الشعب التونسي الفاعل الغائب

محمد خليل برعومي

منذ 25 يوليو/ تموز 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيّد تجميد البرلمان وتعليق الدستور وانفراده الفعلي بكامل السلطات، دخلت تونس طوراً سياسياً جديداً يُوصف بالانقلاب على المسار الديمقراطي، والقطيعة مع التجربة السياسية التي وُلدت من رحم الثورة. لقد مثّل ذلك المنعطف لحظة فاصلة كشفت هشاشة البناء الديمقراطي الذي شُيّد على امتداد عشرية كاملة، ووضعت البلاد أمام واقع سلطوي يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، على نحوٍ يستحضر ماضي الهيمنة الفردية، ويُنذر بتآكل ما تبقّى من روح المشاركة والرقابة الشعبية.
الفارق بين نظام ما بعد الثورة والنظام الحالي لا يقتصر على الشكل أو الترتيبات الدستورية، بل يمتدّ إلى الجوهر، ففي حين تأسّست الديمقراطية الناشئة، رغم عثراتها، على مبدأ التعدّد وتوزيع السلطة وحرية التعبير والانفتاح المدني، فإن النظام الراهن ينزع نحو تركيز الحكم، ويُفرغ المؤسّسات من مضمونها، ويُضعف الفاعلين الوسيطين، ويُعيد صياغة الحقل السياسي حول فرد واحد، يُقدَّم بوصفه الصوت الوحيد المُعبِّر عن إرادة الشعب.

لم يكن تغييب الشعب التونسي تلقائيّاً فحسب، بل كثيراً ما كان مقصوداً ومُمنهجاً من بعض النُّخبة السياسية التي احتكرت الخطاب، واستعلت على المواطن

في هذا السياق، يطفو في السطح سؤال جوهري: أين هو الشعب من هذه التحوّلات؟ وهل لا يزال يحتفظ بدوره مصدراً للشرعية وفاعلاً في المعادلة، أم أنه انسحب إلى الهامش، مكتفياً بموقع المتفرّج على مشهدٍ تتلاشى فيه أدوات المحاسبة وتضمحلّ فيه المشاركة؟… الواقع أن التجربة التونسية، سواء في سنواتها الديمقراطية الأولى أو في انزياحها السلطوي الحالي، تكشف خللاً عميقاً في موقع المواطن داخل النظام السياسي، إذ ظلّ الحضور الشعبي محصوراً في لحظات الانتخاب أو الاحتجاج، من دون أن يتكرّس فعلاً يومياً، أو يتحوّل شراكةً دائمةً في تسيير الشأن العام. فحتى في أوج الديمقراطية، لم تُفلح النُّخب في بناء عقد سياسي متين مع الشعب، ولم تُبنَ أدوات فاعلة للمساءلة والمشاركة، بل يُكرَّس نوع من التمثيل الفوقي، تُرك فيه المواطن في موقع المتلقّي لا المبادر، والشاهد لا المشارك.
ولم يكن هذا التغييب تلقائيّاً فحسب، بل كثيراً ما كان مقصوداً ومُمنهجاً من بعض النُّخبة السياسية التي احتكرت الخطاب، واستعلت على المواطن، واستخدمته ورقة ضغط انتخابي، ثمّ ما لبثت أن أدارت له ظهرها حين استقرّت في مواقع السلطة، بل إنّ بعض النُّخب المتنفّذة تحالفت مع لوبيات الإعلام ومراكز النفوذ الاقتصادي لإعادة توجيه الرأي العام، وتضليله، أو دفعه إلى العزوف والانقسام، فكان الإعلام أداة تلاعب بالشعور الجمعي، لا وسيلةَ توعية أو رقابة. وفي غياب البدائل المستقلّة والمهنية، تحوّل جزء كبير من الإعلام أداةٍ لتكريس الشعبوية، من جهة، وتبييض السلطوية من جهة أخرى، مساهِماً بذلك في ترسيخ ثقافة سياسية تُقصي العقل وتؤجّج الانفعال، وتغري الناس بشعارات الخلاص السريع بدلاً من بناء الفهم والموقف.
ويُفسَّر هذا الغياب المركّب للمواطن بترسّبات نفسية واجتماعية عميقة، تعود إلى عقودٍ من الاستبداد، إذ صُمّمت الدولة في مقاس الحاكم، وتحوّل المواطن كائناً سياسياً سالباً، ينتظر التوجيه ولا يشارك في اتخاذ القرار. هذا الإرث لم ينمُ عليه جيل أو جيلان فحسب، بل أصبح جزءاً من المخيال الجمعي الذي يرى في الدولة أباً، وفي الزعيم مخلّصاً، وفي السياسة شأناً معقّداً لا يُجيده إلا “أهل الخبرة”. هكذا، حين ضُربت التجربة الديمقراطية بانقلاب ناعم، لم تنهض حركة جماهيرية واسعة للدفاع عنها، بل ساد الصمت أو الحياد أو حتى التصفيق، في مشهدٍ يؤكّد هشاشة الثقافة الديمقراطية لدى قطاعات واسعة من الشعب.
تحوّلت العلاقة بين الدولة والمواطن في النظام الحالي علاقةً أحاديةً، يتكلّم فيها رأس السلطة باسم الجميع، ويتّهم من يخالفه بالعداء للشعب أو للثورة أو للدولة نفسها، في نزعة تُماثل تماماً خطابات الأنظمة الشمولية التي تجعل من الزعيم تجسيداً للهُويَّة الوطنية، ومن المعارض خائناً أو مرتزقاً. هذه الثنائية القاتلة تضعف السياسة وتُصادر التعدّد وتمنع بناء دولة القانون، لكن الأخطر من ذلك كلّه أنها تدفع المواطن إلى مزيد من الانسحاب والانكفاء، وتُعيد إنتاج الشعور بالعجز، الذي هو العدو الأوّل لأيّ تجربة ديمقراطية.
الديمقراطية لا تُبنى من فوق، بل من تحت، من القاعدة التي تنطلق من الأحياء والبلديات والمدارس والجمعيات، من الإعلام المحلّي، ومن كلّ فضاء يجعل المواطن شريكاً في القرار لا تابعاً له، وحين تغيب هذه القاعدة، كما هو حال تونس اليوم، تُختزل الدولة في شخص، والمجتمع في جمهور، والسياسة في خطاب تعبوي لا يحتمل النقد. ذلك أن السيادة لا تُهدى، بل تُمارس، والحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، والدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بالفعل الجماعي المُنظَّم، الذي يبدأ من الإيمان بأن لكلّ مواطن دوراً، ولكل صوتٍ معنىً، ولكل مشاركةٍ أثراً.

تكشف التجربة التونسية خللاً عميقاً في موقع المواطن داخل النظام السياسي، فلم يتكرّس الحضور الشعبي فعلاً يومياً

ولئن كان الانتقال الديمقراطي في تونس قد تعثّر أو أُجهض، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق طرف واحد فحسب، بل يتحمّلها الجميع، النُّخب التي فشلت في احتضان الناس وتبسيط السياسة وتوزيع ثمار المشاركة، والمنظومة التي عجزت عن تفكيك إرث الاستبداد، ووسائل الإعلام التي ساهمت في تزييف الوعي وتشويه المجال العام، والمجتمع نفسه الذي لم يستوعب بعد أن الديمقراطية ليست موسماً انتخابيّاً، بل تربية يومية، ومقاومة صبورة، وثقافة متجذّرة.
ما تحتاجه تونس اليوم ليس مجرّد مراجعة سياسية أو حوار نخبوي، بل ثورة وعي تُعيد تعريف المواطن محوراً لكلّ تغيير، وتُعلّم الناس أن خلاصهم لا يأتي من الزعيم، بل من أنفسهم، من تنظيمهم الذاتي، من تضامنهم، من مبادرتهم، من قدرتهم على الفعل لا على الانتظار. فحين يدرك الشعب أن وجوده لا يكتمل إلا بحريته، وأن مستقبله لا يُرسم في قصر قرطاج، بل في الشارع والحيّ والمدرسة والجمعية، حينها فقط تستعيد الديمقراطية في تونس حياتها، لا شعاراً، بل واقعاً، لا مؤسّسةً، بل ثقافةً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى