في مشهد لا يخلو من عبث، يودع العالم هاجسه الذي سيطر عليه، وتحول إلى هوس على مدار الأشهر الأخيرة، آملاً في أن «كوفيد- 19» أو «كورونا» حسب الاسم الشائع، آن له أن يرحل على الأقل من قائمة الهوس، ليصير كغيره في قائمة الجائحات التي مر بها العالم. مشهد العبث المحيط برحيل «كورونا»، مستمد من الاختلافات التي ترسمها الدول والحكومات عن خطط خروجها من سيطرته وتأثيراته، والطرق التي من شأنها أن تخفف ما تركه من إصابات وخسائر، لم تشمل البشر فقط، وإنما شملت كل ما يتعلق بالحياة من حولنا، فأصاب في السياسة والاقتصاد، في المجتمع والثقافة، وطرائق العيش، وصولاً إلى أدق خصوصيات البشر، في تحديده كم هي المسافة التي ينبغي أن تفصلنا عن أحب الناس إلينا، تحت مسمى التباعد الاجتماعي!
كل الدول والحكومات مضت في طريق واحد، خلاصته أن علينا أن نتعايش مع الفيروس؛ فأقرت من حيث المبدأ وجود قدر من الحماية الشخصية، يعزل بعض الوجه واليدين، ونظمت قواعد التباعد الاجتماعي، قبل أن يذهب بعضها بخطوات محسوبة أكثر، ضمن برنامج انفراج هادئ ورزين في ترتيب مسار عودة الجمهور والأنشطة إلى المسار الطبيعي؛ حيث قام على سبيل المثال بتأخير عودة الطلاب إلى مدارسهم، في محاولة لتجنب خطر «كورونا»، بينما أعلن غيره أن عودة الطلاب ستكون طوعية لفترة ما، بينما فرضت بعض الدول عودة الطلاب إلى المدارس من دون تأخير، وهذا مثال عما تم إقراره من مسارات العودة إلى الحياة التي كان الناس يعيشونها قبل «كورونا» مقرونة بتعديلات بسيطة، أعتقد أن أغلبها سوف يتراخى قبل أن يختفي.
وسط توجه الجميع نحو استعادة حياتهم وأنشطتهم، من الطبيعي أن نتساءل عما شهدناه في الأشهر الستة الماضية من تصريحات وسياسات وأنشطة، بدأت مع ظهور الفيروس في ووهان الصينية، رافقها ضجيج عالٍ وهوس وخوف كبيران.
ومن الحق، أن نتساءل عن ضرورات ومبررات الإجراءات التي قامت بها الدول والحكومات، وعن الاتهامات، وخصوصاً الصينية – الأميركية التي تم تبادلها بصدد المسؤولية عن ظهور الفيروس وانتشاره، قبل أن تتوقف الدول والحكومات عند بعض النتائج، وخصوصاً عند ضرورة العودة إلى الحياة الطبيعية ولو وسط تعديلات ما.
إن وقائع تعامل قادة الدول والحكومات، كشفت عن ضعف مسؤوليات، وهشاشة سياسات، وارتجالية إجراءات، وغياب الشفافية؛ بل إن بعضهم ذهب إلى عنف مكشوف وغير مبرر إزاء الضحايا بحجة حمايتهم، وتم تطبيق إجراءات عقابية، تراوحت ما بين العقوبات المالية إلى العقوبات الجسدية المذلة، بما فيها الضرب بالعصي، وصولاً إلى الاعتقال، وفي أغلب الدول لم تراعِ السلطات ما تركه وقف الحياة وأنشطتها بسبب الفيروس من غياب للمداخيل، بما يعني إفقاراً لفئات واسعة عبر العالم. وباختصار: كان ذلك بمثابة كارثة عملية، تضاف إلى كارثة «كورونا» الصحية التي وقعت على رؤوس الضحايا.
لقد تسبب «كورونا» في خسائر بشرية كبيرة، أصابت في آخر أرقامها مع ختام مايو (أيار) الماضي، أكثر بقليل من ستة ملايين شخص، موزعين في مائة وست وتسعين دولة، وقد تعافى منهم مليونان ونصف مليون شخص على الأقل، ومات بسبب الإصابة بالفيروس قرابة ثلاثمائة وسبعين ألف شخص حول العالم، منذ ظهوره في الصين قبل ستة أشهر. وبعملية حسابية بسيطة، يمكن القول إن مجموع المصابين المحتملين سنوياً استناداً للأرقام الحالية، يمكن أن يصل إلى اثني عشر مليوناً، وعدد من ربما يموتون منه يمكن أن يصل إلى سبعمائة وأربعين ألف شخص في مختلف أنحاء العالم.
