عالم مابعد الحرب العالمية الأولى
لايمكن فهم السياسة الدولية في زمن العهد الفيصلي دون دراسة أثر الحرب العالمية الأولى في إعادة تشكيل النظام الدولي , فقد كانت الحرب أشبه بزلزال دمر أسس النظام الدولي السابق بصورة تامة وأعاد تأسيسه وفق النتائج العسكرية التي تمخضت عنها الحرب .
وإذا كنا ننظر اليوم بكثير من الألم لما جاءت به اتفاقية سايكس – بيكو , فربما يتوجب علينا أن نتذكر أن تلك الاتفاقية ليست سوى واحدة من معاهدات كثيرة أعادت تشكيل دول العالم القديم السابق على الحرب .
وبصورة خاصة فقد انفرط عقد ثلاثة امبراطوريات كبرى وخرجت من عباءتها دول لم يكن لها وجود ,وهي الإمبراطورية النمساوية – المجرية والامبراطورية الألمانية والامبراطورية العثمانية ومن الإمبراطورية النمساوية – المجرية خرج من عباءتها كل من النمسا والمجر وصربيا وسلوفاكيا وكرواتيا وتشيكيا كما ضمت بعض أراضيها لدول أخرى مثل إيطاليا ورومانيا وأوكرانيا وبولندا , أما الامبراطورية الألمانية فقد فقدت 10% من أراضيها لصالح الدول الأخرى وفرضت عليها غرامات حرب باهظة وقيد جيشها واقتصادها , وتعرضت الامبراطورية العثمانية لأسوأ النتائج فحسب معاهدة سيفر 1920 تخلت الدولة العثمانية عن جميع البلاد الناطقة بغير اللغة التركية , وقسمت تركيا ذاتها إلى دول ومناطق نفوذ بحيث لم يبق للدولة العثمانية سوى منطقة الأناضول بينما منحت كل من اليونان وإيطاليا وفرنسا وانكلترا وإيطاليا أراض ومناطق نفوذ واعترف بدولة أرمنية في الشمال الشرقي ومشروع دولة كردية في الشرق. لكن ذلك لم يدم طويلا فأمام حرب الاستقلال التي شنتها الجيوش العثمانية التي تمردت على حكومة استانبول ودعمها الشعب التركي تراجعت الدول الكبرى واعترفت بتركيا بحدودها الحالية في معاهدة لوزان 1923 .
استطاعت تركيا إذن إفشال ماهو أسوأ من سايكس بيكو في حين عجز العرب عن تنظيم أية مقاومة لذلك المخطط , ولم يكن ذلك غريبا أو غير متوقع فأوضاع المشرق العربي لم تكن مؤهلة لتمكينه من مقاومة سايكس بيكو , فلم يكن لديه دولة ولا جيش ولا اقتصاد عشية خروجه من عباءة الدولة العثمانية , بخلاف الدولة العثمانية ذات المؤسسة العسكرية العريقة التي استطاعت أن تستعيد بسرعة مستوى من التماسك للدفاع عن وطن مهدد بالزوال ووقفت خلفها بقوة كتلة شعبية واسعة منسجمة مستعدة للقتال لحماية وجود الدولة والوطن .
كانت سورية وحدها في مواجهة سايكس بيكو مثل طفل رضيع لا يملك شيئا من عوامل القوة , والتشبيه ليس من عندي بل هو ما ورد في خطاب الأمير فيصل في حلب بعد انسحاب الجيش العثماني من سورية
لكن فيصل نسي أن ذلك الطفل كان بمواجهة الضباع أيضا , أما ثورته العربية الكبرى فلم تكن قادرة على حماية نفسها لتتمكن من حماية ذلك الطفل السيء الحظ .
الحماية الوحيدة التي كانت متاحة للمشرق العربي في مواجهة سايكس بيكو هي البقاء تحت عباءة الدولة العثمانية في تلك المرحلة الصعبة والخطيرة , والقتال مع الجيش العثماني , فحتى مع هزيمته في الحرب العالمية كان يمكن إفشال مخطط التقسيم والاستيطان كما أفشلت تركيا مخطط تقسيمها وأجبرت الحلفاء المنهكين من الحرب على التراجع عن مخططاتهم الاستعمارية الخبيثة .
وذلك كان رأي كثير من العقلاء العرب ومنهم الأمير شكيب أرسلان وهو أن ضرر العثمانيين أخف من ضرر الحكم الفرنسي أو البريطاني وكتب في رسالة تحذير لمؤتمر الجمعيات العربية في باريس في 1913 : ” البديل عن الحكم العثماني ليس الحكم العربي ولكن الحكم البريطاني والفرنسي فاختيار العثمانيين هو اختيار لأخف الضررين ( كتاب شكيب أرسلان : تاريخ الدولة العثمانية – المقدمة ) .”
اجتمعت في باريس في 18 كانون ثاني 1918 الدول المنتصرة في الحرب , لتكون أمام مهمتين رئيسيتين الأولى هي تثبيت معاهدات الاستسلام للدول المنهزمة بإعطائها طابعا حقوقيا دوليا لمرحلة طويلة قادمة ومنعها من أن تشكل أي تهديد سواء بتجريدها من القوة العسكرية ( فرضت على ألمانيا شروط عسكرية قاسية منها أن لايتجاوز عدد جيشها 100000 جندي وتجريدها من السلاح الثقيل وإلغاء نظام التجنيد الاجباري وغير ذلك ) وتم اقتطاع أجزاء من الأراضي الألمانية وسلبها مستعمراتها الافريقية …الخ ( معاهدة فرساي )
ووقعت معاهدات استسلام أيضا مع كل من الامبراطورية النمساوية المجرية وبلغارية والدولة العثمانية .
أما المهمة الثانية فكانت كيفية تقاسم غنائم الحرب بين الدول المنتصرة , وقد استغرق ذلك معظم الوقت المتاح للمؤتمر وجرى بطرق علنية وسرية , وحظيت الدولة العثمانية بنصيب هام من ذلك الجهد .
رافق ذلك كله إنشاء هيئة عالمية تعبر عن النظام الدولي الجديد ( عصبة الامم المتحدة ) وقد خلصت تلك الهيئة إلى إقرار مبدأ الانتداب كغطاء قانوني دولي وصيغة متقدمة لما كان يعرف بالاستعمار الغربي .
وقد تم التوصل لتلك الصيغة كحل وسط بين الفكرة التقليدية التي كانت تمنح الدول الغربية حق احتلال الدول المتخلفة ونهبها تحت دعوى نقل الحضارة والمدنية والتي عرفت باسم الاستعمار وبين المبادىء الأربعة عشر التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ويلسون والتي تدعو لانهاء استعمار الشعوب وحقها في تقرير المصير .
هكذا بدلا عن حق تقرير المصير وضعت فكرة الانتداب وتم تفسيرها بأن بعض الشعوب الخارجة من رحم الامبراطوريات المتفككة ليست في حالة تؤهلها لانشاء دولة عصرية , وبالتالي لابد من أن تتولى إحدى الدول المتقدمة تقديم المساعدة لها والاشراف على مؤسساتها الادارية والاقتصادية والعسكرية بصفة استشارية لغاية وصولها لوضع دولة حديثة يمكن قبولها والاعتراف بها في المجتمع الدولي .
وفي هذا السياق فقد تم وضع تصنيف للشعوب حسب معايير التقدم وصنف المشرق العربي بأنه على درجة من التقدم بحيث يمكن الاعتراف بشعوبه كأمم مستقلة مؤقتا لكنها بحاجة للانتداب لفترة محددة,
وهكذا تم إقرار مبدأ الانتداب بالنسبة لسورية والعراق , لكن ماينبغي التوقف عنده هو الشرط الذي تم وضعه لذلك الانتداب والتي قامت فرنسا وبريطانيا بضربه بعرض الحائط حين اتخذت من الانتداب غطاء لاحتلال المشرق والتصرف بمصيره لفترة طويلة قادمة . وهو الذي يتطلب أن تؤخذ رغبات هذه الشعوب بالنسبة للدولة التي تننتدب عليها كما تنص المادة 22 الصادرة عن عصبة الأمم والتي حددت مفهوم الانتداب .
وبعد إقرار مفهوم الانتداب واعتماد تطبيقه على الشعوب الخارجة من الدولة العثمانية أصبح لدى أهم الدول الاستعمارية في ذلك الزمن بريطانيا وفرنسا الغطاء الدولي لاقتسام المشرق العربي والتحكم بمصيره وفق اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور.
مع ذلك فقد استغرق الأمر بعض الوقت للانتقال لتطبيق الانتدابات , وذلك لعدة أسباب منها مطالبة بريطانيا بالموصل الذي كان من حصة فرنسا حسب سايكس بيكو , والدخول في مفاوضات مع فرنسا لتعديل ذلك الاتفاق وقد تم ذلك وأعلن رسميا في مؤتمر سان ريمو في 26 نيسان 1920 مقابل منح بريطانيا لفرنسا الانتداب غير المشروط على سورية الداخلية والتي كان اتفاق سايكس بيكو يحدد وضعها كدولة عربية شبه مستقلة بنفوذ فرنسي مما كان سيسمح ببقاء المملكة العربية السورية برئاسة فيصل كملك مع انتداب فرنسي .
والسبب الآخر هو انشغال الدول الكبرى باتفاقيات الاستسلام مع ألمانيا والامبراطورية النمساوية – المجرية وبلغاريا وتقاسم الغنائم الأخرى وأيضا الانتهاء من المعاهدة مع الدولة العثمانية عقب توقيع الهدنة معها ووقف الأعمال الحربية في اتفاق مودروس بتاريخ 30 تشرين أول 1918 وبالتالي أخذ توقيعها على التخلي عن جميع البلاد العربية التي كانت تحكمها سابقا لاستكمال المقدمات الضرورية لتقاسم تلك البلدان وقد استغرق ذلك حوالي سنتين لغاية الانتهاء منه وتوقيع معاهدة سيفر في 10 آب 1920 ويمكن ملاحظة أن فرض الانتداب الفرنسي على سورية والهجوم العسكري على دمشق قد تم على عجل حتى قبل توقيع الاتفاق مع تركيا تحت ضغط الأحداث في سورية وسياسة الجنرال غورو التي اتصفت بالشدة والميل لاستخدام القوة دون أخذ كثيرمن الاعتبار للسياسة الدولية ومتطلباتها .
أما السبب الثالث فهو الإرباك الذي أحدثه دخول السياسة الأمريكية على الخط ضمن مؤتمر باريس والإحراج الذي أجبر بريطانيا وفرنسا للموافقة على إرسال لجنة لاستفتاء الشعب في سورية , ذلك الاستفتاء الذي لم يكن يعني في الواقع سوى معرفة أي انتداب يفضل الشعب السوري بعد أن أصبح الانتداب أمرا مقررا في مؤتمر السلم بباريس .
هكذا استغرق الأمر بعض الوقت في تشكيل اللجنة وإرسالها لسورية وقيامها بأعمالها الاستطلاعية خلال عدة أشهر قبل عودتها لباريس ثم إلى الولايات المتحدة بعد أن انسحبت الولايات المتحدة من مؤتمر باريس وتركت موضوع البحث في مصير المشرق العربي لبريطانيا وفرنسا بصورة نهائية .
ولم يعد لللجنة وتقريرها أي وزن في السياسة الدولية تجاه المشرق العربي والتي استقرت بيد بريطانيا وفرنسا.
أدرك الأمير فيصل مبكرا أنه يواجه قرارا دوليا متفقا عليه سلفا بين بريطانيا وفرنسا , وكل ما كان يقدر عليه ويحاوله هو أن يجد لنفسه وللكيان الفيصلي مكانا داخل ذلك القرار , وفي أحسن الاحتمالات بإدخال شيء من التعديل عليه .
يقسم اتفاق سايكس بيكو سورية الطبيعية إلى عدة أقسام , ففلسطين وبالأحرى القدس وماحولها يفترض أن تكون تحت سلطة مشتركة فرنسية بريطانية روسية , وبعد ثورة البلاشفة خرجت روسيا من الاتفاق وبقيت فرنسا وبريطانيا , أما لبنان والساحل السوري حتى انطاكية وكيليكية فهو منطقة تحت الادارة المباشرة لفرنسا , وهناك منطقة إلى شرق الساحل السوري تضم المدن الأربعة الرئيسية دمشق وحمص وحماة وحلب اتفق على دولة عربية شبه مستقلة فيها تحت الحماية الفرنسية كما ذكر سابقا , المهم هنا أن الملعب الذي كان مهيأ لفيصل هو تلك المنطقة الداخلية , وربما كانت بريطانيا تطمع بإبقاء شيء من نفوذها مع إبقاء رجلها فيصل ملكا على ذلك الكيان , ولا بد أن فيصل أدرك جيدا حدود اللعبة في وقت من الأوقات .
فماذا حدث بعد ذلك ؟
منذ بداية العهد الفيصلي الذي نشأ برعاية بريطانيا كانت كل من فرنسا وبريطانيا تراقبان عن كثب مايجري في سورية , وبينما كانت فرنسا وحدها مستاءة من النتائج التي خلصت إليها لجنة كنغ كراين من كون الغالبية الساحقة من السوريين في الداخل السوري يقفون ضد الانتداب الفرنسي , كانت بريطانيا تخفي سرورها من تلك الحقيقة في ظل تنافس مكتوم على النفوذ تحت سطح الاتفاقات بين الدولتين الاستعماريتين , لكن ماحصل بعد ذلك أن الحركة الوطنية السورية المعادية لفرنسا وبريطانيا والتي يغلب عليها الطابع القومي العربي بدأت تنمو بسرعة وسط الشعب , واتسعت تنظيماتها ونفوذها الفكري والسياسي , وأظهرت توجهات معادية للمصالح الاستعمارية البريطانية في العراق ومعادية لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين , ويذكر أن الثوار العراقيين ضد الجيش البريطاني في العراق كانوا يتلقون الدعم بالمال والسلاح من سورية عبر دير الزور بل لقد اتخذت دير الزور قاعدة متقدمة لكوادرهم وعملياتهم , وبالنسبة لفلسطين فقد كان مشروع الاستيطان الصهيوني يحتل أولوية قصوى في الأجندة السياسية للمشرق العربي , ليس لمجرد وعد بلفور ولكن لكون ذلك المشروع يدخل في صلب مشروع الهيمنة على المنطقة ومنعها من تكوين قوة ذاتية كبيرة يمكن أن تهدد المصالح الغربية فهو مشروع غربي قبل أن يكون مشروعا صهيونيا . ووقوف الحركة الوطنية السورية بثبات ضد مشروع الاستيطان يعني تعريض ذلك المشروع للمخاطر وهو في طور انطلاقته الأولى , وشيئا فشيئا بدأ يتضح أن فيصل لم يعد ممسكا بزمام الموقف في سورية , وأن بقاء المملكة العربية السورية حتى ضمن نظام الانتداب سيخلق المتاعب لفرنسا ولبريطانيا أيضا في كل من العراق وفلسطين .
هكذا انتهت السياسة البريطانية إلى أن تصفية الحركة الوطنية السورية لايمكن أن تتم على نحو كامل سوى بتصفية العهد الفيصلي وإعطاء فرنسا الفرصة لقلب صفحته بطريقتها المعهودة من الشدة في التعامل مع مستعمراتها في المغرب العربي . حتى لوكان ذلك على حساب فيصل رجلها في المنطقة وعلى حساب شيء من نفوذها في سورية .
ويبدو أن تساهل بريطانيا في تمكين فرنسا من حكم الداخل السوري كما تريد كان هدية غير متوقعة لفرنسا التي كانت قد بدأت تميل لترك سورية والاكتفاء بحكم لبنان ووفقا لفيليب خوري: ” ومع أن طلب كليمنصو الأصلي بالسماح للقوات الفرنسية باحتلال كل من سورية ولبنان قد تقلص إلى احتلال لبنان فقط , فإن بريطانيا أزيلت أخيرا كمنطقة عازلة بين فرنسا وفيصل ” . ( فيليب خوري – الانتداب الفرنسي على سورية – ص60 ) .
مع ذلك فلم تبع بريطانيا فيصلا والعهد الفيصلي مجانا لفرنسا بل قبضت ثمنه غاليا من تخلي فرنسا عن الموصل الغني بالنفط , وانفرادها بالانتداب على فلسطين .
وبعد إتمام الصفقة لم يعد هناك سوى سحب الجيش البريطاني من سورية وإطلاق يد فرنسا في سورية الداخل دون قيد أو شرط .
خاض فيصل معاركه الديبلوماسية في أوربة حيث بقي فيها 9 شهور خلال مرحلتين من أصل 22 شهرا هو عمر العهد الفيصلي , ولا شك بأنه أهدر وقتا طويلا بدون نتائج تستحق الذكر في محاولة تعديل السياسة البريطانية تجاه سورية ثم محاولة الوصول إلى اتفاق مع فرنسا لم يكتب له النجاح .
من غير المجدي البحث عن أسباب انهيار العهد الفيصلي خارج السياسة الدولية , فكما يقال فقد ولد ذلك المشروع محكوما عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ , ومصيره الذي وصل إليه لم يتقرر في 25 تموز 1920 حين اجتاح الجيش الفرنسي الحدود بين سورية ولبنان ولكن منذ اللحظة التي أعلن فيها الشريف حسين ثورته ضد الدولة العثمانية , تلك الثورة التي جردت سورية من الوسيلة الوحيدة التي كانت متاحة للدفاع عنها في مواجهة المخططات الاستعمارية البريطانية والفرنسية , وتركتها فريسة سهلة للتقسيم والاستيطان والاحتلال لمدة تزيد عن ربع قرن .