لا تنتصر الثورات بحسن النوايا، ولا بمحض تضحيات المضحين، بل هي عملية معقدة، وصعبة، ومؤلمة، وقد تكون طويلة، لكن مشكلتها الكبرى والخطيرة، التي يمكن أن تطيح بها، وتضيّع كل ما بُذل من دم وعرق وجهد وأحلام، هي الصراع على قيادتها، وتحول القيادة إلى سلطة، فيها ما في السلطة التي ثار عليه الثائرون من سوء وشراهة ومنافع شخصية .
في سبعينيات القرن الماضي يروى أن القائد الفيتنامي الأيقوني الجنرال جياب زار بيروت، وهناك التقى بعدد من شخصيات المقاومة الفلسطينية، ولفت انتباهه، حياة البذخ التي يعيشونها، بسيارات فارهة، وحياة مترفة، وسلطة حتى على مستوى البلد الذي يستضيفهم، فنقل عنه قوله أن ثورتكم لن تنتصر لأن الثروة والثورة لا يلتقيان.
جاء الجنرال جياب وهو يحمل دروسا عميقة من مقاومة مسلحة متصلة لأكثر من 20 عاما ضد الفرنسيين ثم الأميركيين، أبرز ما فيها أن الثوار، ينبغي أن يبقوا بينهم وبين السلطة ومظاهرها وأمراضها وإغواءاتها، كل ما يعرفون من مسافات، وأن قياداتهم بالذات يجب أن تقدم لهم النموذج لذلك، وإلا ضاعت الثورة، وتحولت إلى مجرد سيرك يتلاعب به بهلوانات السياسة والأفاقون وتجار الدم الطاهر.
رحل جياب ورحل معه قادة تلك المقاومة الخالدة، بعد أن انتصروا لثورتهم وبلادهم، لكن كثيرين منا لم يتعظوا، والأهم أنهم غير مؤهلين للعظة، وغير قادرين على أن يكونوا لا بمستوى الثورة، ولا بمستوى التضحيات التي بذلت من أجلها، بل أنهم ليسوا بأي حال مختلفين عن النظام الذي قامت الثورة لطرده.
حكاية الائتلاف السوري، هي بالضبط سردية وقوع الثورة في فخ السلطة والثروة، مجموعة نفعية، بلا مقومات ولا أهلية، تستبيح قيادة ثورة عظيمة، بكل الأحلام الكبيرة، والتضحيات التي بذلت من أجلها. شخصيات تسلقت على دماء الشهداء، لتقدم أسوأ نموذج ممكن لقيادة متعلقة ومحتكرة لسلطة وهمية، بلا هيبة، ولا مكانة، سوى منافع الجاه والمال وحب السيطرة، والرغبة بالبقاء بأي ثمن في موقع يجعل صاحبه ذا مكانة ودور لم يخلق له، ولا يستحقه.
فشل الائتلاف وشخوصه فشلاً ذريعاً في أن يصبح مختلفاً عن بشار الأسد ونظامه، فصار خنجرا في جسد الثورة، بدل أن يكون راعيا سياسيا لها وحاملا لمبادئها، ومتحدثا شرعيا باسمها، ومنافحا عنها، يقاتل مع المقاتلين، ويثور مع الثوار، وبدل أن يقدم هذ الجسد السياسي الذي ولد بالدم المقدس، درساً في شكل سوريا الجديدة، الحرة والديمقراطية، انحرف من انحرف فيه، ليتحول إلى مجرد هيكل فارغ من المحتوى تأكله المؤامرات والمناورات والاتكال على سطوة مخابرات هذا البلد أو ذاك، حتى رأينا مهزلة (الانتخابات) الأخيرة التي أفرزت (قيادات) فرضت ب (الصرماية) كما نقل عن رئيس حكومته المؤقتة في الشمال السوري.
ما جرى بشأن الائتلاف السوري مؤخرا، واللغط الذي أثارته انتخاباته، والصراعات التي انتقلت من قياداته الى الشارع السوري الثوري، هي أحد أنماط الخيانة، بل هي سبب مباشر في انتكاسة شديدة وجديدة للثورة، التي تعاني أصلا من هشاشة، وانكسارات، وفشل في تحويل ما تحقق في وقت ما منها الى نجاح سياسي، يمكن استثماره لاستقطاب المجتمع الدولي والبناء على ماتم في مراحلها الطويلة والمضنية، والأخطر، أن الأمر لم يكن مجرد لهاث خلف السلطة، ولا مجرد انشقاق في قمة الجسد السياسي الاساسي للثورة، بل هو كما يبدو مقدمة لتنفيذ اجندة سياسية تفرض على الجميع في مرحلة فاصلة يمكن ان تشهد تسويات وتنازلات، لن نستغرب أن شملت القبول ببقاء بشار الاسد حاكما لسوريا، مقابل مطالب هامشية، كثير منها منافع لذات الشخصيات المتسلقة.
هذه الفرضية ليست مستبعدة، فما جرى حتى الان في اللجنة الدستورية التي يرأسها نفس (الرئيس) الجديد للائتلاف، يقدم انطباعا عما يمكن أن يحصل من تنازلات جوهرية خطيرة، ولن نستبعد أن وراء الأمر صفقة كبيرة، لن يطول الأمر حتى تتكشف تفاصيلها.
ولكن، هل ينهي ذلك حكاية الثورة كما عرفها السوريون؟ المؤكد أن الشعب السوري، لم يعد لديه ما يخسره، وبالتالي فقبوله بصفقة ظالمة مفروضة عليه أمر مستبعد، لكن الثوار لا يمكن أيضا أن يرفضوا الائتلاف وخروجه عن مبادئ الثورة، ليتركوها بلا جسم سياسي يحاور العالم ويتصدى لتحويل التضحيات الى مكاسب، ولذلك، فليس من بديل سوى أن ينظم شباب الثوار، وفيهم عدد كبير من خيرة السوريين، وألمع شبابهم، وأكثرهم وطنية وبعضهم قاتل في الخنادق طويلا وقدم الكثير للثورة ولسوريا، هؤلاء يجب أن يتحدوا في سياق تشكيل سياسي، يعمل على استرداد الائتلاف من سارقيه، وهو الخيار الأفضل والأكثر جدوى وواقعية، أو أن يقوموا بجعل الجسم السياسي الجديد، صوت الثورة وممثلها الشرعي الوحيد.
بالطبع، لن يكون ذلك سهلاً، ولا سريعا، وقد نجد دولا تسعى لإجهاض هذا المشروع، لكن الأمر أيضا ممكن، سواء لأن مصالح الدول متناقضة، وتسمح دوما بوجود ثغرات يمكن أن تحقق هذا الهدف، أو لأن الشعب السوري سيكون مسانداً لهذا الجهد، بعدما فقد الأمل بقيادة الائتلاف، أثر ماحدث من صراع سلطة معيب، وأصغر كثيراً من سوريا وشعبها وثورتها، لم يفرح به سوى بشار وزبانيته، وأتخيلهم يضحكون عليه، يضحكون طويلاً، كما لم يفعلوا ذلك منذ زمن طويل.
المصدر: المدن