القضية السورية بين غموض الحاضر والمستقبل

يونس العيسى

القضية السورية ينطبق عليها ما قاله القدّيس أوغسطين عن الزمن: “إذا لم تسألني فأنا أعرف، وإذا سألتني فأنا لا أعرف”، والبعض لديه حلول عديدة وليس حلاً واحداً حاله كحال الدول الفاعلة في الجغرافيا السورية، كل دولة تطرح سيناريو للحل.
ظل الشعب السوري لعقود يتجرّع آلام ظلم نظام الأسد، وكان يتوق لمستقبل قوامه الحرية والعدالة والتنمية على كل الأصعدة والميادين، لذلك ثار رغبة في التغيير وكسر طغيان الاستبداد في نفسه، فرفع راية إسقاطه، بعد أن فشل في تحقيق رغباته وحقوقه المنشودة، وإقامة دولة قوامها حكم الشعب وحريته.
ومع ذلك وبعد 12 عاماً من قيام الثورة السورية ما تزال القضية السورية تواجه تحدّيَين اثنين: الأول يتعلق بكيفية التعامل مع الاستبداد والفساد، من خلال تفكيك إرث نظام الأسد ليحل محله نظام جديد، وهي مسألة ما زالت عصية نظراً لتغلغل نظام الأسد بكل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أما التحدي الثاني فيرتبط بكيفية النظر إلى المستقبل، من خلال تبني مطالب الشعب الثائر وتحقيق طموحاته في وطن ينعم فيه الجميع بالحرية والكرامة وتحقق التنمية والعدالة، وذلك ضماناً لتحقيق تحوّل ديمقراطي حقيقي شكلاً ومضموناً.
ضياع أهداف الثورة
وحتى تاريخه لم تحقق الثورة كثيراً من أهدافها، فمن جهة لم تتفق القوى التي تسيّدت قيادة الثورة بمختلف الجوانب على أولويات الثورة، ولم تنجح في التكتل وتشكيل قوة اجتماعية داعمة لمطالب الثورة، وتعمل لإزاحة أركان نظام الأسد ودعائمه، ومن جهة أخرى لم يستسلم نظام الأسد بفضل حلفائه، وعاد من جديد مستغلاً في ذلك تفرّق القوى الثورية.
وعليه، وقف أمام مسار الثورة في التغيير، وتحقيق أهداف الشعب في الحرية والعدالة، موانع عديدة أهمها: انحراف المسار وزرع الخوف وقمع كل صوت حر، وأصبحت البلاد تعاني إشكالية الدين والسياسة، وتغوّل العسكرة في جميع المجالات، وغياب وجود قوى اجتماعية وسياسية تدافع عن التغيير الحقيقي، وتفهم أولوياته ومتطلباته والمخاطر التي يواجهها من الداخل والخارج.
ولم تستطع المعارضة السورية تحرير الثورة من ارتهانها ليخلوا لها وجه أعدائها..! فالثورة المرهونة، هي تلك التي ترتبط بالحلفاء الإقليميين والدوليين، هؤلاء “الحلفاء” الذين يتحدثون جهراً عن نيل الشعوب لحريتها وحقوقها، ولكن في المقابل تقوم برهنها عبر تمويلها ودعمها، وكذلك تدعم السلطات التي قامت الثورة على نظام حكمها، لاستدامة أمد الصراع حتى تستنزف كل الأطراف وبقاء المعادلة موزونة.
فلا تستطيع القيادة المرتهنة فعل ما في مقدورها من أجل التغيير، والتحكم بها عن بعد بالريموت كنترول.
