احتجاجات السويداء والبحث عن حامل سياسي

رانيا مصطفى

تدخل انتفاضة السويداء في جنوب سورية شهرها الثاني، والنظام عاجز عن التعاطي معها، إذ باتت ورقة التخويف بـ”داعش” محروقة، وقد جرّب إطلاق الرصاص على المحتجين جسّ نبض لإمكانية استخدام العنف، وفشل، مع تصريحات أميركية وأوروبية تحذّر من استخدام العنف ضد المتظاهرين. وما يزيد من حالة ضعف النظام إغلاق بوابة المبادرة العربية أخيراً، فيما يحاول، عبر وسائل إعلامه الرسمية، ترويج زيارة بشار الأسد الصين لحضور افتتاح الألعاب الأولمبية، والتي ستفضي، كما غيرها، إلى خيبة جديدة له. يحرص النظام على عدم اتساع الانتفاضة إلى خارج حدود محافظة السويداء، ويراهن على عامل الملل لدى الأهالي. في كل الأحوال، لن يتراجع المحتجوّن عن مطالبهم، واحتجاجات السويداء لا تعني فقط أن المتظاهرين اختاروا أن يكونوا ضد نظام الأسد، فمن هنا يأتي الملل واللاجدوى. تأتي الاستمرارية من تطوّر الحراك، وانتقاله أكثر إلى حقل السياسة، وفتح النقاشات والخلافات وحتى الصراعات بين شرائح سياسية واجتماعية مختلفة في المحافظة، تحت مظلّة شعارات سياسية جامعة لكل السوريين، ومتفق عليها، كالمطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2245، وسيلة آمنة للانتقال السياسي، ورفض المشاريع الانفصالية؛ وكذلك بضمانة تأييد شيخي عقل الطائفة الدرزية، حكمت الهجري وحمود الحناوي، وتحت راية الحدود الخمسة، فحتى العلم الوطني تجنّب المتظاهرون رفعه، بسبب الخلاف حوله.

إذاً، الانتفاضة في السويداء مستمرّة، وتزداد زخماً واتساعاً، فماذا بعد؟ لم يفرز الحراك تمثيله السياسي، وهو مستمرٌّ تحت سقف وطني عام، يباركه الشيخ الهجري الذي أحسن قراءة المشهد السياسي السوري، وأدرك أهمية موقفه الحاسم في الوقوف مع الحراك، وأن استمراريته وزخمه هما الأهم حالياً، للفت أنظار العالم الغربي والعربي وروسيا كذلك، بأن لحظة التغيير قد حانت. لكن هناك آراء ترى ضرورة أن يتمثل الحراك السوري في السويداء بجسمٍ سياسي، من أجل إقصاء المعارضة السورية المكرّسة، ممثلة بـ”الائتلاف” خصوصاً، عن تمثيل السوريين، ومن أجل مستقبل سورية ما بعد النظام، والذي لن يكون وردياً، مع هذا الحجم من التدخّلات الدولية، التي تريد سورية ضعيفة، من دون أن تكون مفتّتة، فليست هذه الدول في وارد التقسيم.

قد تفضي النقاشات السياسية المفتوحة في المحافظة إلى إفراز شكل تنسيقي يمثل الحراك، لكن الحديث عن جسم سياسي جديد مستقلّ عن المعارضة المكرّسة ليس بهذه السهولة؛ فمتظاهرو السويداء يرفعون مطالب عامة هي لكلّ السوريين، لكن أين هم كل السوريين؟ هم غير فاعلون. بمعنى غير قادرين على المشاركة في الرأي والفعل، وإن كانوا متضامنين ومؤيّدين لاحتجاجات السويداء. ليست القصة في مشاركة أفراد ونخب في الخارج، أو أتوا من مناطق مختلفة من سورية، وبذلك سنقع مجدّداً في مطبّ 2011، حين مثلت النخب السياسية المعارِضة الثورة من الخارج، ومصادرة إمكانية أن يفرز الحراك في الداخل ممثليه. يتطلّب هذا أن تخرج مناطق سورية مختلفة ضد قوى الأمر الواقع. هناك تحرّكات جديدة في الشمال السوري ترفض تحكّم الائتلاف السوري المعارض في مناطقها وتقول بإسقاطه، وقد تتوسّع وتتطوّر إلى رفض الفصائل التابعة لتركيا. وفي مناطق شمال شرق البلاد هناك تظاهرات جديدة ذات طابع مطلبي ضدّ حكومة الإدارة الذاتية، بعد رفع أسعار المحروقات، وقد تتطوّر إلى مطالب سياسية. هذا يعني أن الأسابيع المقبلة قد تحمل متغيّرات على الساحة السورية الداخلية. لكن تطوّر الاحتجاجات، سواء في مناطق الإدارة الذاتية أو الشمال السوري، ولتكتسب زخماً شعبياً أوسع، وكذلك إمكانية ظهور تحرّكات في حلب ودمشق والساحل السوري وباقي الأرياف السورية وعودة التظاهرات إلى درعا، وتحدّي تهديدات النظام باستخدام “الدوشكا” في تلك المناطق، ذلك كله يحتاج إلى عوامل لإخراج الشعب من حالة اللاجدوى، وإعادة الأمل والثقة بالقدرة على الفعل. يتطلب هذا فتح نقاشات أوسع وأعمق فيما يتعلق بكيفية الخروج من الوضع المتأزّم، وكيفية تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، ضمانة لتجنّب الفوضى، وحول مستقبل سورية بعد النظام، والمحاسبة والمصالحات، أي بوضع برامج سياسية ورؤية واضحة. الشعب السوري، وقد فشلت ثورته في 2011، وانتهت إلى تجزيء الأراضي السورية إلى مناطق نفوذ تحكُمها قوى الأمر الواقع، وتتبع لاحتلالات متعدّدة ذات مصالح متضاربة، وهجر وقتل أبنائه، ويرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وأشكال حكم فاسدة وناهبة، هذا الشعب يحتاج اليوم لاستئناف ثورته إلى رؤية سياسية واضحة، وبرامج، وهو ما سيُعيده إلى دائرة الفاعلية، خصوصاً مع تعقّد الوضع السوري.

يدرك النظام أن استخدام العنف في السويداء سيعني تدخلاتٍ دولية في الجنوب السوري، وهو كذلك لا يملك مقاتلين لاقتحام المدينة، وسط التململ الشعبي العام منه، خصوصاً مع استعداد المحافظة وبلداتها للقتال دفاعاً عن النفس، وإمكانية خروج باقي الدروز ضده حول العاصمة بدافع رابطة الدم. هو استطاع تحييد درعا عن انتفاضة السويداء، عبر التهديد باستخدام القوّة، وما زال قادراً على منع أية أشكال احتجاج في دمشق وحلب والغوطة، ومستمرّ في اعتقال النشطاء في الساحل، ويرسل رسائل التهديد إلى الأهالي، واستطاع تحييد دروز جرمانا وصحنايا عن المشاركة. وبالتالي، هو يريد ترك السويداء وحدها، ووصمها بانتفاضةٍ درزية، ومؤامرة خارجية تهدف إلى الانفصال. يبدع المتظاهرون في السويداء في طرق الردّ عليه، لكنهم، وفي ضوء مساحة الحرية الكبيرة التي حققوها، باتوا بأمسّ الحاجة إلى اختيار ممثلين عن الحراك، ذوي رؤية وطنية وحنكة سياسية، نواة يمكن أن تتواصل مع أية أشكال سياسية قد تفرزها التحرّكات المتصاعدة على مساحة الأرض السورية، وهذه الخطوة، إن تحققت، ستُحدث فارقاً كبيراً، سواء في اتساع الانتفاضة إلى مناطق أشمل في سورية، أو في تسريع تطبيق القرار الأممي 2254.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى