الخبّــــــــاز

أحمد عبد الكافي حمادة

في شمال المدينة على تلّة مُطلّة على بيوت الحارات الشعبية في منظر مُوحش تلفّه ريحٌ شمالية باردة تلْفحُ الوجوه، وتحزُّ العظام بضغينة؛ حملتُ نفسي وأنا نصف نائم الى الفرن بُعيد منتصف الليل بقليل، سحبتُ البابَ خلفي بهدوء، وأشعلت النور؛ فانكشف المكان من حولي عن فوضى عارمة، سرعان ما بانت زاوية تجمّع أكياس الطحين، لأقوم بفتح خمسة وعشرين كيس طحين في حوض كبير للسباحة تمهيدًا لصبِّ الماء عليها، ومن ثمَّ القيام  بعمليات العجن التي ستأخذ مني وقتًا طويلاً حتى يكتمل نضج العجين، ثم اتركه يستريح  لأذهب الى موقد النار  فأشعل الأفران الثلاثة، وأجلس استريح قليلاً  انتظر بعض العمال الصغار  ليقوموا بتقطيع العجين الى أحجام صغيرة تصبح بعد ذلك أرغفة تتسع دوائرها كلما مارسوا دعك أصابعهم حول أطرافها، ما تلبث أن تصبح شهية بعد خروجها من النار تسدّ أفواهاً تتضوروا من القهر.

البطون الجوفاء تأكل نفسها إن لم تجد رغيف الخبز، لست نبيًا لتصدر عني النبوءات المطمئنة لهم، أنا ككل البشر أتعب أضجر أصيخ من الحرارة آخر النهار مثل قطعة دهن لكنني  أحتاج آخر النهار لصدر يمتصُّ هذا القهر، كثيرًا ما كان يُطلب مني أن أعمل ثماني عشرة ساعة ولا أضجر، أو حتى أشعرُ بالحياة وهي تتدفق من حولي مثل تنور أشهب، في كل صباح أرى النساء أمامي بأنفاس مختلطة بروائح الخبز، فأُدرك بفطنة مجرب، مَن نام معها زوجها تلك الليلة؛ ممن باتتْ مُسهدةً وحدها، أنفاسهن المتدفِّقة بروائح غامضة اكتشفتها بمكر من لوّعته ليالي الوحدة وخيالات مراهق.

مرات حينما تغيب صاحبة الفرن استلم الوزن والبيع للناس أحاول أن اتركهم يتزاحمون بفوضوية مفرطة حول كوة الخبز، ثم ما تلبث أن تشتدّ تلك الفوضى حين يضْجر الرجال من الانتظار، أسمعهم يشتمون بعضهم، أحيانًا تحْدثُ مشاجرات ساخنة، فأُغلق الفتحة اليتيمة التي تطلّ عليهم وانتظرهم حتى يترجونني لأفتح لهم بكل فجاجة، وأكيل لهم الشتائم البذيئة لا أحد يجرؤ على الرد عليَّ ليس خوفًا من عضلاتي التي لا تكاد تظهر حول عظامي، ولكن إن فعلها أي أحد منهم فسيُحرمون من الخبز مدة أسبوع وأحيانًا قبل أن أغضب يلقى جزاءه ممن حوله إرضاء لي، وحينما أحدّق فيهم بمكيدة تلوذ عيونهم بالأرض، بعدها يرجمونني بنظرات استجداء، أي بشر هؤلاء؟! يلجمهم الجوع مهما ولغتُ في كرامتهم.

أحياناً تعلمتُ أن أصمت لأن الحديث العفوي الذي يخرج من القلب دون مقصّ الرقيب الداخلي يدمّر العلاقات من حولي فتعلمت الدرس القاسي الأول في حياتي أن ألتزم الصمت مهما رأيت، فكان الدرس الذي أدّبت به كلَّ من كان يمد عنقه من خلال الكوة التي ينال منها الناس الخبز، كان صمتي أن أحجب الكوة فيقفُ الناسُ تحت أشعة الشمس أو لذعة البرد القارس لساعات طوال حتى يهدأ مزاجي وأفتح لهم مع غضب جارف في نظراتي تجاههم، غير أن ذلك التصرف العنيف حرمني من الخروج من بيتي نهارًا أو ليلاً خوفاً من انتقام من تصحوا نخوته فينتقم مني، قضيت حياتي داخل الفرن ونادرًا ما أخرج ليلاً دون أن يراني أحد.

في الزمن الذي تلاشى حلم أي رجل سوى ببضع أرغفة خبز لسد أفواه عياله البائسة؛ صار منهم من يبعث زوجته أو ابنته إلى الكوة ويرفض أن يريني وجهه، كانت أكثر النساء حضًا من ابتسم لها في الصباحات الباردة، فتجد خبزها الساخن خلف الجدار، وتمضي على خجل، تلملم شالها بفوضوية حين كاد أن يشف عن نحرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى