أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد لقاء جمعه للمرة الأولى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن تركيا تتطلع للتعاون والتنسيق مع إسرائيل في موضوع التنقيب عن الطاقة ونقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
سينتظر أردوغان قدوم نتنياهو لأنقرة في تشرين الأول أو تشرين الثاني المقبل كما أعلن، لبحث موضوع الطاقة في شرق المتوسط. لكن النقاشات ستتطرق حتما لتفاصيل المسار الجديد في العلاقات الثنائية وخطوط التجارة الإقليمية والدولية، وتطورات المشهد في القوقاز بعد التحولات الأخيرة في موضوع قره باغ وارتدادات كل ذلك على الدول المجاورة.
شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تحسّناً في العامين الأخيرين بعد فترة قطيعة بدأت عام 2010 وكان لها ارتداداتها السلبية الواسعة على مصالحهما الثنائية، إلى أن تمت زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في آذار 2022 لتركيا والتي ساهمت في كسر جليد العلاقة بين البلدين. لكنه من المبكر جدا حتى طرح سؤال إذا ما كانت تل أبيب ستقبل بما يقوله ويعرضه الرئيس التركي، وتتخلى عن حلفائها في منتدى غاز شرق المتوسط مثل مصر واليونان وقبرص اليونانية لصالح تحسين علاقاتها مع تركيا؟ وعما إذا ما كانت ستترك المعادلة التي رفعتها لسنوات حول أن أي إنفتاح إسرائيلي على أنقرة لن يكون على حساب شركائها في المنطقة؟ فما الذي يقودها لفعل ذلك إذا لم يكن هناك ملفات بطابع استراتيجي إقليمي أكثر جذبا وإغراء مما قدم لها وعرض عليها من قبل الآخرين؟
تولي أنقرة أهمية بالغة لمسألة المساهمة في نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا. لكن التحالفات التي بنتها إسرائيل حول موضوع الطاقة في العقد الأخير لم يكن لتركيا أي دور فيها. فكيف ستكون المعادلات الجديدة وتل أبيب تردد أنها متمسكة بتحالفاتها وقرارات الطاولة السباعية للطاقة في شرق المتوسط؟
تقرب وتباعد مشاريع وخطط الممرات التجارية وخطوط نقل الطاقة في المنطقة بين دولها، بحسب المصالح وحسابات الربح والخسارة في ملفات متداخلة متشابكة. الملاحظ هو حالة السباق مع الوقت والفرص، وضرورة اتخاذ القرارات طالما أن العلاقات بين هذه الدول تمر في مرحلة انتقالية حساسة ودقيقة، يواكبها تحولات وعملية رسم خرائط متنوعة، قد تبنى على أساسها توازنات إقليمية جديدة تعمر لعقود. احتمال كبير أن أردوغان الذي تحرك في الأيام الأخيرة على أكثر من خط وبأكثر من اتجاه بطابع إقليمي شرق أوسطي – عربي خليجي – شرق متوسطي وجنوب قوقازي يبحث عن فرص التقريب بين المتباعدين وتقليص عدد ملفات الخصومة والتناحر في المنطقة باتجاه فتح الطريق أمام تفاهمات تقود نحو ترسيخ حالة الرغبة في التهدئة التي بدأت قبل عامين.
هذه هي الفرصة الوحيدة ربما التي قد تدفع تل أبيب لبذل جهود الوساطة على خط أنقرة – أثينا ولتسهيل عمليات المقايضة وتبادل الخدمات بطابع إقليمي. أميركا وأوروبا لن يعجبهما حتما سيناريو من هذا النوع، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجانب المصري قد يدعم هذه الخطة وينسق مع إسرائيل هنا لحماية مصالحه في شرق المتوسط وطالما أنه شريك مؤسس في طاولة الغاز الإقليمية.
الصعوبات كثيرة ومتنوعة أيضا: هناك أولا مصالح الكبار في الإقليم وفرص تجاوزها حيث الاحتمالات ضعيفة ومحدودة. وهناك ثانيا التباعد والاصطفافات الإقليمية الحاصلة بين إسرائيل المدعومة من المحور الغربي، وإيران المستقوية بعلاقاتها التي تقدم فيها مصالحها مع روسيا والصين على حسابات تحولات جذرية في سياساتها باتجاه الإقليم.
فهل هناك رغبة تركية في الجمع بين مصالح أكثر من طرف إقليمي في جنوب القوقاز قد يشمل تل أبيب وطهران أيضا؟ وهل يساهم تراجع ملف إقليم قره باغ في إقناع يريفان بتعديل سياساتها وقبول معادلة وضع ممر زنغزور وممر يلشين في سلة تجارية استثمارية واحدة؟ وهل الهدف التركي هو تفعيل مشروع قديم جديد يقرب بين تركيا ومصر وإسرائيل في مسائل استخراج ونقل الغاز إلى أوروبا؟ أين موقع ودور المشروع التجاري الإقليمي العراقي وسط كل هذه النقاشات وهو يستبعد إسرائيل وكيف ستكون عملية الالتفاف التركي لتجاوز هذه العقبة وحلحلتها؟
هل تتخلى إسرائيل مثلا عن دور “كركول الغرب” المتقدم في الإقليم عندما تسجل اختراقا سياسيا حقيقيا في مسار المصالحة والتطبيع الذي تشهده اليوم في علاقاتها مع العديد من دول المنطقة؟ وهل تلتزم بقرارات منح الأولوية لمصالحها مع دول المنطقة وتفتح الطريق أمام حل المشكلة الفلسطينية وخلافاتها مع الدول المحيطة لتحظى بفرص الجلوس أمام الطاولة التي يريد البعض ترتيبها بصناعة إقليمية؟ إرضاء طهران في جنوب القوقاز قد يقابله إرضاء تل أبيب في الشرق الأوسط فهل هذا ما تحاول أنقرة أن تفعله للرد على المشروع الهندي الذي يستبعدها ويفتح الطريق أمام المشروع العراقي والأذربيجاني المقرب جنوب القوقاز من الشرق الأوسط؟
تتطلّع أنقرة من خلال علاقاتها الجديدة مع تل أبيب إلى عقد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في شرق المتوسط، وبناء تفاهم ثلاثي تركي إسرائيلي مصري يشمل خطط نقل غاز البلدين عبر تركيا إلى أوروبا بدلاً من مشروع “إيست ميد” الذي أعلنت واشنطن وفاته. لكن أردوغان أشار إلى ملف آخر بالغ الحساسية في علاقات تركيا وإسرائيل مع الجانب الإيراني وهو موضوع ممر زنغزور الإستراتيجي بين إقليم نهشفان وأذربيجان والذي يمر عبر الأراضي الأرمينية وعلى مقربة من الحدود الإيرانية. حديث أردوغان عن رسائل إيجابية إقليمية حول الجهود التي تبذلها أنقرة من أجل فتح الممر، هو بين أهم المؤشرات حول عمليات خلط الأوراق على خط القوقاز – شرق المتوسط.
عندما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يضع اللمسات الأخيرة على ملفات النقاش التي سيبحثها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في نيويورك. كان الادعاء العام التركي في إسطنبول يرتب عشرات الأوراق من اعترافات أدلى بها ومعلومات تفصيلية قدمها رئيس أكبر فريق تجسس جندته المخابرات الإسرائيلية لينشط داخل تركيا وخارجها.
ليست المرة الأولى التي يفعلها الموساد الإسرائيلي ولن تكون الأخيرة. ولا أحد يعرف إذا ما كان الموضوع قد نوقش بين أردوغان ونتنياهو، لكن أنقرة تريد تسريع عملية التطبيع التي بدأت مع الجانب الإسرائيلي قبل عامين وواكبها رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية والاتصالات السياسية. وتل أبيب تسعى بالمقابل لتقليص عدد مسائل الخلاف والتوتر الثنائي والإقليمي. الملف قد يترك للقضاء وعامل الزمن ربما إذ سيحاول كلا الطرفين الفصل بين المسائل. فمصالحهما السياسية والاقتصادية تقتضي عدم التفريط بها وتجاهلها وسط لعبة التوازنات الإقليمية الحاصلة.
تحسين تركيا لعلاقاتها مع إسرائيل خطوة أساسية في سياستها الإقليمية الجديدة بعدما اكتشفت أن لا فرص كثيرة أمامها سوى الإقدام على تحرك بهذا الاتجاه للخروج من أزماتها. استفادة الطرف الثالث من تدهور وتراجع العلاقات التركية الإسرائيلية وخسارتهما للكثير من الفرص الإستراتيجية التي تمنحهما الوجود أمام العديد من الطاولات الإقليمية هو بين أهم أسباب العودة إلى الواقعية باتجاه التهدئة وترك الكثير من الخلافات جانبا.
نجحت أنقرة وتل أبيب في الخروج من مسار التحضير للتطبيع وإعادة العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه قبل سنوات، بعد الكثير من الاتصالات واللقاءات السرية والعلنية على أكثر من مستوى وحول أكثر من ملف. لذلك هما لن يفرطا حتما بحاجة كل طرف للآخر في الإقليم لحماية الكثير من المصالح المشتركة في شرق المتوسط والممرات التجارية الإقليمية التي يدور الحديث عنها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا