خلال حوار إذاعي على راديو فجر استعملت عدة مرات اصطلاح الفساد الفكري الذي نلاحظه بشدة حاليا بالمجتمع السوري مما دفعني إلى كتابة هذه الاسطر لبيان ما هو الفساد الفكري وحماقاته وكيف تغلغل بالمجتمع السوري عبر الخمسين سنة الماضية وأوصل المجتمع السوري الى مرحلة تغييب كامل عن معنى الوطن والمواطنة.
كلنا يعلم أنه لا يخلو مجتمع من ظاهرة الفساد بميادين عديدة ونعتقد أن أشد أنواع الفساد خطورة على الأمن القومي والإنساني، هو الفساد الفكري، بما يحمله من “تغييب” للوعي، و”غسيل” للأدمغة، و”دغدغة” للمشاعر، و”اللعب” على “أوتار” التعصب، وتأجيج الكراهية، والذي إن أصاب أي مجتمع، فنتائجه تكون كارثية، لأنه يشبه الورم السرطاني الذي ينتشر في الجسم، وينخر في أجهزته الحيوية، وبعد أن يتمكن من الانتشار، تصعب السيطرة عليه.
“الفساد الفكري”؛ حماقة كبرى؛ ما زالت تتوسع وتنخر بآمال وجهود التنمية المنشودة، وهذه الظاهرة وإن تعاظم انتشارها، وتفاقمت آثارها السلبية، إلا أننا نستطيع التأكيد بأن عامة الناس ليسوا بمنأى عنها، وأن المتورطين فيها؛ بالرغم من اتِّساعها وانتشارها؛ ما هم إلا فئة قليلة من “أدعياء الفكر” و”فلاسفة التنظير” و”أقزام الثقافة”، الذين شوهوا معالم “الخريطة الفكرية”.. لكن تأثيرهم يبقى أشد وأنكى، وهذا ما نلاحظه ضمن المجتمع السوري بعد أن هيمن النظام على جميع المرافق التي تساعد الانسان على الرقي الفكري وتطوير الذات، انطلقت من المناهج التربوية الى الاعلام والثقافة وبأغلب الاحيان عبر الترهيب والتخويف ومن وقت لآخر عبر الفساد الذي انتهجه لإدارة البلاد، علما أن المواطن السوري له ماضيه المليء بالشواهد على رقيه ومشاركاته عبر الزمن بالتطور وترك بصمات بمفاهيم الانسانية وخلقياتها .
بلغ العرب درجة عالية من العلم والتقدم والحضارة لم يبلغها شعب من الشعوب، وامتدت حضارتهم قرونا عدة أضاءت كل أرجاء العالم، وكانت الحياة الفكرية تتسم بالشمول والتكامل والنضج، فلم تحصر نفسها في محراب العبادة فقط بل امتدت أيديهم في مجالات العلوم المختلفة الدينية والدنيوية، وهذا ما دفع أعداءها إلى إضعاف هذا التقدم العلمي والثقافي، ومحاولة تغيير سمات المجتمعات العربية ،عن طريق الحرب الناعمة بعدما عجزوا عن المواجهة القتالية، ولقد ارتكزوا في حروبهم الثقافية والفكرية على القاعدة المشهورة: «إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده»، لذلك من اليوم الأول لتسلم النظام زمام الامور في سورية وضع خطته بإفساد المجتمع وإفساد فكره عبر وسائل متعددة سنراها بالترتيب .
من وسائل الإفساد الفكري:
وضع أعداء الفكر المخططات والبرامج والوسائل المتعددة للوصول إلى أغراضهم الخبيثة لتلويث وتسميم الأفكار، متحركين بعقيدة ثابتة، وأيدولوجيات منظمة، وقد ساعدهم في ذلك رهط من أبناء جلدتنا من المهزومين فكريا باسم النخب الفكرية والسياسية، بدعوى الواقعية والعقلانية والحداثة والمدنية؛ ليؤدي ذلك إلى التنازل عن الثوابت، بل يصبح فكر التطبيع جزءا أصيلا من الثقافة الوطنية لتصبح بعد ذلك الخيانة وطنية، والتنازل عن الثوابت وطنية.
ومن أهم هذه الوسائل وأسميهم الفساد الفكري الداخلي:
1- إحلال الثقافة الحزبية للحزب الواحد وتأليه الحاكم والابتعاد عن الاندماج بشكل ايجابي تطويري مع الثقافات الأخرى.
2- التطبيع الثقافي المتسع النطاق الذي يشمل كل مفردات الحياة اليومية، كالمأكل والمشرب والملبس وطريقة الكلام والتفكير، وهي علاقة غير قائمة على الحوار والثقافة بل على التبعية والتقليد والإذعان أمام الغالب، يقول ابن خلدون موضحاً هذه التبعية العمياء: “ إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله ، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم” .
3- محاولة اختراق المناهج الثقافية والتعليمية والتربوية للأمة، والتدرج في الهبوط الثقافي والأخلاقي ووضع مناهج تتماشى مع الهدف حيث ركزوا على الشبيبة الناشئة وخلقوا ما يسمى اتحاد الشبيبة.
4 – إشاعة الفوضى الفكرية عن طريق تمرير مصطلحات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كالحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والدولة المدنية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية ومقاومة الامبريالية العالمية وخلق الجبهة التي اسموها الممانعة، وذلك لأنهم يطلقون كل هذه المصطلحات من أجل إشغال الناس، فالحقيقة أن كل هذه المصطلحات للاستهلاك المحلي فقط.
أصبح استخدام اصطلاح الديمقراطية مجرد شعار من الدخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الحرية والمساواة. كل هذه الوسائل هدفها أن تنتحر الأمم بأيديها دون سلاح، كما قالوا: «إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده».
اليوم نرى النتائج بفتح الابواب للترشح للرئاسة السورية وهو اسلوب مدروس جيداً حيث إذا نظرنا الى المرشحين وبحثنا عن خلفياتهم الفكرية وأسلوبهم بتسويق أنفسهم لهذا المنصب إن دل على شيء فهو يدل على الغياب الكامل لمعنى الوطن والمواطنة وضعف ملموس بالبرامج الانتخابية وعدم التلاؤم مع متطلبات المواطن الحقيقية وما هي إلا تخيلات للوصول الى منصب الرئاسة دون اي استحقاق، مما يتركنا نفكر جيدا أنه هذا الترشح ما هو إلا ناتج الفساد الفكري الذي زرعه النظام بعقلية شبابنا منذ خمسين عاماً.
مقاومة الفساد الفكري واجب شرعي ووطني
إن تسخير الإمكانات – مهما كانت متواضعة – لمكافحة الفساد الفكري واجب شرعي ووطني؛ لأن الفساد الفكري كالسرطان إذا أمسك عضوا سرى أثره في الجسد كله، ولذا فيجب علينا جميعا التصدي لهذه الأفكار المسرطنة المدمرة، ومن أهم هذه الوسائل:
1- إحداث إفاقة إيمانية وفكرية نابعة من ثوابت قيمنا وأخلاقياتنا وطرح كل ما يخالف ذلك، وعدم الانبهار بالمصطلحات الخداعة التي يروج لها النظام.
2- لا بد من العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين، ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم يعتز بانتمائه لدينه وقيمه وأخلاقه.
3- إظهار أدبياتنا في التعامل مع الفرد ، وإعطائه الاستقلال الفكري واحترام علمه وشهادته وحقوقه ووجهة نظره وتقديراً لدوره في بناء المجتمع ، وبلا شك هذا لا يعني أن ننغلق على أنفسنا بل العكس تماما يجب الانفتاح ومعرفة الاختيار من الثقافات الاخرى التي تتماشى مع فكرنا وقيمنا ولا يمنع من تطوير الفكر وتوسيعه ليأخذ صفة الفكر العالمي الذي يسعى لردف القيم الانسانية، كما فعل أسلافنا بفكرهم كابن خلدون والرازي وابن رشد وغيرهم الذين تدرس كتبهم لليوم بالجامعات الاوربية، من هذا المنطلق يتوجب علينا استكمال ثورتنا ليس فقط لإسقاط القمع والفساد بل للرقي بالفكر لمواجهة الفساد الفكري الذي زرعه النظام بين شبابنا حتى انصهرت شخصياتهم بأفكار وعقائد إن دلت على شيء فهي تدل على مفاهيم حقد دفين يتوجب التخلص منه وعلى عنصرية يتعين علينا مواجهتها بقوة لنعيد للوطن وحدته الفكرية وقيمه الانسانية وإعادة العدالة الاجتماعية للمواطن لكي يزدهر الوطن من جديد مستفيداً من ثرواته بتطوير الأجيال القادمة .