كيف تُمزَّقُ الدولُ والكيانات؟

د. أحمد سامر العش

كُتيبُ تمزيقِ الدولِ الذي جعل من فرنسا وبريطانيا المنقسمة على نفسها والتي تعاني من شروخ حقيقية في منظومتها الأخلاقية والمدنية تسيطر على العديد من الدول وتمتصُّ خيراتِها، يمكن حصرُها في بعض النقاط التالية:

  1. أن تجعلَ البلد ساحة صراعٍ خارجيٍّ كما حدث في لبنان عندما كان ساحةً للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني (1969-1982). أو سوريا والعراق واليمن حيث هي الآنَ ساحة للصراع السني الشيعي بين قوى خارجية.
  1. تحالف الثنائيات والثلاثيات ضد باقي مكونات البلد الواحد، ومثالها: التعاون الدرزي -الماروني في نظام القائم مقامية (1840-1860) الذي انتهى بفجائع ومذابح عام 1860. والتعاون الماروني -السني الذي أنجز الاستقلال عن فرنسا بدعم بريطاني عام 1945. وانتهى بالحرب الأهلية عام 1975 بعد أن تصدّع عام 1958. أو تحالف الراديكالية المسيحية ممثلة بعون والشيعية ممثلة بحزب الله عندما  تحالفا عام 2006 في كنيسة مار مخايل؟
  1. نبذ فئة اجتماعية تحت مسميات ومبررات مختلفة: فئة البدون في الخليج العربي، والسنة في عراق ما بعد 2003، والأكراد في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
  1. الجيوش تلك الحيلة القديمة الجديدة التي ابتدأت مع انقلاب حسني الزعيم مروراً بانقلابات أمريكا اللاتينية نهاية بانقلاب النيجر، حيث يصبح ذلك الكيانُ الذي يُدفَعُ ثمنُ سلاحِه وتغذى عناصرُه من الشعب ليصبحَ أداةَ قمعٍ لا مفر منها عبر دمى تحركها قوى خارجية!
  1. فكرة حماية الأقليات من الأكثرية الظالمة وبالتالي جعلها حصانَ طروادة لتحطيم الدول والمجتمعات!
  1. غياب فكرة العدالة والتساوي أمام القوانين، مما يُضطر المجتمعُ لايجاد بدائل مثل فكرة الثأر في مصر، والقبلية والعشائرية في الدول التي لها مثل هذه التركيبات، أو التحكيم الشرعي والتجاري خارج القوانين والقائمة على التراضي والمرجعيات الشخصية الاعتبارية!
  1. تشكيل فكرةِ النخبة الحاكمة المسيطرة سواء من عائلات أو طوائف أو فئة مصنعة (مثل المجالس العسكرية والثورية في مصر والسودان وعراق صدام وجبهة تحرير الجزائر) أو دولة عميقة اقتصادية استخباراتية تقوم على مصالح عابرة للحدود.
  1. غياب وتغييب الإرادة الشعبية عن الخروج من كل ما سبق إما تحت رغبة الحفاظ على المكتسبات أو الخوف من ارتدادات التنازل عنها! وكلُّه يعود إلى غياب الثقة بين مكونات المجتمع المختلفة.

الغريب في بعض مفكرينا المعاصرين، أنهم حين يتحدثون في خلوة مع من يثقون به، قد يبدون من الخبرة الاجتماعية الشيء الكثير. وهم لا يترددون في حياتهم اليومية أن يسلكوا كما تقتضيه تلك الخبرة. إنما هم لا يكادون يبدؤون بتحبير الكتب أو يتبوَّءون منصة الخطابة حتى ينقلبوا إلى طوباويين يتشدقون بالأفكار العالية التي لا صلة لها بواقع الحياة الاجتماعية.

لقد كان ميكيافيلي ثائراً على هذه الازدواجية في التفكير، كما ثار ابن خلدون من قبله، ونحن إذ نقدر ثورة ميكيافيلي هذه لا نستطيع أن نقول: إنه وصل بها إلى مرتبة ابن خلدون، مع ميكيافيلي يتشابه ابن خلدون في كونهما استمدا مادة كتاباتهما من الخبرة الاجتماعية في الغالب. ولكنهما يختلفان من ناحية أخرى، فابنُ خلدون لم يقدم خبرتَه الاجتماعية على شكل نصائح عملية كما فعل ميكيافيلي، بل قدمها بعد أن ربط أجزاءها المتفرقة برباط منطقي متكامل تقريباً؛ وجعل منها فلسفة عامة تقوم على أساس جديد وقرآني في الوقت نفسِه. لذا يصح أن نقول إنه في ذلك خبيرٌ اجتماعي وفيلسوف في آن واحد. أما ميكيافيلي فأقصى ما يمكن أن نصفه به هو أنه كان خبيراً اجتماعياً فقط.

مازال أغلبُ مفكرينا إلى الآن يعتقدون بأن الواجبَ يقضي عليهم أن ينصحوا المجتمع لكي يتخلص من واقعه السيئ، لا أن يصفوا ذلك الواقع ويكتشفوا قوانينه. فالمجتمع في نظرهم مريض، ولا سبيل لعلاج مرضه إلا بتلقينه الأفكار الصالحة، فإذا عرف المجتمع تلك الأفكار سار عليها، وبهذا ينال السعادة والخير.

أما رأي ابنِ خلدون أن المجتمع لا يمكن علاجه بهذه الطريقة. فالمواعظ المجردة لا تؤثر في الناس؛ لأنهم يسيرون في حياتهم حسبما تقتضيه طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه. أما أولئك الذين تغرُّهم المواعظ ويندفعون في تحقيقها دون أن ينظروا في طبيعة مجتمعهم، فهم في رأيه يضرون المجتمع أكثر مما ينفعونه، وكثيراً ما تؤدي أعمالُهم إلى العبث والفوضى وسفك الدماء.

إذن على المجتمع أن يصحح نفسه بنفسه وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تكون هنالك حاجة حقيقية لمخالفة كتيب تعليمات تمزيق الدول. وبغض النظر عن ماهية المشروع وزمن وآليات تطوره، لكنه لابد أن يشمل على النقاط التالية حتى يكتب له النجاح:

أولاً: مصادر المعرفة المعترَف بها يجب ألا تتوقف على الخبرة والملاحظة البشرية فحسب، بل أيضاً على الوحي الذي يأتي من الله، لذا فإن الوحيَ حقيقةٌ لا تقل أهمية عن الحقيقة التي نلاحظها ونستمد منها ملاحظاتنا الخاصة في علوم الاقتصاد والعلوم الاجتماعية الأخرى.

 ثانياً: مشاريع بناء الدول عليها ألا تكتفي بعلاج الاقتصاد أو علوم الاجتماع أو العلوم الإنسانية الأخرى كل على حِدَةٍ بل يجب أن تجسد التفاعل الحقيقي فيما بينها. فالاقتصاد هو أحد العلوم الاجتماعية، وقد ذكر ابنُ خلدون في مقدمته أن دراسة البحث عن رزق للحصول على المادة من البيئة التي حولنا ومن ثم توزيع هذا الرزق على الناس هو جزء لا يتجزأ من الدراسات الاجتماعية. إذن علينا أن نتحلى بالواقعية والحكمة في الوقت نفسه، فمشروع التحرر والبناء لا يهدف فقط لاستبدال المنظومة الفاسدة، بل عليه أن ينطلق في دراسة الاقتصاد والاجتماع من مبدأين أساسيين:

المبدأ الأول: أن ننظر إلى الإنسان كما هو، بغض النظر عن دينه، وبغض النظر عن عرقه وجنسه أو مكانه الجغرافي.

المبدأ الثاني: هو أن ننظر إلى الإنسان كوحدة واحدة تتأثر بما يجول في داخله وما يجري من حوله.

في مشروع بناء الدول علينا أن ننظر إلى الإنسان على أنه إنسان، وعلينا أن ننظر كيف يستخدم الإنسان الموارد التي أعطاها الله له لاستخراج أشياء مفيدة للبشر؛ ومن ثم علينا أن ننظر كيف نوزع هذه الأشياء؟ ربما علينا ألا نكتفيَ بسؤال كيف ننتج؟ أو كيف نجمع الثروة والأعمال معًا؟ بل علينا أن نسأل ما هي القيمة التي ننتجها كبشر؟ وما هو الهدف من الإنتاج؟ فالإنسان في مشاريع بناء الدول ليس أداةً أو آلةً تقوم بالإنتاج والاستهلاك فحسب (كما هو المشروع الصيني)، بل هو كيانٌ له هدفٌ في هذه الحياة الدنيا وله قيمُه وشعوره الخاص بالعدالة والسكينة في داخله ومحيطه. فالإنسان مجموعة قيم وأهداف ومعايير أخلاقية وبذلك تصبح أسئلة لماذا ننتج؟ وما هو هدف الحياة؟ وكيف يجب أن نستهلك؟ لا تقل أهمية عن سؤال كيف ننتج؟

الإنسان في مشروع بناء الدول كيانٌ ثمينٌ كرَّمه الله على سائر خلقه، يجب أن يستحق الأفضل. والأفضل ليس لي فقط، بل للآخر أيضاً. مشاريع بناء الدول عليها تصحيح فهمنا للكائن البشري في داخله وفيمن حوله. بالتأكيد الاقتصاد في مشاريع التحرر يهتم بالبشر من خلال إنتاج أقصى ما يمكن من أجل تحقيق أقصى قدر من الكرامة الإنسانية، ومن خلال التوزيع الأفضل، ومن خلال إتاحة الموارد لجميع البشر. ليس هدف مشاريع التحرر والبناء استبدال مكان متسلط أو ديكتاتور بآخر. الاقتصاد في مشاريع بناء الدول لن يكون مسألة اقتصاد خال من الربا أو دون فائدة فحسب. فالاقتصاد يجب أن يرتبط مباشرة بالنشاط الحقيقي، فلا يمكن للثروة أن تنموَ من تلقاء نفسها، ولا يمكن تحقيق مكاسب من الثروة إلا إذا كانت هناك قيمةٌ حقيقيةٌ منتجة في عالمنا (على عكس مفهوم الاقتصاد الفقاعي الذي سينفجر قريباً).

يجب أن يكون المال في مشروع التحرر عطاءٌ قانوني legal tender يتفق على شروطه بنو البشر بالعدل وليس بفرض شروط القوي على الضعيف كما يحدث اليوم مع الدولار واليورو. المال يجب أن يكون قوةً قانونيةً عادلة يمكن فرضُها على أي شخص على وجه هذه البسيطة.

الخلاصة: معالجة جهلنا بأنفسنا هو المفتاح لمعالجة جهلنا بما حولنا. من نعمة الله على البشر تقلبُ الأحوال والأزمات؛ لأنها الاستراحات الوحيدة التي تجعلك تجدد النظر إلى داخلك وتتعرف على مواضع جهلك بها فتعالجها. إن رحلة البحث عن معرفة نفسك رحلةٌ شاقةٌ ومضنية ومستمرة نهايتها أن تأتي الله بقلب سليم وميزانُها وصايا لقمان العشر لابنه. لا بد من عمل هذه الفحوصاتِ بشكل مستمر ودوري. أما أن تجد الأمور جاهزة كوجبة المأكولات السريعة أو تكون كحبة علاج سهلة البلع تأخذها بكلمتين على الواتس أو قصة طريفة على الفيس بوك؛ فأنت بذلك تخدع نفسك وتستمر في اتباع تعليمات كتيب تدمير الدول والكيانات كما يريد أعداء الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى