في الوقت الذي يعاني فيه مجتمع الغرب الرأسمالي المتقدم؛ طغيان الجوانب المادية على حياة الإنسان وإهمال الجوانب الروحية والعاطفية الإنسانية؛ مما جعل تلك المجتمعات تتقدم على قدم واحدة عرجاء ففقدت توازنها واتزانها ودخلت في مرحلة انحطاط حضاري باتت تعاني منه قبل غيرها وأكثر من غيرها.
في ذات الوقت فإن مجتمعاتنا العربية تعاني المشكلة بوجه آخر. حيث ضعف التقدم بمعناه العلمي والمادي مع طغيان الغيبيات والماورائيات وما يرتبط بها من تفكير غير علمي يؤدي إلى تشكل نمط تواكلي من التفكير والفهم والأسوأ ربط هذا العقل التواكلي بالدين والإيمان الديني.
يبرز هذا العقل التواكلي غير العلمي حينما يواجه الجماعة خطر داهم فتلجأ إلى اعتماد التفسيرات الغيبية التي تنسب الخطر الى قوى غير مرئية تتدخل في حياة البشر بطريقة غير معروفة ولا يمكن إدراكها. ومن هنا تأتي عدم إمكانية تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا علميا موضوعيا يفتح الباب أمام إمكانية سيطرة الإنسان على تلك الظواهر من خلال معرفتها، وبالتالي معرفة كيفية مواجهتها والتصدي لها.. والأخطار الوبائية واحدة منها..كل هذا يساهم في إبقاء عجلة التقدم عرجاء في بلادنا أيضا..ومما يفاقم المشكلة ؛ ضعف مسيرة التقدم العلمي والعملاني المادي والحياتي. وتبقى المشكلة الأكبر أن مقدرات بلادنا لا توظف لتحقيق التقدم ومعالجة الأوهام التي يعاني منها الإنسان فتكبل مقدرته على التطور وامتلاك سلاح التفكير العلمي الاستقصائي..
ومما لا شك فيه أن لهذه العقلية التواكلية أسباب وظواهر ونتائج، وجميعها تحتاج إلى علاج… كما أن الاعتراض عليها من بعض أبناء الجماعة ذاتها ؛ والتنصل من آثارها ؛ يعاني من بعض أوجه القصور مما يجعلها غير قادرة على الرواج والفعل وبالتالي التغيير.وهذا أيضا يحتاج إلى علاج..
في أسباب العقل التواكلي..
١- تعيش مجتمعاتنا تراجعا حضاريا منذ عدة قرون. ولعل هذا الاستسلام للغيبيات والماورائيات في أحد تجلياته؛ تعبير عن ذلك التراجع الحضاري..
٢ – القهر والاستبداد
الذي يرافق التراجع الحضاري ويلازمه. فيصادر عقول الناس ويحاول منعهم من التفكير والنقد والبحث أي أنه يصادر فيهم إمكانيات التفكير العلمي ومتطلباته بعد أن يمنع عنهم أدواته وأولها العلم وحرية النقد وامتلاك المعرفة..
٣ – المؤسسة الدينية
في كل مرة تكون المؤسسة الدينية جهازا وظيفيا يتبع النظام السياسي فإنها تضع نفسها بتصرفه ويكون أبرز دور لها هو إيجاد المبررات لمواقفه وسلوكياته وأفضل التبرير ما يلبسونه ثوبا دينيا. عند هذا المقام يصبح إشغال الناس بالأوهام الغيبية والماورائيات أفضل سبيل لتمرير فتاوى المؤسسة الدينية وتوظيفها في مصلحة السلاطين…
٤- القهر المعيشي وظروف الحياة البائسة التي تجعل الإنسان ضعيف الثقة بعقله وإمكانياته وقدراته فيستسلم للتفسيرات الغيبية ويترك نفسه للعقل التواكلي وما فيه إراحة من عناء البحث والتدقيق غير المتاح أصلا وغير المسموح به والذي لا تترك له انشغالات الحياة لتأمين متطلباتها، لا تترك له وقتا أو إمكانية.
وهذا أحد أسباب محاولات السلطة في بلادنا؛ إغراق الإنسان في هم معيشي يستنزفه ويستهلك طاقاته عن التفكير فيما هو مصيري او استراتيجي أو نهضوي..كل هذا معروف وليس فيه جديد..اما في مواجهته فقد نشأ تيار لا يقل تهافتا عنه ولا يقل خطرا .فضلا عن افتقاده لكثير من أسباب الموضوعية والتفكير العلمي أيضا ؛ مما أبقى ويبقي إنساننا عموما تحت تأثير شد وصراع وجذب بين هاتين المدرستين وكلاهما او إحداهما لن يقود إلى تغيير حقيقي او تقدم معتبر .فما بين تفكير غيبي ما ورائي غير موضوعي ؛ لا يأخذ بالأسباب والعلم لتفسير الظواهر؛
وبين تفكير علماني انفعالي غير موضوعي أيضا؛ لا يأخذ بالأسباب بل يقفز فورا لمعالجة النتائج؛ يثور التناقض الذي يقود إلى صراعات لن يستفيد منها المجتمع ولا الإنسان؛ لا بل سينفذ من خلالها طامعون ومعادون ومخربون لزيادة الانشقاق وعرقلة التغيير المنشود باستهلاك الجهود والطاقات البشرية والفكرية.. تبرز مشكلة العَلمانيين من خلال عدة أوجه يمكن إجمالها كما يلي :
١- الخلط بين تفكير بشري متخلف منسوب إلى الدين ضعفا وعجزا؛ وبين الدين ذاته..
لهذا يأخذون موقفا سلبيا من الدين ويطالبون باستبعاده من أي دور، ويكتفي بعضهم بالتكرم بإعطائه دورا كحالة عبادية لا أكثر. وأكثر ما يترجم هذا الموقف شعار: ” الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه “..
٢ – عدم فهم دور الأديان التاريخي والثقافي والأخلاقي في تكوين مجتمعات بلادنا، فنجدهم يضعون أنفسهم في مواجهة كثير من مقومات ذلك التكوين وسياساته التاريخية والحضارية والثقافية.. مما يضعهم على نقيض مجتمعاتهم في بعض الأحيان والمواقف والمراحل ؛ الأمر الذي أدى ببعضهم للوقوع في براثن النفوذ الأجنبي واحتياجاته..
٣ – عدم فهم واستيعاب البعد الإيماني الديني في شخصية إنساننا ومجتمعاتنا. وهو بعد له جذور ضاربة في التاريخ والارتقاء الحضاري وهو بالتالي لا يمكن تجاوزه – موضوعيا..
٤ – عدم التمييز بين خصائص المجتمعات الغربية التي سلكت العلمانية في الغرب؛ وخصائص مجتمعاتنا العربية المشرقية المؤمنة والمتدينة. ودور الدين في كل منهما..
٥ – عدم استيعاب الفارق في مستوى التقدم والثقافة او الجهل والتخلف أي اختلاف مستويات التطور التاريخي بين مجتمعات الغرب العلمانية ومجتمعاتنا العربية..
٦- عدم تقدير الظروف الخاصة التي تعيشها بلادنا وأمتنا وما فيها من احتلال أجنبي ومن تقسيمات جغرافية وتدخلات خارجية ومشكلات داخلية؛ وما ينتج عنها من إشكاليات وصراعات ومعارك.. إن هذا الفهم السلبي العلماني للمسألة الدينية في بلادنا ولظروفها الخاصة من حيث التكوين والواقع؛ يجعل من العلمانيين كأنهم غرباء عن مجتمعاتهم في كثير من الأحيان. يخوضون المعارك الخطأ او المعارك الصح في التوقيت الخطأ..
وأخطر ما في نتائج معاركهم الخطأ حينما يستهدفون عزل الدين وتحجيمه؛ ما يسببونه لدى الآخرين من بسطاء المؤمنين، من ردة فعل على موقفهم الإنكاري؛ بمزيد من التمسك بالغيبيات الدينية وما يؤمنون به من ما ورائيات غير موضوعية.. ولعل من الواضح أن هذا يعيق سير التغيير المنشود والتقدم المطلوب.. يستنزف مجهودات كبيرة في كلا الطرفين؛
ويمنع التركيز في المعارك الصح وفقا لأولويات تكاملية تضع في الحسبان الإمكانيات المتاحة ومدى القدرة على توظيفها توظيفا سليما يؤدي إلى تحقيق انتصار هنا أو تقدم هناك.
وفي الوقت الذي يستوجب من كل الأحرار؛ عقلا وتفكيرا وإيمانا وإرادة، التصدي لكل من يعبث بالدين ليخلق منه تبريرا لتسلط او قهر او فساد من أي نوع، او لتفكير غيبي اتكالي يقعد الإنسان عن التفكير والسعي والعمل ويجعل منه مجرد رقم هامشي ينتظر من يقرر له حياته ومصيره بالنيابة عنه ورغما عنه أيضا ؛ وفي المقدمة المؤسسة الدينية الوظيفية أو رجال الدين المرتهنين للسلاطين والمصالح والأجهزة ؛ في الوقت الذي علينا التصدي لحماة تلك العقلية الاتكالية ومروجيها ؛ ينبغي ألا نقع في خطايا العلمانيين الذين يجهلون الدين ذاته ويستبعدونه من حياة الإنسان ويلغون دوره في المجتمع…وفي الوقت ذاته مطلوب من العلمانيين ؛ وتحديدا من كان ولاؤه لوطنه وشعبه وبلاده ؛ إعادة النظر في مواقفهم وطروحاتهم من المسألة الدينية. ويحولون طاقاتهم الفكرية لتأصيل العقل النقدي وتشجيعه وتعميقه انطلاقا من ثوابت التكوين التاريخي للمجتمع وليس بالتصادم معها…
علينا جميعا ان نحرر عقولنا من كثير من الأفكار والمفاهيم المسماة ” دينية ” زورا ؛ وإطلاق طاقاتنا العقلية للعمل معا لتغيير واقعنا السيء ومواجهة الأخطار التي تهدد وجود أمتنا من أساسه..إن نظرة سريعة إلى واقع حال بلادنا في هذا الظرف الإنساني العصيب ؛ نجد أن ظاهرة الأخوة الإنسانية الواضحة في بلادنا ومعها ظاهرة التضامن الاجتماعي التي تحاصر الكثير من المآسي الاجتماعية ؛ إنما تخففان الكثير عن كاهل الإنسان الفقير والضعيف والمحتاج مما يجعل وطأة تلك المآسي والأخطار اخف كثيرا في بلادنا عما هي عليه في البلدان الصناعية الرأسمالية المتقدمة. وخصوصا في أوقات المحن والأزمات والأخطار.
إن إحدى وظائف الدين تتمثل في شد عزيمة المؤمن وتقوية ثقته بنفسه وبأن الله لن يخذله أو يتخلى عنه طالما أنه يقوم بدوره وواجبه ومسؤولياته ويتصدى للأخطار التي تواجهه متسلحا بالعلم والمعرفة والأخذ بالأسباب. لا ينفذ من خطر يتحداه او ضعف يعتريه ” إلا بسلطان “..
فالإيمان الديني المتحرر من الأوهام والاتكالية والخرافة، طاقة إيجابية جبارة تحمي الإنسان وتزيد من قوته ومناعته في الشدائد والمحن وليس العكس.. وهذا ما ينبغي أن يعيه العلمانيون جيدا…
إن هذا الدور الإيجابي للإيمان الديني، مفقود في مجتمعات الرأسمالية اللا إنسانية التي تعاني جراء ذلك فيظهر عجز الدولة عن التعويض عنه رغم إمكانياتها الهائلة.. وهذا يعيدنا إلى الحديث عن البعد الأخلاقي المفقود هناك والمفتقد أيضا..
حيث يعاني نظام العولمة الرأسمالية الاحتكاري الربوي الجشع؛ انهيارا حضاريا يتمثل أولا في تدهور منظومة القيم الأخلاقية الإنسانية والاجتماعية؛ تتجدد الدعوة إلى ظهور نظام عالمي إنساني بديل؛ ويتجدد معها الحديث عما تمتلكه أمتنا العربية من طاقات إيجابية ينبغي توظيفها للمساهمة في انبلاج ذلك الهدف النبيل العملاق.. فهل نحن مبادرون ففاعلون فمساهمون في ظهوره؟؟