الحروب الاقتصادية والاستثمار بالإنسان 

سمير خراط

مع تصاعد حدة التوتر التجاري مؤخرًا   والإجراءات ضد الصين في مجالات عدة منها سرقة الحقوق الفكرية والابتكارات التكنولوجية والتي قد تطال دول أخرى إذا ثبت “سرقتها” للتكنولوجيا الأمريكية، ليتضح أن الحرب التي بدأت تجارية مع الصين ستتحول تدريجيًا إلى اقتصادية، وقد تنتشر لتشمل أطرافًا أخرى ، علماً أن أغلب المراقبين والمتابعين لحركة الاقتصاد والدول التي تتمركز المناصب الأولى عالمياً  هي بحالة توتر وتبحث من خلال بهلوانيات دبلوماسية وتنقيب في المعاهدات الدولية والمنظومة القانونية التي تدير هذا الميدان عن حلول لتفادي أي اصطدام مستقبلي ، ولقد طرحت سؤال بسيط على صفحتي الشخصية يخص مكانة الصين الحالية وفيما إذا اعتمدت الانسان كقوة لدفع العربة الاقتصادية لبلدها وهل يحتل المكانة الأولى بأولوياتها في حال المواجهة .

“كيف استطاعت الصين من دولة معدمة خلال نصف قرن أن تصبح ثاني دولة اقتصاديا بالعالم وتناطح الولايات المتحدة على المركز الاول، هل اليد الحديدية، أم العكس استثمرت بالإنسان وجعلته نقطة قوة بعدما  كان اكبر نقطة ضعف بتعداد سكانها ، موضوع يستحق التفكير لعلنا نعيد النظر لمكانة الانسان بكل منظوماتنا الاقتصادية التشريعية والاجتماعية” .

وجرى الحوار التالي مع صديق اقتصادي مختص ومحاضر بجامعات أوربا ..(نعم استثمرت الصين في الانسان ولكن هل استثمرت في قيمة الانسان الانسانية ام في قيمته الاقتصادية الانتاجية؟ هذا هو بيت القصيد. الصين الحالية أقرت بأهمية الانسان ولكن ليس كشيء مستقل أو ذاتي بل عملت على اذابة هذا الذاتي في قمقم كبير اسمه المجتمع الكلي وهو مجتمع مسير من اقلية تعمل لمصلحة الجميع بشكل ما. ومقابل هذا التسيير الجماعي كانت هناك حرية نسبية اقتصادية تسمح للإنسان الفرد الذي يتماهى مع هذه الرؤية ويذعن لها بأن ينطلق ويتطور ويطور ظروفه لتغطية حاجات مادية وطموحات حياتية بحتة ضمن القمقم الجمعي الكبير. فهناك عقد بين الناس وبين من يسيرهم: نحن المسيرون نعطيكم كمجموع ونغطي ما تحتاجونه من اكل وشرب ومسكن ورفاهية وأمن جماعي وأنتم الأفراد تعطونا ما نريد عملا وانتاجا وطاعة وقوة ومعا نبني بلدا كبيرا هو لنا كلنا. والذكاء في هذه العملية انها مبنية على فهم خصائص هذا الشعب . فالشعب الصيني لديه ايمان بهذه القيم وعلى رأسها بأن قيمة المجموع اكبر وأهم من قيمة الفرد، وأن الفرد يعمل لمصلحة الجماعة ثم لمصلحته . وهذا ما دلت عليه الدراسات الخاصة بطبائع الشعوب من أمثال Hofstede , Tompenaars وغيرهما الذين تكلموا عن خاصية الشعب الصيني في قبول الهرمية في اتخاذ القرار والبحث عن التآلف والتجانس Harmony داخل المجموعة لأنهم يصنفون بأنهم جماعيون Collectivist . واستطاعت القيادة الصينية توظيف ذلك وايجاد ديناميكية لتحريك مليار وربع من الناس في مرحلة اظن يمكن تسميتها بنافذة فرصة Window of opportunity في خلال النصف الثاني من القرن الماضي حين كان تركيز السياسة الدولية ليس على الشرق الاقصى. فسمح لها بالوصول الى ما وصلت اليه. وفي الحقيقة تلتقي الرأسمالية مع الشيوعية الصينية الحالية في نقطة واحدة وهي أن قيمة الانسان الاقتصادية والانتاجية هي قيمة محترمة ومقدرة ولا بد من الاستثمار فيها ومراعاتها حتى تستمر العجلة بالدوران والفائدة بالزيادة. وفيما يخص كلامك عن مكانة الانسان المتكاملة فإن الرأسمالية جاءت بمقولات عدة من مثل أن الدين – كمجموعة من القيم وليس كعبادات مبدئيا – أمر خاص ولا يجب ادخاله في الموضوع العام الذي هو السياسة والاقتصاد. اما القيم الاخلاقية سواء التي منبعها الدين أو الفلسفات الاخرى فهي تبقى كترف من ناحية وبعيدة عن التأثير في المجال العام ، أو قل هذا هو المطمح . وقد تم ذلك بشكل ذكي. فقد أبعد الدين على أساس أنه متزمت ولا يمكن تغييره لأنه كلام آت من قدرة علوية لا يمكن الا فهمها وترجمتها من خلال بشر مقيدين بقواعد هذا الدين، واستغلوا في ذلك الخلاف الذي حصل بين السلطات الكنسية والسلطات الدنيوية في عصور النهضة في أوروبا. بينما تركت الرأسمالية المجال للفلسفات الاخلاقية الاخرى ولكن جعلتها محدودة الأثر بحيث لا يمكن او لا يجوز تطبيقها ما دامت محل نقاش لأنها من انتاج بشري قابل للتطوير والتطويع. فطوعت هذه الفلسفات للمصلحة المادية. وحتى تمر العملية كان لا بد من رفع مستوى حياة الناس بشكل عام، وهكذا بقي الانسان الاقتصادي الانتاجي معززا ومكرما ولكن ضمن هذا الإطار المنفعي. وفي الصين هذا النفعي هو تبادلي وجمعي مما يعطي ديناميكية تطور أكثر سلاسة ومرونة وسهلة القياد (تحت ضغط المجتمع والحزب الذي أصبح جزءا من الهيكل الاجتماعي) منها في الرأسمالية. أضف الى ذلك أن النهضة الصينية فيها دوافع وحوافز تخص الاجيال الاولى في اي حضارة ناهضة كما جاء في تعريفات ابن خلدون تحت اسم العصبية! “)

إذا هل نحن اليوم فعلا بحاجة الى إعادة النظر بقوانينا وتشريعاتنا ومكانة الانسان بها في ظل وجود نظام سوري قمعي ومجرم، أم أن لكل دولة ومجتمع نظمه وعاداته وقوته التي قد تتضارب مع باقي الدول ، مما يستدعي توحيد الرؤى .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى