يبدو أن احتجاجات محافظة السويداء في الجنوب السوري، المستمرة منذ 7 يونيو/ حزيران الحالي، ستتخذ منعطفاً جديداً نحو التطور، بعد لجوء النظام السوري، الذي يشعر بقلق عميق من جرائها، لأساليب قديمة استخدمها في باقي المحافظات مع بداية الثورة السورية عام 2011، بإخراج مسيرات مؤيدة له مكوّنة من موظفي الدولة والطلاب والحزبيين البعثيين كخط مواجهة أول أمام المتظاهرين، بهدف خلق حالة انقسام داخلية بين أبناء المنطقة أو المحافظة الواحدة. وهو ما فعله النظام في السويداء بإخراج مسيرة مؤيدة لرأسه بشار الأسد، أمس الأربعاء، في المكان نفسه الذي يتجمّع فيه المتظاهرون، أي أمام مبنى المحافظة في مركز مدينة السويداء، وذلك رداً على التظاهرات المناهضة للأسد والنظام المنددة بتردّي الأوضاع المعيشية في البلاد، في استعادة لشعارات الثورة الأولى.
ودفعت التظاهرات إلى استنفار الأفرع الأمنية، وفرع السويداء لـ”حزب البعث العربي الاشتراكي”، إضافة إلى الإدارات المحلية ومؤسسات الدولة وحتى الجامعات والمعاهد، ملزمة جميع من فيها بالمشاركة أمام مبنى المحافظة والهتاف لرئيس النظام، الأمر الذي دفع المتظاهرين المناهضين للنظام إلى نقل مكان التظاهرة إلى ساحة أخرى (ساحة الفخار)، التي تبعد مئات الأمتار عن ساحة المحافظة، تفادياً للصدام.
وبدأت دعوات تحشيد الموالين للأسد مساء أول من أمس، الثلاثاء، مع انتشار تسريب صوتي لرئيسة فرع “الاتحاد الوطني لطلاب سورية” في السويداء وفاء العفلق، على مواقع التواصل الاجتماعي، أفادت فيه بأن هناك تعميماً لجميع الهيئات الطلابية والإدارات في الكليات والمعاهد بالمشاركة في “الوقفة التضامنية” وللوقوف مع “رمز الوطن”، في إشارة إلى رئيس النظام بشار الأسد. وهددت كل من لا يشارك أو يتهرّب بـ”المحاسبة الشديدة”، داعية الجميع للاستنفار وحشد أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وبررت العفلق الوقوف بوجه المتظاهرين، بأن مطالبهم لم تبقَ في إطار الواقع المعيشي والغلاء والجوع، بل تطاولوا على “رمز الوطن”.
وبالفعل أخرج النظام المسيرة أمام مبنى المحافظة والتي شارك فيها عشرات من الموظفين والحزبيين وطلاب المعاهد والجامعات، وانفضت المسيرة التي كانت مقررة بين الساعة التاسعة صباحاً والواحدة ظهراً، قرابة الساعة الحادية عشرة، بعد إطلاق نار من قبل أحد المسلحين المؤيدين للنظام على أحد النشطاء المشاركين في التظاهرة المعارضة القريبة، وذلك أثناء مرور الأخيرة من أمام تجمع المسيرة المؤيدة للأسد. وأطلق المسلح رصاصتين في الهواء، قبل أن يوجه الثالثة نحو الناشط، إلا أنها أصابت الأرض، ما دفع بعض الموجودين في مكان الحادثة من سائقين وعمال في السوق للتضامن مع المتظاهر ومحاولة الإمساك بالمسلح الذي أطلق الرصاص، إلا أن مسلحاً آخر أطلق النار في الهواء لتخويف المتضامنين وتمكين زميله من الفرار.
مع ذلك استمرت التظاهرات المعارضة في السويداء في يومها الرابع، أمس، رافعة الشعارات نفسها التي أطلقتها في 7 يونيو بإسقاط النظام والمطالبة بالحرية، فضلاً عن شعارات خاصة بتردّي الأوضاع المعيشية في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي تجتاح البلاد. وكان لافتاً رفع المتظاهرين علم الثورة السورية، أول من أمس الثلاثاء، في تحدٍ كبير للنظام داخل مناطق سيطرته، الذي لجأ إلى اعتقال أحد المتظاهرين من منظمي الاحتجاجات، في أول تعامل أمني مع الاحتجاجات. وكثر يتوقعون استمرار التظاهرات وربما توسّعها لتشمل باقي أرجاء المحافظة الجنوبية.
وكشفت مصادر لـ”العربي الجديد”، أن النظام وضع عدداً من النشطاء المشاركين في التظاهرات على قوائم المطلوبين ليبدأ بملاحقتهم واحداً تلو الآخر، كي لا يسبّب اعتقالهم دفعة واحدة موجة غضب عارمة من شأنها أن تخرج الأوضاع عن سيطرته. كما عزّز النظام الفروع الأمنية في السويداء، فاستقدم مزيداً من العناصر إلى مراكزها ومراكز قيادة الشرطة، كما تمّ وضع العديد من الحواجز في محيط المراكز الأمنية.
وينقسم الشارع في السويداء تجاه التظاهرات الأخيرة، بين مؤيد لها وخائف من عنف السلطة، بسبب استحضار السيناريوهات والتجارب المدمّرة وحالة النزوح والتجويع التي عاشتها غالبية المحافظات السورية، التي تعامل معها النظام بقبضة عسكرية وأمنية مفرطة لخروجها عن سيطرته.
من جهته، يسأل حمزة أبو غانم، وهو أحد أبناء السويداء، في حديث مع “العربي الجديد”: “ماذا يريد النظام من الناس أن تفعل وهي تعجز عن تأمين قوت يومها؟ ففي وقت يتحدث فيه النظام عن انتصاره وهزيمة العالم المتآمر عليه، ترتفع الأسعار يوماً بعد آخر في ظلّ انعدام فرص العمل، كما أن الرواتب لم تعد تكفي مصروف بضعة أيام”. ويعتبر أن “النظام يجب أن يعلم أن الناس موجوعة، وعندما سكتت طيلة الفترة الماضية كان بسبب التلويح بورقة وجود الإرهاب والفصائل المتشددة، واليوم النظام يحمّل فشله للعقوبات الاقتصادية، لكن لا يأتي على ذكر واقع الفساد وأمراء الحرب والنهب”، معرباً عن اعتقاده بأن “حل الأزمة الاقتصادية في سورية أصبح مرتبطاً برحيل هذا النظام”.
من جانبها، تقول لبنى، التي طلبت عدم ذكر كنيتها لأسباب أمنية: “قد أكون غير متفقة مع المتظاهرين في كثير من الشعارات التي رددوها، خصوصاً تلك التي تحتوي على الشتم، وكذلك قد تكون مسألة العلم الأخضر ذي الثلاثة نجوم أمراً غير متفق عليه، لكن الأمر المرفوض تماماً هو مسألة الاعتقالات، وكيل الاتهامات التي مللنا سماعها”. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”: “أشعر اليوم أن من واجبي الوقوف مع المتظاهرين لإطلاق سراح هذا الشاب، الذي عبّر عن رأيه وموقفه بشكل سلمي، من دون أن يحمل سلاحاً أو يخرب أو يعتدي على مؤسسة عامة أو مصباح إنارة في الشارع”. وترى أن “النظام ما زال يحمل العقلية ذاتها، ولا يتحمل أي رأي معارض له، وقائمة الاتهامات جاهزة، تبدأ من التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وتركيا وغيرها من الدول، وتصل إلى (وهن عزيمة الدولة) والنيل من هيبتها. طبعاً إن أحكام التعامل قد تصل إلى الإعدام إذ لم يمت الشخص في أقبية المخابرات قبل أن يعرض على القضاء، وحتى أنه يُمكن أن يُسجن على الأقل لمدة خمس سنوات بتهمٍ باتت مستهلكة ومعروفة، فالقوانين السورية سيف مسلط على رقاب المعارضين للنظام”.
مع العلم أن التظاهرات الأخيرة في السويداء ليست الأولى من نوعها، إذ كان للمحافظة حضور في الأيام الأولى للاحتجاجات ضد النظام مع بدء الثورة السورية عام 2011، رغم أن مشاركتها كانت محدودة. وقد أدت ظروف وحسابات طائفية وسياسية إلى الدفع نحو تخفيف دور السويداء (ذات الغالبية من طائفة الموحدين الدروز)، في الثورة. وقد دفع عدد كبير من رجال الدين فيها، ممن يشكّلون ثقلاً اجتماعياً كبيراً داخل المجتمع ذي التركيبة المذهبية – العائلية، إلى تحييد المحافظة عن الثورة.
وتبدي شريحة واسعة من المجتمع في السويداء مخاوفها من تداعيات استخدام النظام سياسة القمع والعنف وإجبار الناس على النزول إلى الشارع لتأييده، الأمر الذي قد يجرّ المحافظة إلى العنف، بحسب رأي الناشط جهاد معروف (اسم مستعار لأسباب أمنية). ويوضح أن “أجهزة الأمن في السويداء متشنجة، وقد وضعت قائمة اعتقال بأسماء الناشطين المشاركين في التظاهرات، وأصبحت تجبر الموظفين على النزول إلى الشارع، لتقسم المجتمع وتضع أفراده وجهاً لوجه”. ويكشف معروف في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “الأفرع الأمنية تعمل على التصعيد في السويداء، بهدف استدراج الفصائل المسلحة المحلية للتدخل، وبالتالي إعطاء مبررات لها باستخدام العنف، والتخلص من بعض المجموعات التي تحدّ من سطوة الأفرع، ومنعتها من سوق عشرات آلاف الشبان إلى الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، خصوصاً الذين استنكفوا عن الالتحاق منذ عام 2012 رغم التضييق والفصل من الوظائف”.
وقد حاول النظام التدخل أمنياً لإنهاء العصيان مراراً وتكرراً بملاحقة الشبان وزيادة الوجود الأمني على الحواجز لإيقافهم وجرّهم إجبارياً إلى الخدمة. غير أنه في مقابل ذلك تطورت حالة السخط تجاه النظام على المستويين الديني والاجتماعي في السويداء، فشُكّلت مجموعات عسكرية محلية لحماية المحافظة، إلى أن قام الشيخ وحيد البلعوس، الذي عُرف بـ”شيخ الكرامة”، بمحاولة توحيد جهود هذه المجموعات تحت راية “تجمّع رجال الكرامة” عام 2014، الذي دعا إلى عدم سوق الشبان للخدمة وحماية من يريد النظام سوقهم عنوةً، في تحد واضح من قبل البلعوس للنظام. وشكّل الشيخ حالة معارضة داخل السويداء للنظام، وساهم حضوره وخطابه بالتفاف شعبي ديني واجتماعي حوله، إلى أن اغتيل في 4 سبتمبر/ أيلول 2015 في تفجير هز السويداء. واتُهم النظام بالوقوف وراءه بهدف تصفية حركة البلعوس سياسياً، وقمع أي معارضة ضده في السويداء.
إلا أن الحركة استمرت ورتّبت أوراقها، وشهد ربيع عام 2018 تشكيل “قوات شيخ الكرامة” التي أخذت على عاتقها “الأخذ بالثأر من قتلة الشيخ البلعوس و50 مدنياً قضوا في تفجيرات شهر سبتمبر 2015″، وذكر بيان “قوات شيخ الكرامة” في حينه، أن “الحركة قد انطلقت لتحصيل كرامة أهلنا في الجبل ونصرة المظلوم والدفاع عن أرضنا وعرضنا، وعدم السماح بتغيير تاريخ وعادات الطائفة المعروفية (الدرزية) العريقة”.
في ظل ذلك لعب النظام على وتر تخويف أهالي السويداء بالتلويح بورقة الفصائل المتشددة، ولا سيما تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة”. وحمل هجوم “داعش” الدامي على المحافظة في يوليو/ تموز 2018، الذي أودى بحياة أكثر من 250 شخصاً من أبناء السويداء، أبلغ الرسائل التي أراد النظام إرسالها لأهالي المحافظة، في لعبة كانت مكشوفة للأهالي، إذ سبق الهجوم نقل النظام لعناصر من “داعش” من جنوب دمشق إلى محيط السويداء، ليفسح لهم المجال لتنفيذ هجومهم الدموي.
هذا الهجوم، كان نقطة مفصلية في زيادة السخط على النظام داخل المحافظة، فعمدت حركة “قوات شيخ الكرامة” إلى تشكيل فصيل جديد حمل مسمى “درع شيخ الكرامة” في فبراير/شباط 2019، لزيادة الاحتياط في مواجهة تغلغل النظام في المحافظة وحمايتها من أي هجمات أخرى. وهنا لجأ النظام إلى اللعب على وتر الفتنة المذهبية الدرزية – السنية، لزرع بذور الفتنة بين فصائل السويداء ونظيراتها في الجارة درعا، إلا أن محاولاته المتكررة في هذا الجانب، لا سيما في الأشهر القلية الماضية، لم تنفع إلى الحدّ الذي كان يتمناه. فالسويداء كان لها دور كبير بالتعاطف مع أبناء المحافظات الثائرة والمهجرين منها، فاستقبلت أكثر من 18 ألف عائلة من محافظات سورية مختلفة، كما ساهمت بإمداد درعا بالمواد الغذائية والتموينية والمستلزمات طيلة السنوات السابقة حين كان النظام يحاول حصارها وإخضاعها، وشاركت السويداء أيضاً بحملات إغاثية لجيرانها في البادية، انطلاقاً من الريف الشرقي للمحافظة المتصل بالبادية.
المصدر: العربي الجديد