لم يعد مقبولًا ولا معقولًا الصمت المطبق على كل ما يجري ضمن عملية الترحيل (الطوعية) التي باتت تنفذ في وضح النهار، وعلى قارعة الطريق، ضد السوريين اللاجئين، تحت بند الحماية المؤقتة. إذ يعيش السوريون هذه الأيام حالة صعبة للغاية، في بلاد اللجوء، فهم لا يلوون على شيء، ولا يعرفون مستقبل أيامهم، ولا مصائرهم ذات الغيوم الملبدة، ولا يدركون المآلات التي يمكن أن يصلوا إليها ضمن حالة من عدم القبول، وعدم التقبل لوجودهم، في تركيا وفي غيرها، ولعل فكرة الأنصار والمهاجرين قد أضحت من الماضي السحيق، رغم كل الذي حصل إيجابًا من قبل، عبر فئة كبيرة من الشعب التركي، ومن الحكومة الحاكمة خلال ما ينوف على عقد من الزمن، عندما كان الاستقبال رحبًا، والاحتضان أخويًا، وهذه مسألة لا يمكن أن تنسى للإخوة الأتراك أبدًا.. لكن ما يجري الآن من متابعات وملاحقات واعتقالات وترحيل يومي لأدنى الأسباب، مع كثير من ممارسات تشوبها ملامح الكراهية والعنصرية، يشير إلى انقلاب كبير في المزاج الشعبي التركي وفي بعض أركان الحكم.
وبحسب الإحصاءات الصادرة عن وزارة الداخلية التركية فإنه يوجد في تركيا 3329516 لاجئاً سورياً حتى 13/ تموز /2023. ولقد قيل لنا فيما سبق إنها فترة وتمرّ، تواكب مرحلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ضمن سياقات مواكبة وتطمين للمزاج الشعبي التركي، الذي اشتغلت عليه المعارضة التركية في تلك الفترة لتحصيل حاصل انتخابي كانوا يحتاجون إليه. لكن المسألة لم تنته بعد مضيّ عتبة الانتخابات، بل راحت تزداد لهيبًا وتصعيدًا وحشدًا وترحيلًا.
ما زالت العنصرية والكراهية ضاربة أطنابها، وتوحي وبشكل يومي إلى أن المزيد قد يكون آتيًا، ومن ثم فإن على السوريين البحث عن طرق وخلاصات فردية أخرى، تقيهم حرَّ الصيف، وحرَّ الترحيل القسري، الذي يأخذ ظاهر الطوعي، لكن الواقع يبين أن كلَّ سوري في تركيا هو مشروع ترحيل قادم باتجاه الشمال السوري، سواء كان من ساكني ريف شمال سوريا، أم لم يكن، وسواء قَبِل ذلك أم لم يقبله، ولا بد من الإشارة هنا إلى المصالحة التركية والتطبيع التركي المتعثر مع النظام السوري، فيما لو تم، فإنه سيؤدي إلى مصائر بائسة للسوريين الفارين من جحيم الكيماوي الأسدي، ومعتقلات القتل والعسف الطغياني الفاشيستي، وهو مصير يضعه اليوم كل السوريين الموجودين في تركيا نصب أعينهم، وهم يتوقعون دائمًا كل ما هو سيئ أو أسوأ.
ويبدو أنه ليس هناك ملامح في التعاطي الإيجابي مع السوريين اللاجئين في تركيا رغم التصريحات الرئاسية الأخيرة الواضحة والإيجابية جدًا تجاه السوريين وعدم تغيير سياسات الحكومة تجاه المظلومين. فقد انتقد الرئيس أردوغان موقف المعارضة في بلاده إزاء مشكلة اللاجئين، قائلاً “إن موقفهم في بلادنا تجاه السوريين الذين فروا من الموت ولجؤوا إلينا وتطلعوا إلينا كأنصار، ليس إنسانياً ولا إسلامياً”. وأضاف قائلًا: «ليست لدينا أي مواقف سلبية تجاه الذين يزورون بلادنا بغرض السياحة والاستثمار والتعليم والعلاج، أو تجاه الخاضعين لقانون الحماية المؤقتة».
وكذلك تصريحات الداخلية التركية التنفيذية الإيجابية، لكن ما يتطلع إليه السوري هو التطبيق المباشر والملموس من قبل الأجهزة والمكلفين بالقبض على اللاجئ وترحيله، فهم ما زالوا مستمرين في حراكهم اليومي، إذ بات السوري في حالة رعب شديد، من أن ينسى يومًا (الكيملك) في جيب آخر غير الذي يلبسه اليوم، فهو معرض للترحيل القسري اليومي فيما لو لا قدر الله أخطأ أو أنسَتْه همومُه اليومية أن يكون (الكيملك) في جيبه.
وليست بعيدة عن ذلك حالات وسياسات إزالة أية كلمة مكتوبة باللغة العربية في المدن الكبرى مثل إسطنبول وإزمير ومرسين وأضنة، فقد باتت الكتابة بالعربية على مدخل مكتب أو محل تجاري جريمة، تستلزم الهجوم عليها وإزالتها، وقد نسي المنفذون أنها لغة القرآن الكريم، وهي لغة عالمية كما أكد لهم أكثر من مرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من دون أن يمنع ذلك بلديات تسيطر عليها أحزاب المعارضة، من الهجوم على اللوحات العربية، وإزالتها بطريقة لا تمت للإنسانية ولا للأخوة بصلة.
العنصرة واستمرار تصاعد الفكر العنصري يؤكد أن الشوفينية باتت هي السائدة، وهي التي تحرك، وسوف تحرك العديد من الممارسات في مستقبلات الأيام لطرد السوريين واللاجئين عامة، وكأنهم مجرمون وليسوا مظلومين هاربين من ظلم آل الأسد ومن لفّ لفّهم، من إيرانيين وروس. وقد التجؤوا إلى تركيا البلد الجار، الذي تربطه بالشعب السوري الكثير والعديد من القرون التاريخية المشتركة، إذ كانوا وما زالوا أهلًا وإخوة يقتسمون كل شيء، حتى الدماء كانت واحدة في أكثر من معركة، وفي أكثر من مواجهة مع الطامعين من الغرب الذين جاؤوا إلى المنطقة من أجل امتصاص خيراتها وتغيير ملامحها الإسلامية، والانقضاض على حضاراتها العميقة الجذور.
ولعل التحركات التي قامت بها كثيرٌ من منظمات المجتمع المدني السوري مجتمعة تؤتي بعض أُكلها، والتي كانت صريحة هذه المرة عندما قالت في بيانها: “عادةً ما تقوم العديد من الدول بتحميل اللاجئ الهارب إليها مشكلات اقتصادية واجتماعية متراكمة على مدى سنوات حتى قبل قدومه إلى هذه الدولة أو تلك، لكنه الشماعة الأسهل والتي ليس لها صوت مسموع في وسائل الإعلام المحلية، فغالباً ما تقوم الحكومات والأحزاب السياسية المعارضة بتحميل مشكلاتها على وجود اللاجئين وتقدم وعوداً انتخابية زائفة بتحسن مستوى الدخل بعد الترحيل القسري”.
ويبقى السؤال إلى متى ستبقى هذه الممارسات العنصرية في تركيا وغير تركيا، كلبنان مثلاً مستمرة؟ من دون أن يضع أحد لها أيّ حد، لإعادة الوعي والإدراك في أن مصير شعوب المنطقة واحد ومستقبلاتهم أيضًا، وحيواتهم الآنية لا بد أن تكون واحدة، ضمن تصورات معرفية واعية للمستقبل المشترك الذي لا يفترض أن يغيب عنه عاقل.
الآلام التي يعيشها السوريون هذه الأيام تعيد التفكير من جديد بأهمية البحث عن حل أو مخرج جدي يسنح بالفرصة للسوريين كي يعودوا إلى وطنهم آمنين، بلا قمع ولا قتل ولا اعتقال سياسي، وإذا كان نظام الإجرام الأسدي ومعه إيران وروسيا، لا يريدون ذلك، فإنه لا بد للمعارضة السورية بجميع ألوان الطيف السياسي والعسكري، من توحيد رؤاها، وإعادة صياغة برنامجها المرحلي، وتجميع طاقاتها، وصولًا إلى إعادة تأسيس جمعيتها الوطنية المؤقتة، ضمن الاشتغال الجدي على إنتاج العقد الاجتماعي السوري الذي لايستثني أحدًا، بل ويساهم في خلاص السوريين من كل الممارسات العنصرية التي توجه إليهم، سواء في تركيا أو لبنان أو أي بقعة أخرى من بلاد اللجوء والتهجير القسري، حيث لا ناقة ولا جمل لهم بهذا التهجير. لقد فروا من الموت ولم يعتقدوا يومًا أن مصائرهم ستكون رغمًا عنهم عبر إعادتهم إلى سلطة وسطوة صانعي الموت في سوريا من ميليشيات أسدية أو إيرانية طائفية إرهابية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا