ينتمي عالِمُ الاجتماع الأميركيُّ هاورد بيكر (1928 – 2022)، الذي توفي قبل أيام في 17 آب 2023 في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، إلى “مدرسة شيكاغو الثانية” لعلم الاجتماع، التي تضمّ أسماء مثل إيرفينغ غوفمان (1922 – 1982) وأنسيلم ستراوس (1916 – 1996).
برز بيكر في مجال سوسيولوجيا الانحراف، من خلال كتابه “الغرباء” (1963)، الذي يُعدُّ أبرزَ مؤلّفاته، والذي أعاد فيه تعريفَ الانحراف على أنّه نتيجةٌ للتفاعلات الاجتماعية، وبكونه مجرَّد تركيب اجتماعي يُستخدم لإقناع الجمهور بتجريم مجموعات معيَّنة وبالخوف منها؛ حيث رأى أنّ أفعال الفرد بحدّ ذاتها ليست هي ما تُصنّفه على أنه عاصٍ أو منحرفٌ، وإنّما نظرة الآخرين إليه.
فالمجتمعات طبقاً لهذه النظرية هي التي تحدد الانحراف، وذلك من خلال إقرار بعض القواعد التي يعد انتهاكاً وانحرافاً من منظور أبناء ذلك المجتمع، وبهذا فإن الانحراف ليس خاصيةً للفعل الذي يرتكبه الإنسان، وإنما هو مسألةٌ تتعلق بثقافة المجتمع وبنظرة أبنائه، فالشخص المنحرف هو الذي يخالف قواعد المجتمع، ويصفه المجتمعُ نتيجة لذلك بأنه كذلك، وبقول آخر فإن الانحراف هذا ليس صفةً يُوصَفُ بها السلوك في ذاته، ولكنه خاصيةٌ يخلعها المجتمع على سلوك معين في ضوء القيم والمعايير السائدة.
النموذج التصنيفي عند بيكر لا يهتم كثيراً بدوافع السلوك المنحرف؛ ﻷن هذا السلوكَ يصدر عادة من أفراد وجماعات تعدُّه سلوكاً طبيعياً، ولكن المجتمع هو الذي يصفه بالانحراف، ولعل هذا هو ما جعل هذا الباحث الأخير يتجاوز السؤال عن الدوافع إلى السؤال التالي: لماذا ينظر المجتمع إلى أنشطة معينة على أنها أنشطةٌ انحرافية؟
ولكن إذا ما طرحنا السؤال التالي: كيف يتم تحديدُ السلوك المنحرف داخل المجتمع؟ فإننا سوف نقابل بمجموعة متباينة من الإجابات، يضاف إلى ذلك أن هناك قدراً من عدم الاتفاق بين أعضاء المجتمع وجماعاته حول ما يعد انحرافاً وما لا يعد كذلك، فهناك بعض الناس يُعدون منحرفين من قبل الآخرين، ولكنهم يرفضون هذا الحكم، ويبررون سلوكهم بأنهم لا يقبلون القواعد التي يتم في ضوئها الحكم عليه بأنه سلوك منحرف.
الموضوعُ بحد ذاته خطيرٌ للغاية؛ لأنه يحكم تصرفاتنا داخل تجمعاتنا البشرية، وتعريف الخطوط الخضراء والحمراء التي شهدت انزياحاتٍ كبيرةً منذ بدايات القرن العشرين وهي مستمرة إلى الآن، وهنا نطرح السؤال التالي: هل السلوك القويم هو ما يتفق عليه البشر ، أم هناك أدواتُ قياس خارج هذا الاتفاق؟ قوم لوط عدوا الشذوذ الجنسي سلوكاً طبيعياً وعكس ذلك انحراف! بل حتى أن حجتهم على آل لوط أنهم يتطهرون وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (الاعراف-82)، فالطهارة بالنسبة لهم انحراف! البريطانيون اتفقوا أن هنالك دماء ملكية ودماء غير ملكية، وعدوا من يؤمن بعكس ذلك منحرفاً، كذلك الشيعة اتفقوا أن الولاية يجب أن تحصر في آل البيت، وكذلك غيرهم من نادى بحصر الخلافة في قريش! وهذا ينقلنا إلى السؤال المهم التالي: هل الأفراد والمجتمعات أسيرة الاتفاق أم أن الاتفاق أسير تلك المجتمعات؟
يبدو للمراقب في المشهد الحالي أن المجتمعات أسيرة الاتفاقات التي لا نعرف زمانها ومكانها وفي كثير من الأحيان أصلها ومخرجها، فهل يعقل أن قرار المحكمة العليا الأمريكية، جعل من يحارب المثلية منحرفاً قانوناً بحسب القوانين الغربية؟! أو من ينادي بثارات الحسين يقتل أحفاد الحسن والحسين فقط؛ لأنهم صنفوا أنفسهم خارج هذا الإطار! أو أن تصبح العمامة واللباس الإسلامي بغض النظر عن سلوك وطائفة صاحبه شفيعاً لفساده الأخلاقي والمادي؟! في مسلسلات الأبيض والأسود من تأليف الراحل نهاد قلعي كنا نشاهد نقداً حاداً للواسطة، لكن هذا اختفى من العرف الاجتماعي منذ فترة ليست بالقصيرة، وكان يصنف المجتمع المرتشي بأنه سارق فاسد، أما الآن فيمدح بأوصاف من أمثال الشطارة والبراغماتية والمكر والذكاء! في بدايات الربيع العربي كان يصنف الثائر بأنه الشجاع المستعد أن يتخلى عن كل مكتسباته في سبيل تصحيحِ ميزان العدالة واستعادة حريته المسلوبة تحت شعارات فارغة المضمون، أما الآن، فمن يحمل السلاح ويؤجر بندقيته لمن يدفع أكثر أو يستطيع التأقلم مع المتغيرات العنيفة من حوله ويرفع علم الثورة يُقبَلُ من الأغلبية على مضض بهذا التصنيف! الأحزاب الإسلامية تؤمن بميكيافلي سبيلاً للوصول إلى مكتسبات سياسية، لكنها تنسى أن من باع أخلاقه وترك جزءاً ولو يسيراً من دينه سقط في فخ الشيطان، وعندما يصل لما يطمح إليه لن يستطيعَ استعادة ما أضاعه في الطريق!
على الجانب الآخر نجد أن الاتفاق أصبح أسير المجتمعات بكل تأكيد، فلا يمكن القول أن تعاليم الإسلام يمثلها المسلمون الآن سواء اليمين السني الذي يقتل من المسلمين أكثر من غيرهم، أو من يدَّعون حب آل البيت ويثورون على الظلم السياسي بذبح من يشهدون بشهادة التوحيد! أو من العامة التي قبلت بقواعد الانحراف السائدة دون أن تعمل تفكيراً ونقداً وسلوكاً!
وسط هذه الدوامة ربما لن نجد مخرجاً بشرياً، بقدر انتظار التدخل الإلهي الذي ظهرت بوادره، والمقصود هنا ليس ظهور المسيح والأمام الغائب من السرداب بل إعادة تعريفٍ حقيقي لفكرة الرسول الكريم عندما قال صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” وهذا لن يتأتى إلا بالقضاء أولا على حراس المنظومة الفاسدة قبل أصحابها وللمسلمين الحاذقين وللفطرة نترك المجال لتعريف هؤلاء وإزاحتهم من المشهد.
دكتور الله يبارك فيك
ظن اين اتيت بمصطلح اليمين السني …..وكأنك تصفه باليمين المتطرف!!