حين يجول السوريون في الواقع الحالي تصيبهم الحيرة والحزن للمآل الذي وصل إليه غموض مشهد بلادهم، وهمهم البحث عم مخارج آمنة لخارج البلاد، في ظل عجز أطراف الصراع المرتهنة لحلفائها عن تقديم حلول ناجعة
فيما تغيب الرؤية السياسية المطلوبة لتحقيق حل سياسي، فيما المشاريع التي تنفَذ على الأرض من قبل جميع القوى المسيطرة على بقعة جغرافية من الأرض السورية متناقضة ولا ترتبط بالقضية الوطنية على الإطلاق، بل إنها زادت من تفتت المجتمع وتدفع به نحو مزيد من التمزق والاحتقان
كما إن حكومات تلك السلطات لم تعد أكثر من واجهة ولا يستطيع الوزراء تجاوز سلطة داعميها، بل إن رؤساءها ليسوا أكثر من موظف كبير يمتلك سلطات محدودة، ووزراؤه ومديروه ليسوا أكثر من غطاء لما تقرّره الجهة التي عيّنته التي يتحكم مشرفوها في كل القرارات دون اعتبار للقواعد القانونية والإدارية المتعارف عليها.
كوابح الانهيار الكامل في سوريا تلاشت وزادت و تعمّقت الاستقطابات المناطقية والعشائرية والسياسية، واستُدعي التاريخ بكل جوانبه، في حين الأمم تقوم على ذكريات مشتركة ونسيانات مشتركة، لكن مَن تصدّر المشهد يقوم بعكس ذلك ما يجب نسيانه يوضع في بؤرة الجدال، وما ينبغي تذكّره يُرمَى في سلة مهملات النسيان، وأصبح حسابات المصلحة الوطنية ومطالب الشعب تتراجع أمام حساب مصالح الدول المتداخلة في بلدنا، لأنها صاحبة الكلمة العليا عن طريق مجموعة من الوكلاء، الذين اختارتهم والذين لا يذكرون سوى مناقب تلك الدول وأنها تبحث عن مصلحتنا الوطنية وتدعم حقوقنا المشروعة، ولكن في الواقع هو آخر أهداف تلك الدول في سوريا، يحكمها منطق المصلحة ولا شيء آخر وهذا ليس عيباً فهذا هو منطق المصالح السياسية.
فالجميع صار يعرف أن التدخلات الإقليمية والدولية في الثورة السورية ساهمت بحرف مسارها، وإن كان هذا لا يعني أن السلام بين الأطراف المتصارعة على الجغرافيا السورية صار قريباً لأن التعقيدات الداخلية من الصعب حلحلة خيوطها المتشابكة مناطقياً ومذهبياً وعرقياً، كما إن تراكمات الأحقاد والكراهية التي أنتجتها ضربت جذور المجتمع السوري في الأعماق ولا يمكن لأي عملية سياسية القدرة على ردمها من دون أن ترتقي القيادات الحالية إلى مستويات مرتفعة أخلاقياً ووطنياً وتنهي ارتهانها للخارج وهو أمر مشكوك فيه.
إن أي اتفاق للتسوية السياسية في سوريا بين ما صار المجتمع الدولي يطلق عليهم “الأطراف” لن تكون محصلته إلا بمقدار ما يمتلكه كل طرف من القوة على الأرض

كذلك ساهم عامل الزمن الطويل في الصراع إلى خلق بيئة مسمومة ساهم فيها المستفيدون الممسكون بالقرار من جميع الأطراف، فتضخمت مصالحهم المادية والسياسية والاقتصادية، ولم يعد لديهم أدنى رغبة بالدفع نحو بدايات حل جادة للقضية.
يظن كثيرون أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب السوري سيكون العامل الحاسم لإجبار جميع قادة الأطراف على الجلوس معاً لبحث المخارج، لكن ذلك أمر مشكوك فيه أيضاً لأن ذلك يستدعي الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الناس، ومن اليقين أن نظام الأسد استنزف كل المبررات التي استعان بها خلال حربه على الشعب للامتناع عن الوفاء بالتزاماته،
فيما تعيش المعارضة الارتباك والفوضى وتدهور قدرتها للحد منها، إضافة إلى عجزها عن ترتيب مؤسساتها لمواجهة التزاماتها، وتتوزع الولاءات داخلها إلى أطراف عديدة.
وهكذا يتحمّل المواطن السوري البسيط وحده العجز المادي والمعيشي الذي أوصلته إليه جميع الأطراف التي تتحكم به قواها منفردة على الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها وتمارس داخلها المظالم والتعسف والقهر.
