منذ بدء الثورة السورية كان موقف المعارضة السلمية المطالبة برعاية عربية للحل السياسي ، قبل أن تتطور الأحداث إلى التدخل الدولي وتدوير الأزمة السورية بعد سحب الملف من الجامعة العربية ، ودوران القضية السورية في متاهات الأروقة الدولية بما عطل التقدم نحو إيجاد حل سياسي يوقف شلال الدم المتدفق يوماً بعد ٱخر ..
وبعد سنوات من التدخل الدولي والاحتلالات المتعددة على الأرض السورية وانسداد أفق الحل السياسي نتيجة من نتائج تضارب المصالح والنفوذ للدول النافذة بالملف السوري ، ونتيجة لأسباب وظروف متعددة ، بادر الأردن ومعه بعض الدول الخليجية ومصر من أجل تسوية الخلافات البينية مع النظام السوري ( المخدرات ، المهجرين ، الرغبة بلعب دور سياسي مفصلي بالمنطقة وحيازة أفضلية في الاستثمار في سورية .. الخ ) تحت يافطة إيجاد الحل السياسي ، فأنتجت اللقاءات الدبلوماسية ما سمي بإعلان عمان الوزاري توج بقبول إعادة سورية إلى مقعدها بالجامعة العربية ، ومن ثم الدعوة إلى الاجتماع الأخير المقرر في القاهرة لمتابعة أعمال اللجنة الوزارية ومن ثم الخروج ببيان أعمال حدد فيه التصور العام للمبادئ التي يتوجب العمل عليها من أجل التسويات المقترحة بما فيها الانتقال السياسي على أساس ” خطوة مقابل خطوة ” ..
فهل استطاعت اللجنة الوزارية العربية تحقيق اختراق في الملف السوري وووضع خطوات عملية على طريق تنفيذ القرارات الدولية ؟؟ وهل أساس تحرك الدول العربية فعلاً من أجل تنفيذ القرارات الدولية وتحقيق الحل السياسي ، أم هدفها ليس أكثر من الحفاظ على أمن دولها ، وفتح باب التعاون السياسي والاقتصادي والأمني بينها وبين السلطة السورية ؟؟
لا شك بأن السعي العربي للحل السياسي في سورية مرحب به في جهوده لحل الأزمة السورية على أساس القرارات الدولية ، لكن ما صدر عن اجتماع القاهرة الوزاري من مخرجات عامة وفضفاضة ، يؤشر على أن الدول العربية لم ترسم أي خطوة عملية على طريق الحل السياسي سواءً بتحديد خارطة طريق واضحة او تحديد جدول زمني لتنفيذ مخرجات بيان عمان الوزاري بحضور الوفد السوري برئاسة المقداد وزير الخارجية .
وفي سياق الترحيب بدور عربي لحل الازمة السورية لا بد من التحذير من استمرار المماطلة والتسويف ، والاستمرار في اللعب على الزمن وإغراق المباحثات بالتفاصيل من قبل الوفد السوري ، فالزمن قد أخذ أبعد مدى لتحمل استمرار استنقاع الحل السوري ، والأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنذر بالتفجر بأي وقت مما قد يدفع إلى موجة جديدة من الاضطرابات والصراعات الداخلية لا يمكن تصور نتائجها ، وما حرب العشائر في الشمال الشرقي من سورية والاقتتال بين قوات النظام وما يسمى مليشيا الدفاع الوطني ، ليس سوى بؤرة من بؤر التوتر ورائها قوى محلية وإقليمية ودولية ..
إن السلام والاستقرار في سورية بما ينعكس إيجابا على المنطقة العربية لا يتحقق بمجرد تصورات رغبوية غير واقعية في اندفاع الدول الخليجية والعربية للتطبيع مع سورية ، وإنما بالنظر الى طبيعة بنية النظام السوري وقابليته للإصلاح والتغيير .
وتحت تصورات الاندفاع العربي للتطبيع مع النظام وبالرغم من تصادمه بالموقف الأمريكي ، إلا أن الرد العربي على التحفظ الأمريكي بأن النظر للأزمة السورية يجب مقاربتها بحلول واقعية ما دامت كل الضغوط الامريكية والغربية لم تجدي نفعا في حل القضية السورية .. لكن ” حساب السوق لم يطابق حساب الصندوق ” ، إذ بالرغم من الجهود التي بذلت بعودة الدولة السورية للجامعة العربية ، كبداية للتطبيع العربي ، بقيت تلك المساعي تراوح في مكانها ، ولم يتم إنجاز أي خطوة باتجاه ” الخطوة مقابل خطوة ” التي تبناها بيان عمان والقاهرة سواء بما يخص المهجرين أوعمليات تهريب المخدرات أو باتجاه بناء الثقة بالإفراج عن المعتقلين وكشف مصير المغيبين ، وأيضاً عدم فتح أي ثغرة باتجاه الحل السياسي وفق القرارات الدولية .. بل أن السلطة السورية فسرت التقارب العربي ثمناً للانتصار وتأكيداً له ، وبوابةً لاستجرار المساعدات المجانية . وقد وصل الأمر نتيجة الضغط الاقتصادي على الأردن بما يخص اللآجئين ، واستمرار تدفق المخدرات الى التهديد بالتدخل عسكرياً لضرب مواقع الإنتاج والتخزين داخل الأراضي السوري ، والسعي لدى الدول الكبرى من أجل فرض حظر جوي على منطقة الجنوب السوري ( الذي يحتاج لموافقة دولية ) ، وبلغ حنق السلطات الأردنية ذروته في جريدة الغد الأردنية بأن ” النظام السوري يتذاكى علينا ” في موضوع منع تصدير المخدرات تحت مقولة ان ما يحصل نتيجة من نتائج الإرهاب والفوضى التي ساهمت به جميع دول المنطقة ضمن المؤامرة الكونية .
بالتأكيد ما يجري من محاولات في تخميد انعكاسات الملف السوري على المنطقة سواء بالتقارب العربي الذي كما يبدو قد وضع في ” الفريزة ” حالياً، وفشل العراب الروسي في الوصول الى التطبيع السوري / التركي من جهة ، وتفاقم الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق مع استمرار الاقتتال في الشمال وتصاعد انتفاضة السويداء في الجنوب ، ومع عدم قدرة حليفي النظام إيران وروسيا على الاستمرار في بعث الحياة للاقتصاد السوري .. قد أوقع النظام في مغطس كبير لا فكاك منه ، يحاول اليوم عبر زيارته للصين برفقة وزراء المال والاقتصاد والتجارة للتوقيع على عقود اقتصادية وتجارية تمنح الشركات والمستثمرين الصينيين القيام بعمليات استثمار في بلد لا يوجد فيه مناخ للاستقرار والاستثمار ، أو العمل على الدخول في مشروع الخط الحديدي ” طريق ” الحرير ” وتقديم أحد الموانئ السورية لتكون جهة النقل عبرها إلى أوروبا كبوابة للمنح والمساعدات الصينية ، وما يعترض ذلك من ممانعة إيرانية او روسية في ميناء اللاذقية وطرطوس …
في ظل هذا الوضع السوري الذي يقف على أعتاب انهيارات اقتصادية وسياسية ، وفي سياق وضع دولي متفجر ( الحرب الأوكرانية ) ، وما يتفاعل مع هذا الوضع من توترات ونزاعات بين الأطراف الدولية وما قد يقود الى التنافس لمزيد من التدخلات الاقليمية والدولية ، وتحويل الوطن السوري إلى ملعب لتصفية حساباتها ، وبما قد يؤدي الى ضرب كل التوقعات ، وانفجار أعمال العنف والعسكرة من جديد ، وتوالي سقوط أحجار الدومينو على رؤوس جميع دول المنطقة .
إن مسار ” الخطوة مقابل الخطوة ” الذي تمسك به الأردن وتجاوبت معه اللجنة الوزارية ، مسار غامض لا يستند الى محددات ترسم مساره ، كما أنه قد يكون التفافا على خارطة الطريق التي رسمها القرار الدولي ٢٢٥٤ / ٢٠١٥ ..
ولذلك فإن أي حل سياسي لا يكون مستداماً ويحقق السلام والاستقرار إلا بالارتكاز على منطوق القرارات الدولية وخاصة خارطة الطريق التي رسمها القرار ٢٢٥٤ / ٢٠١٥ ، وأن يكون الحل السياسي تحت مظلة الأمم المتحدة وبإشرافها ورعايتها ، مع التأكيد على أن مسار ” الخطوة بخطوة ” يجب تطبيقه بمعزل عن الالتزامات الفوق تفاوضية بالإفراج عن المعتقلين وكشف مصير المغيبين وإعادة المهجرين إلى سكناهم الاصلية … كونها التزامات لا يجوز مقايضتها وتكتسي طابع التنفيذ الفوري .
إن دوران المبادرات العربية والدولية حول اللجنة الدستورية لإنجاز دستور للبلاد وهو رؤية روسية فرضتها في مؤتمر أستانا ، وشدت إليها الدول في مجلس الأمن لتجاوز الدخول في التفاوض حول هيئة الحكم الانتقالية .. ثم في ظل التراخي الدولي وتعنت النظام السوري للتقدم على طريق إنجاز أي خطوة في المسار الدستوري ، فإن المسار الدستوري لم يعد يجدي لوحده نفعاً في إنجاز الحل السياسي ، ولا بد من إطلاق التفاوض على جميع السلال التفاوضية وعلى رأسها تشكيل هيئة الحكم الانتقالية بالتوازي والتزامن مع المسار الدستوري بما يضع تنفيذ القرارات الدولية على سكة التطبيق الجدي لها .
ومن هنا فإن على الوفود الوزارية العربية ( في ظل تعقيدات الملف السوري ) التعاون مع الأطراف الدولية بالضغط على إنجاز الحل السياسي ” كسلة متكاملة ” لمساراته قد أصبح ضرورة قصوى تفرضها ضرورات إستقرار المنطقة وتجاوز الأزمات الداخلية المستعصية ، وإنصاف الشعب السوري بعد أكثر من عقد على مأساته ، كما تفرضها طبيعة الصراع الدولي والإقليمي وما قد يفرضه من توازنات جديدة وحروب وكوارث تمتد إلى المنطقة برمتها في إعادة لرسم خرائط جديدة لسورية والدول العربية تهدد استقرارها، وما يمكن أن تحدثه من إفرازات تؤدي إلى مزيد من التشظي على الخارطة السورية تتكاثر عبرها كيانات قوى الأمر الواقع تمهيداً لفرض تقسيم الجغرافيا السورية فرضاً ، وإنهاء وحدة الدولة السورية أرضاً وشعباً .