لا شك في أن هذه الأرقام كبيرة، وتستحق الاهتمام الشديد من جانب الدول والحكومات، ولهذا ينبغي أن يوجه النقد إليهم؛ لكن النقد ينبغي أن يكون مشفوعاً بأرقام مقارنة حول تجربتنا البشرية مع الأوبئة، ومع الظواهر الكارثية التي ألحقت وتلحق أشد الخسائر والأضرار، وبعضها مستمر معنا، في وقت لا تفعل الدول والحكومات فيه ما يستحق للحد منها.
لقد عاش العالم في عقوده الأخيرة أوبئة وجائحات، كانت منها إنفلونزا الخنازير، وشقيقتها إنفلونزا الطيور، وكلتاهما ظهرت في أواخر العقد الماضي 2006- 2009؛ بل إننا شهدنا في ثمانينات القرن الماضي جائحة متلازمة نقص المناعة المكتسبة المعروفة اختصاراً بـ«الإيدز». ورغم تعامل العالم معها بقدر أقل من الضجيج والهوس، فإنها حظيت باهتمامه، ولا تزال في قائمة اهتمامه، من أجل انتصار نهائي عليها، وربما كان هذا هو المطلوب عند ظهور «كورونا»؛ بحيث تقوم الدول والحكومات وسلطاتها الصحية بما هو مطلوب منها من دون مغالاة ولا تطرف، في إطار سياسة وإجراءات متوازنة وشفافة، تشرك الجمهور في الحرب على الوباء، لتحقيق أفضل نتائج، وصولاً إلى أدوية ولقاحات فعالة، بدون أن يحدث أغلب ما حدث.
إن الوصول إلى هذه النتيجة يمثل خلاصة مقارنة بين حالات من جائحات وظواهر حاضرة في عالمنا، آخرها «كورونا»؛ لكنها من جوانب عدة ليست أخطرها، لجهة ما تركت من خسائر بشرية ومادية على البشر، أهمها احتمال اثني عشر مليون إصابة، وسبعمائة ألف وفاة، مقارنة بما يلحقه «الإيدز» من إصابات سنوية. وقد سجل عام 2018 قرابة ثمانية وثلاثين مليون إصابة، مات منهم نحو ثمانمائة ألف مصاب.
وإلى جانب هذه الجائحة الصحية، ثمة جائحة تخلقها السياسات العالمية، تفوق الأولى بأرقامها المأساوية؛ حيث في أحد آخر تقارير الأمم المتحدة، أن أكثر من ثمانمائة مليون إنسان يعانون من الجوع في العالم، يموت منهم قرابة عشرة ملايين سنوياً بسبب نقص الغذاء أو لأسباب تتصل به، وفي جائحة الحروب التي تنتشر في أنحاء مختلفة من العالم، فإن ملايين يقتلون كل عام، بينهم مائة ألف من الأطفال الرضع؛ بل إن أربعة من البلدان العربية، هي سوريا والعراق وليبيا واليمن، تعيش منذ سنوات طويلة حالة من الحرب التي تترافق مع الجوع والتشرد والمرض، تفتك جميعها بسكان تلك البلدان، وتهدد بلداناً مجاورة بالانتشار إليها. وقد سجلت سوريا استناداً إلى آخر دراسات حولها، موت نحو مليون شخص في التسع سنوات الماضية على يد نظام الأسد، ما يعني مقتل مائة وأحد عشر ألف شخص سنوياً، باستثناء السجناء والمختفين قسراً.
إن الوقائع تقدم لنا حالات من الخطر على البشرية ومستقبلها تقارب «كورونا»، وبعضها يزيد عليه، وهي تستحق مثله اهتمام الدول والحكومات، وتحتاج إلى سياسات ومسؤوليات وإجراءات حقيقية لضمان الأفضل للناس، وحتى يتحقق ذلك، فإن «كورونا» يلوح بيديه صائحاً: كل جائحة وأنتم بخير، ونحن نسمع ونأمل خيراً.
المصدر: الشرق الأوسط