سلطة البعث على مدى عقود في الأذهان من دون أن تلتزم هي نفسها بأي بند منها.
ويتناسى هؤلاء أن الخطاب العنصري المزاود المتطرف الذي استخدمته سلطة البعث لم، ولن، يناسب الوضع السوري الذي يتسم بتنوعه المجتمعي سواء من جهة الدين أم المذهب أو الانتماءات القومية؛ والإصرار عليه مؤداه استمرارية الفشل الذي نعاني منه منذ أكثر من 70 عاماً.
فالواقع السوري ليس سرير بروكرست حتى نفرض عليه القوالب الأيديولوجية التي تناسبنا؛ وهنا يوجه العتب إلى النخب السورية التي تعرف حقائق التاريخ والجغرافيا، ولديها اطلاع كاف على تجارب الشعوب الأخرى؛ غير أنها تلتزم الصمت في مواجهة الأصوات الشعبوية، أو تتناغم معها على أمل أن يكون لها موقع ما في مشروع سياسي قادم. ولو كان ذلك على حساب مصداقيتها الأخلاقية ورسالتها المعرفية.
وفي هذا السياق، يوجه النقد إلى الفاعلين في انتفاضة السويداء من جهة التمسك بـ «راية الخمسة حدود» وعدم رفع علم الثورة الذي تم التوافق عليه من قبل السوريين المناهضين لحكم آل الأسد، وهو علم الاستقلال/علم الثورة.
العلم الرسمي وعلم الاستقلال
وبهذه المناسبة أذكر حادثتين كنت شاهداً عليهما لهما علاقة بموضوع علم الثورة.
الأولى، كانت أثناء زيارتنا إلى ليبيا بعد تأسيس المجلس الوطني السوري بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 2011 بأيام؛ وقد كانت زيارة رمزية بكل المعاني، اجتمعنا خلالها مع الأخ الراحل مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الليبي الانتقالي وعدد من أعضاء المجلس. وأثناء الاجتماع أعلن عبد الجليل عن اعترافهم بالمجلس الوطني السوري، وعبر عن دعمهم الكامل له.
وفي اليوم الثاني من زيارتنا كان من المقرر أن يتجه قسم من وفدنا إلى القاهرة ليلتقي مع الأمين العام للجامعة العربية؛ على أن يبقى القسم الآخر، ليحضر فاعلية ينظمها الثوار الليبيون احتفاء بوفدنا. وقد آثرت وقتها البقاء في ليبيا التي كنت قد عملت فيها، وارتبطت وجدانيا مع أمكنتها وناسها الأفاضل. فقد كان لديّ دافع داخلي قوي لإجراء مقارنة بين صورة طرابلس التي كانت في ذهني، وصورتها بعد الثورة.
توجهنا في اليوم التالي إلى مكان الفعالية، وفي طريقنا مررنا بـ «ثكنة العزيزية» التي كانت قد تحوّلت إلى كتلة من الاسمنت والرمل، وهي التي كانت تثير خوف الليبيين بمجرد أن يذكر اسمها.
والطريف في الأمر هنا، هو أن الثوار الليبيين الذين تخلوا منذ اليوم الأول عن العلم الذي فرضه عليهم القذافي، ورفعوا العلم الليبي القديم، قد اختلط عليهم الأمر بالنسبة إلى العلم المعتمد من قبل المجلس؛ إذ كانوا في حيرة من أمرهم بخصوص العلم السوري الذي سيرفعونه أثناء استقبالهم لنا. ومن باب الاحتياط، كانوا قد جهزوا العلمين: السوري الرسمي الذي كنا حتى ذلك الحين نعتمده في المجلس؛ وعلم الاستقلال الذي كان قد بدأ ينتشر في المظاهرات والاعتصامات. وحينما عرفوا بعد الاستفسار من العلم المعتمد لدينا، رفعوا العلم السوري الرسمي في الفعالية.
أما الحادثة الثانية، فقد كانت أثناء مشاركتي في برنامج تلفزيوني مع معارض سوري معروف بنقده الحاد لأي مشروع معارض لا يكون هو من الفاعلين المؤثرين فيه. ما لاحظته أثناء الحوار أنه يستخف بـ «عقلية السوريين»، كما لاحظت أنه يستخدم مصطلح علم الانتداب، ويعلن عن عدم موافقته على تبني ما توافق عليه السوريون الثائرون.
فكان ردّي عليه هو بما معناه: علينا أن نحترم مشاعر الناس وتضحياتهم، حتى ولو كنا غير موافقين عليها. فتحت هذا العلم استشهد الآلاف من السوريين في ثورتهم على الظلم وفي سبيل الحرية والكرامة والعدالة.
وهنا أدرك الرجل أنه قد تجاوز الحدود، فاختار الصمت.
موضوع علم الثورة لم يُتخذ بشأنه، كما أسلفت، قرار رسمي من هيئات الثورة والمعارضة السورية في البداية، ولكنه فرض نفسه كأمر واقع؛ وربما يعتمده السوريون بعد سقوط سلطة آل الأسد، علماً رسميا لدولتهم، ورمزاً لبلادهم؛ وربما يدخلون عليه شيئاً من التعديل، أو يتوافقون على علم آخر يرون فيه رمزاً أكثر قدرة على تمثيل واقعهم، وتجسيداً لتطلعاتهم. فهذه مسألة متروكة لإرادة السوريين الأحرار، وفي ظروف طبيعية، ومن خلال المؤسسات الدستورية.
ورغم رغبتنا في الالتزام راهناً بعلم الثورة باعتباره قد حاز على التوافق، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نلجأ إلى الطعن في خلفيات من اجتهد في عدم رفعه في السويداء، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال؛ ما دمنا نرى أن الشعارات الوطنية الأساسية التي رفعتها الثورة السورية منذ بداياتها ما زالت هي نفسها التي ترفع في ساحة الكرامة.
بقي أن نقول، وسداً لباب القيل والقال: من الأهمية بمكان وجود لجنة مشرفة تضبط عملية صياغة ورفع الشعارات، وذلك لقطع الطريق أمام بعض الحركات الإشكالية التي عانينا منها سابقاً كثيراً، ونعني بها أن يسافر أي شخص إلى السويداء، وذلك من باب تقديم الدعم والتأييد، ثم يقدم وسط ساحة الكرامة على رفع لافتة أو «كرتونة» هنا أو هناك، لينشر لاحقاً صورها لأسباب تخصه على وسائط التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يحدث لغطاً وارباكاً لا يتوافق أبداً مع ضرورة السعي لتوسيع دائرة نقاط التوافق، وتعزيزها والبناء عليها، وترحيل النقاط الخلافية إلى مراحل لاحقة، لتعالج بمزيد من الهدوء والعقلانية، فالقضايا الخلافية المزمنة لا يحسم أمرها بحركات أو تصريحات متسرعة قد تكون كيدية في بعض الأحيان، وإنما بحوارات حكيمة بعيدة النظر.
المصدر: القدس العربي