تشغل الحداثة حيزاً مهماً في الخطاب العربي المعاصر، حيث تختلف وجهات النظر، وتتعارض المفاهيم والمصطلحات، وتتنوع المقدمات والنتائج. ولعلّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الارتكاس بالوعي العربي إلى مقولات قرون سابقة، تدور حول الغرب وحضارته وثقافته وفكره وموقعنا من هذه الحضارة والثقافة والفكر، حيث يستعاد الموقف القائل بـ “عدوانية الغرب” و”بربرية حضارته”، إلى جانب مقولة التفوق الروحي والإنساني الذي اختصت به ثقافتنا وفاقت فيه مادية الغرب ووحشيته. هكذا يتم التخلّي عن مقولات النهضة العربية الحديثة، لا بالتقدم إلى ما بعدها بل بالارتكاس إلى ما قبلها، ما يشكل في حد ذاته تعبيراً مأسوياً عن إحباط التنوير والحداثة في عالمنا العربي المعاصر.
وأمام هذا الارتكاس إلى عصور التأخر نتساءل: إذا كان المشروع التحديثي العربي قد تعثّر ولم يتمكن من بلوغ أهدافه، فهل لا تزال الحاجة قائمة إليه، في عصر تجاوز العالم حقبة الحداثة ذاتها، ودخل إلى أفق جديد مختلف السمات والقسمات؟ وهل يتسنى للعرب ولوج العصر الجديد، عصر العولمة وما بعد الحداثة، دون المرور بمرحلة الحداثة التي فشلوا في الوصول إليها؟
يشير مصطلح الحداثة إلى مرحلة تاريخية طويلة نسبياً، بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيّرات الكبيرة والعميقة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عملياً مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول الوطنية الحديثة وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية أيضاً.
وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى المحطات الأساسية في الفكر الغربي الحديث، التي هي فكر ديكارت الذي دشن نظرياً عصر الحداثة، وفكر كانط الذي بلور نقدياً ديناميكية الأنوار، وفكر هيغل الذي صاغ مفهومياً لحظة اكتمال الحداثة في نموذج الدولة الحديثة.
إنّ الحداثة ليست ترفاً فكرياً، بل هي تطبيق منهجية عامة للتحليل وطريقة في التفكير، وهي لا تحضر وتغيب بحسب أنواع الأحداث أو علاقاتنا العاطفية بها. وعصر الأنوار يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، حين تم التأكيد على أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية.
لقد شكل عصر الأنوار قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ كان الفضاء الذي قام على أربع محددات:
1 – العقلانية، باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات، أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته.
2 – التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحول، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحل لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم.
3 – الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد.
4 – العلمانية، أي حيادية الدولة عن الأيديولوجيات والأديان والأحزاب، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة والسلوك الأخلاقي والسياسي. وهي تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانياً وتنويرياً، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها.
وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها أقرب لأن تكون مفهوماً سياسياً، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية، وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة.
إنّ الكثيرين في العالم العربي لا يدركون تماماً ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. ولعلَّ السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفاً لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له، وتفتح المجال لحرية المعتقد.
إنّ الحداثة أكثر من أن تكون نتاجاً لمرحلة تاريخية منقضية، وإنما هي أقرب لأن تكون برنامجاً لم يكتمل بعد، ولا يزال قادراً على أن يلعب دوراً إيجابياً في المجتمعات المعاصرة، بما فيها مجتمعاتنا العربية الراهنة، فالحداثة تتضمن انفتاحاً على مستقبل غير مغلق وبلا نهاية، يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والروحي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي. على أنّ الحداثة كل لا يقبل القسمة، أو التجزئة، فلا يمكن أن نُقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة. وقد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي أساليب متنوعة في عالم الممارسة، ولكنّ الأهداف والأسس النظرية لم تتغير.
وهكذا، تتجلى الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة بمظاهر ثلاثة هي: فوقية العقل، وكرامة الإنسان، ونسبية المصالح. فالحداثة، كمرجعية عليا تسود المجتمعات المعاصرة، لا تعتبر نفسها مرجعية مطلقة أو معصومة عن الخطأ، إنها تسمح بالعودة النقدية على ذاتها كلما قطعت شوطاً ما لمعرفة أين أصابت وأين أخطأت وكيف يمكن تصحيح الخطأ ومواصلة المسيرة من جديد. وربما لهذا السبب أصبحت المجتمعات الحديثة ديناميكية، تحقق التقدم باستمرار في كافة المجالات، فهي لم تعد ملجومة من قبل ثوابت مطلقة لا حيلة للإنسان فيها، ثوابت لا تخضع للنقاش العقلاني أو المنطقي.