شهدت الأشهر الماضية متغيرات ذات ارتباطات عسكرية تترافق مع أخرى سياسية تلقي بظلالها على الملف السوري، كان أحدثها “الأمر الإداري” الصادر عن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 17 من تموز الحالي، الذي أنهى بموجبه الاحتفاظ والاستدعاء للخدمة لفئات محددة من قواته العسكرية.
وبحسب الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا)، فالعمل بـ”الأمر الإداري” يدخل حيز التنفيذ في 1 من أيلول المقبل، ويشمل صف الضباط والأفراد الاحتياطيين (المحتفظ بهم، والمدعوون الملتحقون) ممن بلغت خدمتهم الاحتياطية الفعلية ست سنوات ونصفًا فأكثر، حتى 31 من تموز الحالي.
هذه الخطوة ربطها مدير “إدارة القوى البشرية” لدى النظام، حسين كورو، بما اعتبره “تحسن الظروف الميدانية، وازدياد أعداد الملتحقين، وارتفاع نسب الاستكمال، بما يضمن الجاهزية القتالية للقوات المسلحة”.
وبحسب كورو، فـ”الأوامر الإدارية” مرتبطة بمعطيات وظروف “موضوعية” على الأرض.
تخفيف ضغط
يأتي هذا “الأمر الإداري” بالتزامن مع متغيرات سياسية مؤثرة في هذا الصدد، وتتجلى بحالة التقارب العربي مع النظام، التي بدت بوضوح بعد زلزال شباط 2023، وأفرزت عديدًا من الزيارات واللقاءات السياسية والدبلوماسية، وصولًا إلى إعادة النظام إلى الجامعة العربية، ومشاركته في قمة “جدة” (19 من أيار الماضي)، ومحاولات الدفع قدمًا بـ”المبادرة الأردنية” للحل في سوريا.
الباحث في مركز “عمران للدراسات” محسن مصطفى، أوضح لعنب بلدي أن هذه الخطوة مدفوعة جزئيًا بمحاولة تخفيف الضغط عن الحوامل المجتمعية في مناطق سيطرة النظام، مستبعدًا في الوقت نفسه أن تحمل رسائل للدول العربية، على اعتبار أن الموضوع يرتبط إلى حد بعيد بنسبة الاستكمال البشري لقوات “الجيش”.
وبحسب الباحث، فأمر التسريح وإنهاء الاحتفاظ الصادر لا يعكس استقرارًا عسكريًا بالمعنى التام للكلمة، مقدار ما يعبر عن حالة “اكتفاء” مع التحاق أعداد جديدة من المجندين.
واستبعد مصطفى أن تستفيد أعداد كبيرة من العسكريين من القرار، طالمًا أنه مقرون بشروط لا تنطبق على الجميع، مشددًا على أن القرارات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية للنظام هي قرارات فعلية في الوقت نفسه.
وكان مركز “جسور للدراسات” تحدث، في 19 من تموز الحالي، عن أربع دلالات ترتبط بإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء للمشمولين بـ”الأمر الإداري”، وتتلخص في أن النظام يسعى لصناعة رأي عام جمعي يدفع المكلفين في مناطقه للمفاضلة بين أداء الخدمة ثم الخروج من البلد بشكل رسمي، وبين الخروج بطريقة غير نظامية تحولهم إلى ملاحقين قانونيًا.
وبحسب “جسور”، فالنظام يأمل استقطاب فئة المكلفين للخدمة، ومن يتخلفون عنها بوسائل غير قانونية أو قانونية كـ”التأجيل الدراسي”.
المركز أشار إلى تردي الحالة الاقتصادية ومحاولة النظام التنفيس عن حواضنه مع توقف العمليات العسكرية الكبيرة، كما أن عدم إعلان إحصائية خاصة بالقرار يشير إلى قلة أعداد المشمولين به، وضعف تأثيره العسكري والمجتمعي.
إلى جانب ذلك، فالوحدات العسكرية التي نشأت بعد التدخل الروسي في سوريا (2015)، وتعمل بنظام عقود (الفيلق الرابع والخامس والفرقة 25)، أدت مهام وعمليات عسكرية تقوم بها الوحدات العسكرية لقوات النظام، في ظل ما تعانيه من انفراط بنيتها التنظيمية البشرية والفنية، مع ميل لتعزيز القدرة القتالية لتلك القوات.
إرهاق مالي.. “تحت الطلب”
المحلل العسكري طارق حاج بكري، أوضح لعنب بلدي أن النظام السوري يواجه صعوبات اقتصادية تضعف قدرته على دفع رواتب المجندين الاحتياطيين الذين يحتفظ بهم، ويتقاضون خلال الخدمة الاحتياطية رواتب توازي رواتب المتطوعين، رغم عدم كفاية هذه الرواتب بالنسبة لمن يتقاضاها، كأجور مواصلات، ما جعل منهم عبئًا اقتصاديًا من جهة، وأمنيًا من جهة أخرى، بالنظر إلى سنوات الخدمة الطويلة دون محدد زمني للتسريح.
ويمكن للنظام استخدام هذه الخطوة كوسيلة لرفع معنويات المواطنين في مناطق سيطرته بسبب تذمر الأهالي واضطرارهم للإنفاق على أبنائهم خلال فترة الخدمة والاحتفاظ، كما تفيده هذه الخطوة بتوجيه رسائل مفادها أن الأمن عاد، وأن جيشه قوي بما يكفي لبسط سيطرته على الأرض، مع العلم أن فترة الخدمة الطويلة لهذه الدرجة تعتبر “جريمة” بحق الجندي نفسه.
وبموجب مرسوم صادر عن الأسد في كانون الأول 2022، جرى تعديل رواتب العسكريين.
وحدد المرسوم راتب الضابط برتبة “ملازم أول” بـ116 ألف ليرة سورية (نحو عشرة دولارات، على اعتبار أن قيمة الدولار الواحد تبلغ 11600 ليرة سورية).
كما يتقاضى الضباط من رأس الهرم العسكري، برتبة “لواء”، ما يتراوح بين 270 ألفًا و292 ألف ليرة سورية (نحو 25 دولارًا أمريكيًا)، حسب الترتيب العسكري (لواء 1، لواء 2، لواء 3).
وتنحصر رواتب الرتب العسكرية الأخرى بين راتب “الملازم أول” و”اللواء”، وتنخفض إلى ما دون ذلك لصف الضباط وأفراد القوى الأمنية.
“أوامر” سابقة
قبل أقل من عام، أصدر الأسد “أمرًا إداريًا” في 27 من آب 2022، أنهى بموجبه الاحتفاظ لفئات محددة.
ونص القرار حينها على إنهاء الاحتفاظ والاستدعاء للضباط المجندين المحتفظ بهم، والطلاب المجندين المحتفظ بهم من جميع الاختصاصات، والضباط والطلاب الضباط الاحتياطيين، لكل من بلغت خدمته الاحتياطية الفعلية سنة فأكثر حتى 31 من الشهر نفسه.
وشمل “الأمر الإداري” أيضًا تسريح الضباط والطلاب المجندين الملتحقين بالخدمة الإلزامية، اعتبارًا من تاريخ انتهاء خدمتهم الإلزامية.
وإنهاء الاحتفاظ والاستدعاء لصف الضباط والأفراد الاحتياطيين، والمدعوين الملتحقين، ممن بلغت خدمتهم الفعلية ست سنوات ونصفًا فأكثر، حتى تاريخ 31 من الشهر نفسه، بالإضافة إلى إنهاء الاحتفاظ بصف الضباط والأفراد الاحتياطيين المحتفظ بهم والمدعوين الملتحقين، من مواليد 1983، ممن بلغت خدمتهم الاحتياطية الفعلية سنتين فأكثر حتى 31 من آب، إلى جانب التسريح لاحقًا لمن يكمل سنتي خدمة احتياطية فعلية من هذه المواليد.
كما صدر تعميم عن وزارة الدفاع بحكومة النظام، في 10 من آب 2022، تضمّن تسريح الأطباء البشريين، وأطباء الأسنان، والصيادلة ممن أنهوا الخدمة الإلزامية، وإنهاء الاحتفاظ لمن كان بالخدمة الاحتياطية منهم، ما عدا اختصاصيي التخدير، والعناية المشددة، والطوارئ.
وفي 10 من أيار 2021، صدر “أمر إداري” مماثل، أنهى الاحتفاظ والاستدعاء للأطباء البشريين في إدارة الخدمات الطبية، ممن بلغت خدمتهم الاحتياطية سنتين وما فوق، على أن يجري الاستغناء عن خدماتهم وفقًا للإمكانية.
وشمل “الأمر” صف الضباط والأفراد الذين بلغت مدة خدمتهم الاحتياطية أكثر من سبع سنوات ونصف.
تحركات شبيهة
شهد نيسان الماضي عديدًا من حالات تخفيف المظاهر المسلحة في المناطق المدنية والمأهولة الواقعة تحت سيطرة النظام، وتحديدًا في العاصمة دمشق، إذ جرت إزالة عديد من الحواجز الأسمنتية (حجارة كبيرة تُستخدم لتنصيف الطرقات ذات المسارين المتعاكسين سخرتها قوات النظام لإنشاء نقاط توقف وتفتيش) في مناطق حيوية وعالية الكثافة والازدحام في قلب العاصمة.
ومن تلك الحواجز ما كان موجودًا على طريق بيروت، وصولًا إلى فندق “داما روز”، وحاجز على أوتوستراد المزة، ويمر أمام تجمع فرع جامعة “دمشق” في المنطقة.
وهناك حاجز جرت إزالته من باب مصلى، وآخر في نهاية جسر “الرئيس”، وحاجز “آمرية الطيران”، وهي بمعظمها طرقات متفرعة وتلتقي في ساحة “الأمويين” بالقرب من مبانٍ رسمية وحساسة، كالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وقيادة الأركان العامة.
من روح “المبادرة”
في 10 من تموز الحالي، حث البيان الختامي المشترك الصادر عن الاجتماع الوزاري المشترك للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي وروسيا، النظام السوري على الالتزام بـ”المبادرة الأردنية” التي تشمل بندًا يستلزم إعلان انتهاء العمليات العسكرية في البلاد، وبدء اتخاذ خطوات ضرورية للتوصل إلى حل شامل لـ”الأزمة”.
كما جاء في البيان أن الوزراء “عبروا عن أملهم بأن تأخذ الحكومة السورية على عاتقها المبادرة، والبدء باتخاذ جميع الخطوات الضرورية للتوصل إلى حل شامل للأزمة”.
تعقيبًا على مبدأ “خطوة مقابلة خطوة” الذي تستند إليه المبادرة، قال وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، في 12 من حزيران الماضي، إن “سوريا سارت مئات الخطوات فيما يتعلق بما هو مطلوب منها، في حين لم تلقَ أي خطوة من الأطراف الأخرى”.
ووفق ما نشرته مجلة “المجلة” عن “المبادرة الأردنية” للحل في سوريا، تضمن المرحلة الثالثة “على المدى البعيد”، مطالبة النظام بإعلان انتهاء العمليات العسكرية المتعلقة بـ”النزاع المسلح”، باستثناء التدريب القتالي ضد جهات تحددها الأمم المتحدة.
المصدر: عنب بلدي