فتحت المملكة العربية السعودية الباب جزئيًا أمام الأسد للعودة إلى “الحضن العربي”، لكنها من أبرز المتضررين في الوقت نفسه، على مستوى تهريب المخدرات باتجاهها، دون توقف، إلى جانب عدم التوصل إلى نتيجة من خلال رؤيتها الجديدة للتعامل مع الملف السوري.
كما أن عودة الأسد منوطة بملفات عالقة ومتراكمة ومركّبة في الملف السوري، بحاجة إلى التفكيك في سبيل الحل، وهو ما حاولت “المبادرة الأردنية” المدفوعة عربيًا تحقيقه، من خلال تقديم جملة بنود أو أولويات تحدد المأمول والمطلوب من النظام بالمنظور العربي، وما يمكن أن يناله في المقابل، في حال التجاوب.
ومن الملفات التي برزت أكثر بعد التحركات العربية، ملف تهريب المخدرات من سوريا نحو دول الخليج، فترافق كثير من الاجتماعات واللقاءات العربية مع النظام بإحباط محاولات تهريب، إلى جانب زيادة في الوتيرة.
بنود “المبادرة الأردنية” التي نشرتها مجلة “المجلة” السعودية، في وقت سابق، سلكت مسارًا عكسيًا، عبر تطبيق النقيض منها، لا الالتزام بها، وعلى مختلف الصعد، ما ولّد حالة من الخيبة العربية والسعودية، التي لم يعبّر عنها رسميًا بالتصريحات، بل بالمؤشرات التي يتصدرها عدم افتتاح السعودية سفارتها في دمشق، رغم نفي مصدر دبلوماسي عربي، لم تسمِّه صحيفة “الوطن” المقربة من النظام، وجود خلافات بين الرياض ودمشق.
ومنذ أن أطلق وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في 18 من شباط الماضي، تصريحه على هامش مؤتمر “ميونيخ للأمن 2023″، الذي تطرق إلى وجود “إجماع عربي على أن الوضع في سوريا يجب ألا يستمر على ما هو عليه”، اتجهت السعودية لتغيير آلية تعاطيها مع الملف السوري، وصولًا إلى زيارة ابن فرحان إلى دمشق، ولقائه رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 18 من نيسان، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ عام 2011.
هذه الزيارة التي استمرت لساعات فقط، سبقتها بأقل من أسبوع زيارة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، إلى جدة، في 12 من نيسان، وتبعتها، في 19 من أيار، مشاركة الأسد في قمة جدة، بعد غياب عن جامعة الدول العربية منذ بداية الثورة في 2011، ما جعل مشاركة الأسد ولقاءه بالقادة العرب مجتمعين، الأول منذ قمة سرت في ليبيا (2010).
المخدرات دليل واضح
إلى جانب ملفات كثيرة ناقشتها “المبادرة الأردنية”، على مستوى عودة اللاجئين، وتهريب المخدرات والعلاقة مع إيران، ربط الأسد في حديث خاص إلى “سكاي نيوز عربية”، في 9 من آب الحالي، وبشكل صريح، عودة اللاجئين بتحسن الواقع المتردي في مناطق سيطرته التي يشهد بعضها منذ أكثر من أسبوع احتجاجات شعبية سلمية تنادي بإسقاط النظام، بعد تراجع غير مسبوق في المستوى المعيشي وغياب أفق الإصلاح.
وبالنسبة للمخدرات التي أحبطت السعودية أحدث محاولات تهريبها، في 25 من آب، حمّل الأسد مسؤولية استمرار هذه العمليات لـ”الدول التي أسهمت بخلق الفوضى في سوريا”، نافيًا صلة نظامه بتهريبها، رغم حديث وكالة “رويترز”، في 9 من أيار، عن اقتراح سعودي بتعويض النظام خسارة تجارة “الكبتاجون” في حال توقفها.
ونقلت وكالة “رويترز”، حينها، عن مصدر وصفته بـ”الإقليمي المقرب من دمشق”، أن السعودية عرضت أربعة مليارات دولار، وفق تقديرات الرياض لقيمة التجارة، وقُدّم الاقتراح خلال زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق، في 18 من نيسان.
وحول مستوى الحضور الإيراني في سوريا، ومساعي العرب عمومًا والسعودية خصوصًا إلى تقليصه، مضى الأسد أبعد من ذلك، حين وصف العلاقات العربية- العربية بالشكلية، موضحًا أن العودة إلى الجامعة العربية ستبقى شكلية ما لم يجرِ الوصول إلى مرحلة وضع الحلول، وأن الجامعة العربية لم تتحول إلى مؤسسة بالمعنى الحقيقي.
كما أثنى في الوقت نفسه على العلاقات مع إيران وروسيا، معتبرًا أن سوريا تحسن اختيار أصدقائها.
إحباط سعودي
حالة الإحباط السعودية من رد فعل النظام السوري على “المبادرة الأردنية” ومطالب العرب، وعدم إحراز تقدم في أي ملف عالق، منذ عودة الأسد إلى الجامعة العربية، والبقاء في النقطة ذاتها ومواصلة التدهور على مختلف الصعد بعد زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي (رسول المبادرة) إلى دمشق، في 3 من تموز الماضي، بدت بوضوح في ما نشرته وسائل إعلام سعودية ذات وزن لدى المملكة.
بحسب مادة رأي نشرتها صحيفة “عكاظ” السعودية، في 28 من تموز، للمحلل السياسي رامي الخليفة العلي، فإن حكومة النظام السوري لم تبدِ موافقتها على أفق الحل المقترح عربيًا بشكل صريح وواضح، ما دفع المجتمع الدولي إلى حالة شك بإمكانية نجاح الدول العربية بإقناع النظام بهذا الإطار الجامع.
وأشار المحلل إلى ملفات عالقة في “الأزمة السورية”، وقال إن “السعودية كما الدول العربية التي رسمت أفقًا لحل الأزمة السورية، بذلت جهودًا جبارة، وعملت على إقناع المجتمع الدولي بهذا الحل (…) لكن إذا لم تساعد نفسك فلا أحد يستطيع مساعدتك”.
وفي مادة أخرى للصحفية عالية منصور، نشرتها مجلة “المجلة“، في 20 من آب، اعتبرت أن تعثر مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد لا يبدو مفاجئًا، مستندة في استنتاجها إلى تدهور في الملفات العالقة حتى عما كانت عليه (اللاجئون والمخدرات والوضع الاقتصادي والحل السياسي).
وأضافت الكاتبة أن منظومة الحكم في دمشق لم تعد قادرة على التمييز بين الرغبة العربية في إطفاء الحرائق وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الإقليمي وبين حالة الضعف.
ورقة غير ملزمة
بالتوازي مع كل هذه الرسائل غير الإيجابية، عقدت “لجنة الاتصال العربية” اجتماعها الأول في 15 من آب، بمشاركة وزراء خارجية كل من مصر والعراق والسعودية ولبنان والنظام السوري.
وجرى في القاهرة، بمشاركة أمين عام جامعة الدول العربية، لبحث تطورات الملف السوري، ومتابعة تنفيذ مخرجات “لقاء عمان التشاوري” وفق ما أقره بيان “قمة جدة”.
وانتهى الاجتماع ببيان ختامي لم يضف جديدًا أبعد من الاتفاق على لقاء آخر في العاصمة العراقية، بغداد، يحدد موعده بوقت لاحق، لكن الصحفي السوري إبراهيم حميدي، وفي مادة نشرها عبر “المجلة”، أوضح أن “المسار العربي- السوري” خضع لأول اختبار في الاجتماع الوزاري العربي في القاهرة (لجنة الاتصال).
ووفق حميدي، فإن مضمون النقاشات العربية مع وزير الخارجية السوري، أظهر فجوة كبيرة وبطئًا شديدًا بالتقدم في المسار، لافتًا إلى موافقة المقداد على مضض على تسلم نسخة من الورقة العربية- الأردنية (خطوة مقابل خطوة)، تضمنت المطلوب والمعروض على دمشق، وتسلمها المقداد بشرط ألا تكون ملزمة.
اللواء السعودي المتقاعد والباحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية عبد الله بن غانم القحطاني، أوضح لعنب بلدي أن السعودية لا تتعامل مع الفرعيات، بل مع الاستراتيجية العامة للمنطقة، بما فيها الملف السوري، إذ تسعى الرياض للوصول إلى الحد الأدنى لتهيئة المنطقة للبناء.
وليس هناك على ما يبدو أي حل سوى محاولة بدء الخطوة الأولى، والطريق طويل جدًا، لإعادة تأهيل هذا النظام لما بعده، فالمسألة لا تتعلق بعائلة الأسد، بل بتاريخ سوريا وإنسانها، ولا شيء سيستمر كما هو.
القحطاني اعتبر مشاركة النظام في لقاءات عربية طبيعيًا في الوقت الراهن، لكن من غير الطبيعي توقع أي شيء من حكومة النظام السوري.
وأشار القحطاني إلى أن النظام لا يسيطر اليوم على الدولة السورية، وفاقد الشيء لا يعطيه، وملف المخدرات يفوق قدرة الأسد على إيقافه، لأنه لا يسيطر على الأرض، ومن يسيطر على دمشق ويحمي النظام هو إيران، بحسب القحطاني، وكل المحاولات السياسية العربية لتخليص السوريين من الإرهاب والميليشيات غير قابلة للتطبيق حاليًا، فلا يمكن للضعيف أن يخرج القوي، وحكومة النظام هي الحلقة الأضعف على الأرض.
كما اعتبر المحاولات العربية محاولة للخطوة الأولى أو ما قبلها لمرحلة مقبلة ليست قريبة، وكل ما ذكرته “المبادرة الأردنية” يستحيل على النظام تطبيقه أو إنجاز أي جزء منه حتى لو تدريجيًا، فالأسد يرى العلاقة مع إيران استراتيجية، ومع العرب شكلية، وهناك اتجاه حقيقي يعبر عنه ما يجري على الأرض بقيادة أطراف إقليمية ودولية وميليشيات كثيرة تقود المشهد في سوريا، والغائب الحاضر هو النظام السوري، لأن النظام سلّم سوريا إلى هذه القوى وجلب إيران والروس وفتح باب الذرائع لتدخل أطراف أخرى، وأطلق أيدي الميليشيات، ولن يستطيع تحقيق خروقات بهذا الإطار حتى لو مورست عليه أقوى الضغوط، أو قُدمت له أهم الإغراءات.
ولا يعتبر المسار العربي الوحيد المتعثر أو الذي لم يحرز تقدمًا منذ انطلاقته، فالتقارب مع تركيا، والمفاوضات مع المعارضة عبر توقف مسار “أستانة”، وعدم الانتقال للبديل بعد، والحديث عن إعادة استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية، كلها مسارات بطيئة الخطى، لا تتماشى مع تسارع التدهور على مختلف الصعد في سوريا.
المصدر: عنب بلدي