بعد ثلاث سنوات من العمل أعلن الأربعاء الماضي 8 نيسان/ابريل فريق التحقيق الذي شكلته المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية عام 2017 برئاسة (سانتياغو اونيت لابورد) تقريره النهائي الذي خلص إلى وجود أدلة كافية لتوجيه الاتهام رسميًا للسلطة الحاكمة في سورية بالمسؤولية عن استعمال (غاز السارين والكلور) في قرية (اللطامنة) بمحافظة حماة من قبل وحدات نظامية جوية وبرية تابعة لجيش النظام. وانتهى أيضًا الى استحالة تنفيذ هذه العمليات بدون أوامر من أعلى سلطة في الجيش.
وكان من الطبيعي أن تولد هذه النتيجة موجة تفاؤل وأمل بين السوريين بإمكان أن تمهد لفرض عقوبات على غريمهم الذي أوغل كثيرا في استباحة دمائهم، بدون أن يلمسوا ولا مرة إرادة دولية لردعه ومحاسبته، حتى أصبح في نظرهم مثالا صارخا للجبروت وتحدي العالم، وانتهاك الشرائع الدولية النافذة، والنجاة دائما. فهل لهذا التفاؤل مبرر…؟ وهل سيختلف رد الفعل الدولي هذه المرة؟ وهل كان المجتمع الدولي بحاجة لدليل دامغ، كهذا التقرير ليتخذ قرارا بمحاسبة مجرم أمن العقاب طويلا فأساء الأدب؟!
وليقطع الشك باليقين صرح رئيس المنظمة فرناندو ارياس (فريق التحقيق ليس هيئة قضائية، وليس مخولا بتحديد المسؤولية الجنائية الفردية). وأضاف (يعود الأمر للمجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومؤتمر الدول الأعضاء في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، والأمين العام للأمم المتحدة، والمجتمع الدولي ككل لاتخاذ إجراءات عقابية). وهذا القول يعيدنا الى المربع الأول، ويذكرنا بأن التقرير الفني يحدد الجهة التي ارتكبت الجريمة، ولا يتدخل في إجراءات العقاب، فهذا يتطلب ارادة دولية لم تتوفر طوال تسع سنوات ونيف. لذلك علينا ألا نسرف في التفاؤل، مع التسليم بأنه لو توفرت لكان التقرير الجديد سببا كافيا لمحاسبة المجرمين، ولكن أين هي هذه الارادة؟ ولماذا لم نرها عام 2013 بعد مجزرة الغوطة الكبرى التي استفزت العالم كله، وحركت الضمير الانساني، وقدمت دليلا على المدى الذي يمكن أن يبلغه الأسد، ومن خلفه حلفاؤه الروس والايرانيون في إجرامهم وتوحشهم.
إننا نتفهم فرحة بعض الحقوقيين إذ يرون في (التقرير) بارقة أمل، وفي (قانون سيزر) الامريكي تطورا ايجابيا، ولكننا نحذر من الإفراط بالتفاؤل لكي لا نتسبب بمزيد من الاحباط لشعبنا، بعد التجارب السابقة التي أوصلته الى الكفر المطلق بالعدالة الدولية. فالعالم لم يتغير بين 2013 و2020. وقانون سيزر سياسي لا تشريع جنائي، وتطبيقه بيد الادارة لا بيد القضاء المستقل. وما يعوق تنفيذه، ويعوق تنفيذ قرارات منظمة حظر الاسلحة الكيميائية وجود روسيا في صميم الاحداث السورية، منذ بدايتها حتى الساعة. وكل ما ارتكبه الأسد يتحمل بوتين مسؤوليته مع كل اركان الكرملين، ومع إيران وعصاباتها، ومع أعداء لا نراهم بنفس الوضوح كالصين وكوريا وبعض الأنظمة الاقليمية.
ولكي لا ننسى نشير الى عشرات المجازر الكيماوية التي اقترفها الاسد بحماية روسيا وايران بعد مجزرة الغوطة الكبرى ومجزرة اللطامنة عام 2017. مجزرة خان شيخون 2017 والتي اثبتت لجنة تحقيق دولية مسؤولية قوات الأسد عنها، ومجزرة الغوطة الثانية عام 2018 التي أثبتتها الدول الغربية الثلاث.
ونشير الى أن الاستخبارات الاميركية توصلت عام 2014 الى أن نظام الارهاب لم يسلم كل مخزونه الكيميائي الذي تعهد بتسليمه لتدميره. ومع ذلك لم تجبره ولم تجبر روسيا على تسليم ما أخفاه، ثم اكتشفت الاستخبارات الاميركية أن النظام واصل انتاج هذه الاسلحة بمساعدة من إيران، ولم تفعل الادارة في واشنطن شيئا رغم أن اتفاق التسليم تم بينها وبين روسيا عام 2013.
لا يعني هذا أننا ندعو للاستسلام والقنوط والتوقف عن العمل بكل الوسائل مهما كانت صغيرة، واستثمار كل الفرص، حقوقية، وسياسية، واعلامية، وعسكرية، ولكننا ندعو للواقعية، وعدم المبالغة، فصراعنا مع أعدائنا الكبار طويل وليس سهلا، لأن القضية السورية ليست قضية حقوقية وقضائية، وإنما أزمة سياسية دولية معقدة، تتشابك مع العديد من الملفات الفرعية والاقليمية. ومن الواضح أن الادارة الاميركية ليست متحمسة لمواجهة حادة وحازمة مع روسيا أو إيران، بل يتحين الفرص لعقد صفقة مع بوتين.
وللأسف جاءت جائحة كورونا لتعمل لصالح أعدائنا، لا لصالحنا، ولتفرض واقعا مختلفا، إذ أحالت الأزمات الاقليمية، كالأزمة السورية، الى أسفل اهتمامات العالم الاستراتيجية والاقتصادية، وأعطت الأولوية لمواجهة الخطر الوبائي الذي يهدد الجنس البشري، بدون تمييز. وخلقت ضرورة لمواجهة الجائحة قبل اي شيء آخر، لأن تفشي الوباء في أي بلد ينطوي على تهديد لكل سكان الارض، مما دفع ترامب لعرض المساعدة على إيران! ودفع الصين لدعوة العالم الى رفع العقوبات الاقتصادية عن الدول والانظمة المارقة، وفي مقدمتها نظاما الملالي والأسد، فضلا عن حليفها الكوري الشمالي، وتقديم معونات لها، وهناك دول اوروبية ومنظمات غربية تلقفت هذه الافكار التي لا تعدو أن تكون حقا يراد به باطل، لأنه لا انسانية لمن سكت عن جرائم الابادة التي اقترفها النظامان المذكوران، وكانا وما زالا يستحقان أشد أنواع العقاب والمواجهة والعزل، لأنهما يمثلان وباء اجراميا قاتلا لا يقل خطرا عن فيروس كورونا الوبائي!
للأسف لا يكفينا تخاذل المجتمع الدولي في محاسبة ومعاقبة نظام الاسد على انتهاكه لأخطر شرائع العالم المعاصر حتى يظهر الوباء الجديد ليصيب قضيتنا المشروعة بالتهميش برغم أبعادها الانسانية المؤلمة، ويغطي على جرائم الأسد الكيميائية وغير الكيميائية ويدخلها في خانة التهميش والنسيان، ووضعها في الجارور الى أن يتجاوز العالم الخطر الداهم. وفي هذه الحالة يجب ألا نستبعد تصعيدا عسكريا من جانب إيران وروسيا على الأرض ضد ما بقي من مناطق محررة، وما بقي من قوانا الوطنية المسلحة، مطمئنتين الى عدم وجود ردود أفعال قوية ضدهما، كالتي شهدناها في مطلع العام الحالي. لذلك علينا أن نكون في أهبة الاستعداد لأسوأ الاحتمالات بدل الاستسلام لوهم محاسبة بشار الكيماوي، لا سيما أنه بات مستحيلا محاسبة المجرم الصغير بدون محاسبة المجرم الكبير فلاديمير بوتين، وهو أمر ما زال بعيدًا.