إن الفرق بين النظام والمعارضة ليس في مخالفة المعارضة للنظام في بعض القوانين أو بعض التطبيقات والسلوكيات، وإنما في اختلاف البنية الثقافية ومنهج التفكير وطريقة التعاطي مع قضية الشعب، فإن لم يكن كذلك فتوقّعوا دائماً من المعارضة ما ترونه من النظام إن لم يكن أدهى وأمر، وتوقعوا دائماً ضيق نَفَس المعارضة من الحرية عندما تصبح هي النظام.
وقد ثبت بالتجربة خلال الربيع العربي أن انتقال السلطة من الأنظمة الحاكمة إلى المعارضة في بعض الدول العربية لم يترتب عليه غالباً إلا زيادة الأوضاع سوءاً في تلك الدول، وهذا يعني أن ما نعانيه بالأساس هو أزمة العقل السياسي العربي وأزمة الرؤى السياسية بصرف النظر عمن يحكم ومن يعارض. إن من أشد المخاطر التي غيرت مسار الثورة هي تلك المخاطر التي جاءت من داخلها.
ويمكن تشخيصهم من خلال صفاتهم التي تتمثل غالبا بـ:
-أنهم كبار قادتها الذين لا يؤدون المهام الموكلة إليهم، وللتغطية على فشلهم في أداء واجبهم يبالغون كثيراً في إظهار الولاء الزائف لمن اختارهم ولمن جعل مفاتيح السلطة بيدهم.
صفات خطرة على الثورة
المعارضة السياسية والتي وضعت مصلحتها الخاصة فوق مصلحة الثورة والمصلحة العليا للبلد، ويمكن التعرف على شخوصها من خلال عدة مؤشرات:
ـ أغلب الإجراءات التي يقومون بها في مؤسساتهم لا تخدم الجمع ذاته، وإنما تخدم مصالحهم الخاصة، ولذا فهي تكون لصالح الدوائر الضيقة التي تحيط بهم، بعيداً عن البحث عن الأكفأ والأجدر
ـ توجيه الصفقات المالية بعيداً عن الشفافية والإجراءات الطبيعية للصفقات
ـ الإنفاق بتبذير على تلميع أنفسهم، دون الاهتمام بإصلاح نظام مؤسساتهم في مجمله.
– القادة الذين ينخرطون بقوة في اللوبيات المتصارعة داخل المعارضة والذين يجعلون في كثير من الأحيان خصوماتهم مع بعضهم البعض فوق خصوماتهم مع نظام الأسد.
– المسؤولون الذين لا يملكون الكفاءة والأهلية؛ لتأدية المهام الموكلة إليهم، حتى وإن كانوا صادقي الولاء للثورة.
– السياسيون الذين لم يستطيعوا أن يضيفوا رصيداً من الإنجازات إلى رصيد الثورة، وإنما يقتاتون فقط من ارتزاقهم الوظيفي في دوائرها.
– المسؤولون الذين يتغنون بالشعارات ويقومون ببعض الأعمال المسرحية لتأكيد أنهم يقربون خدمات الإدارة من المواطنين، ولكنهم عند أي اختبار جدي، يظهر زيف ادّعائهم ذلك،
– المسؤولون العاجزون عن اتخاذ زمام المبادرة، وإعداد التصوّرات والخطط، ويكتفون فقط بالبيانات وطلب المعونات في زمن الكوارث والأزمات؛
– المسؤولون المفسدون الذين ينحصر اهتمامهم في البحث عن أسرع الطرق للثراء والحصول على المال بغض النظر عن طريقة تحصيله.
خلاصة القول:
إن كل من يحمل صفة أو مجموعة من الصفات أعلاه يشكل خطراً على الثورة، وكلما زاد عدد من يحملون هذه الصفات في أي نظام؛ زادت المخاطر التي تهدد نظام الأسد، وكلما تناقص عدد هؤلاء في أي نظام، كان ذلك مؤشراً قوياً على قوة الثورة، وعلى قدرتها على الصمود.

المصدر: أورينت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى