قراءة في حوادث مخيّم عين الحلوة

ماجد كيالي

لا يمكن فصل الاشتباكات الدامية والمدمرة التي حصلت في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين (قرب صيدا جنوب لبنان)، عن التوترات، أو الصراعات البينية السائدة في لبنان، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، علماً أن ثمة أسباباً ذاتية، في الوضعين اللبناني والفلسطيني، تتيح ذلك، إذ الأسباب الفردية، أو اللحظية المباشرة، لا تبرر، ولا تفسر وحدها كل هذا العنف والدمار، الذي ذهب ضحيته 13 قتيلاً، و70 جريحاً، وتشريد الألوف من بيوتهم.

بديهي القول بأن إسرائيل تتحمل مسؤولية وجود الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، وفي غيره من البلدان، بفعل النكبة (1948)، التي تمثلت بإقامتها دولة استعمارية وعنصرية، واستيطانية، وبولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين شرّدتهم من بيوتهم وأراضيهم.

بيد أن ما سبق لا يعني أن إسرائيل، المسؤولة عن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وعن استمرار تلك المشكلة، هي المسؤولة، أيضاً، عن كل ما أحاق بهؤلاء اللاجئين من حرمان من الهوية والحقوق وامتهان الكرامة، في عديد من البلدان العربية، طوال 75 عاماً.

هكذا، لا يمكن، بدعوى مسؤولية إسرائيل، إخلاء مسؤولية بعض الأطراف العربية، والفلسطينية، عما حصل للاجئين الفلسطينيين في الكويت، ضمن تداعيات الغزو العراقي لذلك البلد (1990)، ولا تشريد الفلسطينيين اللاجئين في العراق على أيدي الميليشيات الطائفية، التي تعمل كأذرع إقليمية لإيران، ولا تدمير مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، وخروج عشرات ألوف اللاجئين الفلسطينيين من سوريا، بسبب الصراع الدائر فيها منذ عام 2011.

على ذلك، فإن النظام السياسي في لبنان يتحمّل، أيضاً، مسؤوليته في حرمان اللاجئين الفلسطينيين فيه من أدنى الحقوق، مع العيش في مخيمات مزرية، ولعل ذلك يفسر إقبال فلسطينيي لبنان، في ما بعد، على احتضان الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت في منتصف الستينات، بحماسة كبيرة، وتدعيم وجودها في مخيماتهم، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي.

وقد نجم عن هذا الوضع أن الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان خلق وضعاً شاذاً، إذ تموضع على شكل دولة داخل دولة، وأخل بتوازنات لبنان الداخلية، ما شكل أحد أهم عوامل الحرب الأهلية، والانقسامات السياسية والاجتماعية فيه، مع عوامل أخرى أساسية، أهمها طائفية النظام السياسي، ومحاولة قوى معينة رسم خريطة جديدة لتوازن القوى في لبنان. والمشكلة أن كل ذلك تضافر مع طموح النظام السوري إلى الهيمنة على لبنان، في السبعينات، لتعزيز مكانته إقليمياً، الأمر الذي تفاقم في ما بعد مع صعود الدور الإقليمي لإيران، من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا، مع تشكيلها ميليشيات طائفية مسلحة، تشتغل كأذرع إقليمية لها.

أما في ما يخص المسؤولية الفلسطينية عما حصل، وما قد يحصل في مخيم عين الحلوة، أو في غيره، فهي تتمثل في مجالات عدة، من ضمنها غلبة الطابع العسكري على الحركة الوطنية الفلسطينية على حساب طابعها السياسي، لا سيما أن ذلك الطابع اتسم بالفوضى، وبغياب استراتيجية عسكرية واضحة، لما يمكن لتلك الحركة تحقيقه بواسطة السلاح ضد إسرائيل، وتالياً السؤال عن وظيفة السلاح، أو ما تبقى منه، في لبنان، لا سيما بعد إقامة السلطة الفلسطينية، وفق اتفاق أوسلو (1993). فإذا كانت تلك السلطة، سواء كانت سلطة “فتح” في الضفة، أم سلطة “حماس” في غزة، ترفض أن يحمل أي طرف آخر السلاح في مناطقها، أو تطلب ضبطه، فإن الأولى بالفلسطينيين أن يجيبوا عن السؤال المتعلق بوجود السلاح الفلسطيني في مخيمات لبنان الذي ليس له أي وظيفة، سوى الاقتتال الجانبي، أو التحول إلى ورقة، أو ساعي بريد، لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، إضافة إلى أنه بات مجالاً لمحاولة البعض الإمساك بورقة السلاح الفلسطيني في المخيمات لمصلحة أجندات غير فلسطينية.

أيضاً، تكمن مسؤولية القيادة الفلسطينية في عدم بنائها منظومات سياسية واجتماعية واقتصادية وخدمية لفلسطينيي لبنان، في خضم انغماسها بالتركيز على التحشيد العسكري، إبان وجودها فيه، ما أضر بمجتمع الفلسطينيين في لبنان، بحكم التحاق أجيال منه بالأجهزة العسكرية والأمنية والخدمية للفصائل الفلسطينية، على حساب التعليم والعمل، وبناء الذات.

في المحصلة، فإن مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، لا سيما في لبنان، دفعت باهظاً ثمن اللجوء مرات عدة، الأولى في مأساة النكبة، والثانية في معاناة اللجوء، والثالثة في التضحية بحمل ظاهرة الكفاح المسلح، والرابعة بتحمل تبعات خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، والخامسة بإخراجهم من المعادلات الوطنية الفلسطينية بعد إقامة السلطة، وتهميش منظمة التحرير، والسادسة بتركهم مرتعاً للاعتداءات والتوظيفات الإقليمية.

وفي شأن ما جرى في عين الحلوة، أخيراً، يمكن الاشتباه بأنه يقارب مصير مخيمات عديدة سبقته (لا سمح الله)، مع اختلاف الظروف، كمخيم تل الزعتر (منتصف السبعينات)، وصبرا وشاتيلا، إبان الغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، وبعدها إبان الصراع بين قيادة “فتح” والمنشقين عنها في مخيمي البداوي ونهر البارد (في الشمال اللبناني)، بدعم من النظام السوري (1983)، وما تبع ذلك في الحرب التي شنّتها حركة “أمل” على مخيمات اللاجئين في بيروت (صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة 1986ـ 1988)، نيابة عن النظام السوري، في صراعه لإنهاء نفوذ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مخيمات لبنان، والتي كان آخر مسلسلاتها تدمير مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني (2007)، لإنهاء ظاهرة شاكر العبسي (زعيم حركة “فتح الإسلام”)، التي أثيرت حولها شبهة الارتباط بالنظام السوري، بحكم إطلاق العبسي من السجون السورية قبلها بوقت قليل، وارتباطه بحركة “فتح”.

هذه السلسلة من الارتباط بين الحوادث الدموية التي شهدها مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان، مع ما فيها من اقتتال وتدمير وتهجير، لا تلغي خصوصية كل حدث، في زمانه وفي الأطراف المنخرطة فيه، فمرة ثمة إسرائيليون، ومرة ثمة لبنانيون، ومرة ثمة النظام السوري، وفي مرات عديدة ثمة فلسطينيون، أيضاً، وهو ما يحصل في مخيم عين الحلوة حالياً، بغض النظر عن التوظيفات الخارجية لتلك الأطراف الفلسطينية.

الآن، يخشى أن ما حدث في عين الحلوة يأتي في سياق محاولة تحالف، من طرف لبناني مع أطراف فلسطينية، يشتغل في سياق إقليمي، لأخذ الورقة الفلسطينية في لبنان رهينة في يده، بالتساوق مع محاولة إضعاف شرعية القيادة الفلسطينية في الداخل، وهي قيادة “فتح” والسلطة والمنظمة، علماً أنه ما من طرف فلسطيني سيخرج رابحاً من هذه المحاولة التي تشبه محاولات أخرى جرت، في حروب مخيمات لبنان السابقة، لا “حماس” ولا غيرها.

لنأمل أن هذه المحنة انتهت، ولنأمل أن السؤال عن السلاح الفلسطيني في لبنان، وعن شكل وجود المجتمع الفلسطيني في لبنان، باتا على رأس جدول أعمال الفلسطينيين.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى