حرص الانقلابيون العسكريون في النيجر على تصعيد النقمة الشعبوية تجاه فرنسا، الأخيرة الأكثر ملاءمة لتمركز لغة هؤلاء حولها، فلها ـ استناداً للغة عالمثالية – يسارية سائدة ـ ماض استعماري مع عدد من الدول الافريقية، و»هيمنة» ثقافية ولغوية، فضلا عن كونها «تنهب» عبر شركاتها ثروات الشعوب و»تدعم» نخبا موالين لها.
الانقلابيون إذن يستعيرون لغة شعبوية شائعة غرضها تأثيم الغرب وإغراقه بالاتهامات، أصل هذه اللغة، يتبدى في الفشل القديم للكثير من الدول في التعامل مع تحديات صنعت العالم وشكلته، أبرز هذه التحديات، نهاية الاستعمار وانتشار الرأسمالية وصعود العولمة. مع التحدي الأول، ظهر أن الانتقال من حقبة الاستعمار إلى نموذج الدولة ـ الأمة، ليس أمراً سهلاً، لاسيما في الدول الافريقية التي عانت من صراعات، نتيجة صعوبة إدارة تعدديتها الإثنية والدينية والقبلية، ما تسبب في سلسلة انقلابات وصراعات وحروب دموية، فضلا عن انتشار الجماعات الإرهابية وعصابات من كل نوع.
ومع صعود الرأسمالية التي فتحت دول العالم على بعضه عبر الأسواق الجديدة، تبين أن هذه الدول غير قادرة على الاستجابة للتحدي المقبل، إذ إن قدرتها على الإنتاج أقل بكثير من قدرتها على الاستهلاك، لاسيما وأن الثروات التي تضمها القارة السمراء تتطلب خبرات علمية غير متوفرة فيها، الأمر نفسه انسحب على تحدي العولمة، الذي كشف عن فقر في امتلاك الأدوات للاستفادة منه، من تعليم وتقدم تكنولوجي وغير ذلك. ومع تعمق الفشل، جرت الاستعاضة عن الاعتراف به، بلغة اتهامية تجاه الغرب، الذي كان مركز التحولات المؤثرة، بل صانعها الأبرز، فعدم القدرة على بناء دول ووطنيات وقواعد دستورية تضمن تداول السلطة، جرى تعويضه، بخطاب شعبوي، حول عدم خروج الاستعمار من البلاد، واستمراره عبر نخب صنعها لتظل موالية له وتضمن مصالحه. وفشل المشاركة في الرأسمالية والعولمة بسبب فقدان الأدوات والمهارات، تم تعويضه كذلك بمفردات مثل «هيمنة» الغرب و»نهبه» للثروات و»سيطرته» الثقافية عبر اللغة والتعليم. وعليه، فإن انقلابيي النيجر إذ يكثفون في سلوكهم فشلاً تاريخياً في تعاطي بلادهم مع العالم، فإنهم يستخدمون في الآن ذاته، اللغة التعويضية الشعبوية الناقدة للغرب (التركيز على فرنسا)، مع الاستفادة منها هذه المرة، لتبرير تحالفهم مع روسيا، فالأخيرة، تبعا للغة ذاتها، هي النقيض للغرب، لاسيما وأنها تسعى لعالم «متعدد الأقطاب»، ورئيسها فلاديمير بوتين، استقبل في يوم الانقلاب ذاته، قادة أفارقة، و»وعدهم» بحذف ديون بلادهم وتزويدهم بالحبوب في تجميل خبيث لاستراتيجية موسكو الحقيقية، المتمثلة بابتزاز الدول الافريقية وإخضاعها بالمال والخبز، لمد النفوذ. والأرجح أن التوسع البوتيني نفسه، ليس بعيداً عن مسارات الفشل التي حكمت دول العالم الثالث، بما فيها بعض الدول الافريقية، فروسيا عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، لم تتمكن من اللحاق بالعالم، خاصة في تحوله الأبرز نحو العولمة، وسط تقصير غربي تمثل بعدم استيعاب هذا البلد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بخطة اقتصادية تشبه تلك التي نفذت في ألمانيا بعد النازية.
ارتدت روسيا مع بوتين إلى أوهام إمبراطورية وقومية، واستعاضت عن غياب الدور والحضور، بالحروب ودعم الميليشيات والانقلابات والتدخل بانتخابات الدول، لإجبار الغرب على الاعتراف بها بالمعنى السلبي والابتزازي، بعد أن فشلت في لعب دور إيجابي.
وفي النتيجة، فإن تظاهرة أنصار الانقلابيين المدبرة أمام سفارة باريس، حاملين أعلام روسيا، تكثف فشلين في الالتحاق بالعالم وحجز موقع فيه. افريقي بدأ ما بعد مرحلة نهاية الاستعمار ويلجأ لعلاج نفسه بصعود العسكر والانقلابات، وروسي يواصل علاج جرح سقوط الاتحاد السوفييتي، ببوتينية تدعم الانقلابات والمليشيات لانتزاع اعتراف من العالم، ولو بالمعنى السلبي. والضحية في حالة النيجر، تجربة «ديمقراطية» هشة، كان يمكن أن يكتب لها النجاح، وتكسر ولو نسبياً، مسلسل الفشل التاريخي السابق. أما في حالة روسيا، فالغرب بأسره، في دائرة الانتقام البوتيني، وتأثيرات غزو أوكرانيا، أبرز دليل. ليبقى أن اللغة المشتركة في كلا الحالتين، توجيه دزينة اتهامات للغرب، بحيث تتطابق تقريبا خطابات رئيس المجلس الانقلابي في النيجر، مع تلك الخطابات المملة التي يكررها بوتين في كل مناسبة.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي