سواء حصلت المواجهة التي تتوقعها شائعات الخوف أو الأمل في شرق سوريا بين الأميركيين والميلشيات الإيرانية أم لا، أو اتفقت طهران والرياض على تسويات إقليمية أم واصلت العاصمتان الصراع من خلال الآخرين، وسواء استمر اللعب السياسي والإعلامي في تركيا بورقة اللاجئين السوريين أو توقف، ومهما يكن من أمر ما سيحصل في لبنان أو فلسطين المحتلة، أو سائر أرجاء المنطقة، فإن الحقيقة تبدو واضحة هنا، وهي أن سوريا ستظل مركزاً للصراع والمساومة بين كل اللاعبين، وأن كل ما يمكن ان يخسره هؤلاء أو يربحوه سيكون على حساب شعبها ومستقبلها و جغرافيتها.
تبدو المشكلة المزمنة في القضية السورية بضعف الدولة وتعفن طبقتها السياسية، وارتهانها لحسابات خارجية، تولت حفظ زعامة عائلة الأسد أكثر من نصف قرن، ومثلما كان يقال إن قوة لبنان في ضعفه، فإن ضعف سوريا هو في قوة موقعها الاستراتيجي، وسعي القوى الخارجية وفي مقدمتها إسرائيل لتثبيت وضع سياسي مناسب فيها، يجيد مهارة قمع الشعب مقابل خدمة أجندات الآخرين، ومنحها ما توفره مركزية سوريا من امتيازات وما يمكن ان تؤديه من أدوار لا يمكن أن يقوم بها غيرها.
سوريا بكاملها شعبا ووطنا تدفع ثمن أهميتها منذ عقود، ولذلك، رأينا أن كل العالم يتعامل مع جرائم الأسد الأب والابن بلا مبالاة، أو في أحسن الأحوال بأخف الضرر وأهون الآثار، مثل الحصار الاقتصادي الذي اكتفى بتجويع الشعب دون النظام، بل ومنح الأخير فرصاً أكبر ليسوم الناس سوء العذاب. ولن نذهب هنا بعيدا، فنحن في خضم ذكرى مجزرة الغوطة، والسلاح الكيمياوي الذي قتل 1300 طفل في ساعات، وكل ذلك جرى على أعين الناس وأمام شاشات العالم، لكن بعض المجتمع الدولي اكتفى بالتنديد، والأغلب لاذ بالصمت، ومرت الجريمة كما مرّ غيرها، وتغاضى أوباما عن تهديده وتناسى خطوطه الحمر، وكان على ما يبدو قد أطلقها بالأساس في لحظة حماسة وغفلة عن نهج بلاده الذي لا يجد في الأسد تهديدا، بل فرصة للابتزاز والتلاعب السياسي.
وحتى ما يعتبره البعض أخطاء ارتكبتها الثورة السورية في سفرها المضني المليء بالتضحيات، فذلك ليس سوى تبريرٍ عدميٍ لما آل اليه الوضع، فالمشكلة لم تكن أبدا في الثورة ولا بالثوار، بل في المتاجرة التي قام بها أغلب من تعاملوا مع سوريا وثورتها، وبالسلبية المفرطة التي واجه بها المجتمع الدولي ثورة السوريين وإرادتهم بالتحرر والكرامة، وكان من الطبيعي والمتوقع، أن يستغل النظام هذه السلبية، بل وتلك الفسحة التي تركها العالم له، ليستخدم كل شيء ممكن ضد الثورة من قمع وحيل ومؤامرات وحشد للمجرمين والميليشيات، وأن يستخدم تقادم الزمن ليطعن بالثورة ويقضي على خيرة رجالها، ويدفع الملايين للهجرة والهرب من الموت والعذاب، فيفرغ سوريا من شعبها، ويبقيها لشذاذ الآفاق ممن أعانوه على تدميرها، وعلى بقائه.
سوريا، لن تكون معنية بما يحصل في المنطقة، لأن كل المتغيرات في المصالح والعلاقات والتحالفات أو العداوات لن تصل عتبة الانتصاف للثورة أو الضحايا، ولن نقول نصرتها أو السعي لمحاسبة النظام على جرائمه. لسوء الحظ، ليس هناك من سعى لذلك يوما، أو أراده من الأساس، باستثناءات محدودة اصطدمت لاحقاً، بحقيقة ما كان يجري منذ البداية، وهي أن الغرب، ومنه الولايات المتحدة، وإسرائيل وغالبية دول المنطقة، لا تريد ان ترى نجاحاً للثورة في سوريا، وليست مستعدة لاستبدال نظام حكمها، وأنها يمكن أن تظهر كثيراً من التأييد للثوار ومطالبهم، ويمكن أن تندد وتستنكر وربما تعاقب وتحاصر، لكنها أبدا لن تقدم على خطوة جدية تزيل نظاما متهالكا، وصل الثوار إلى مئات الأمتار فقط عن مركز حكمه في قصر المهاجرين، قبل أن يتنادى المنددون بجرائم النظام إلى إنقاذه.
ولربما يكون ما كان من أمر سوريا خلال العقد المنقضي ونيف، مفيدا لما يراد لها، فنظام ضعيف، ودولة متهالكة، وشعب ما بين مشرد ومحطم القوى ومنزوع الكرامة أو الإنسانية، مثل هذا الشعب، هو غاية ما تلتقي عليه إسرائيل وإيران، وتجد فيه أمريكا فرصة للمناورة الميدانية، والتلاعب بجغرافية القوة، والسيطرة على مواقع حاكمة في المشرق العربي، فضلا عن دول من بيننا، وجدت في كل هذا العبث والخراب لسوريا فرصة لدخول دولة مركزية أخرى في خانة الفشل، كي يكون لها أن تسود وتبرز.
لكن، لن يعني ذلك فقدان الامل، فللمصالح دورة تعود دوما من حيث بدأت، وسوريا الضعيفة لن تلبث أن تصبح وبالا على من أرادها كذلك، ومعالم ذلك قد تكون بدأت فعلا، وهو ما يجعل من استعادة الهمة والشغف بالثورة أمرا جوهريا في لحظة فارقة، فمسير ربع الساعة الأخير، هو الحاسم في سباق دونه دماء ومصير بلاد وأجيال قادمة ومشردون ومنفيون تتقاذفهم الدول وتتلاعب بهم المصالح والأهواء، ومشاعر العطف أو الغيرة والكراهية.
المصدر: المدن