حرب الحبوب… مدافع الغذاء بعيدة المدى

انسحاب روسيا من اتفاقية منحت الأوروبيين الأولوية على حساب الدول الفقيرة وأوكرانيا تتخوف من مساومات غربية تضر بمصالحها.

في منتصف شهر يونيو (حزيران) المنصرم، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن بلاده تدرس الانسحاب من اتفاق تزويد الحبوب عبر البحر الأسود، مضيفاً أن موسكو تعرضت “للخداع” بشأن تنفيذ أجزاء من الاتفاق تتعلق بصادراتها.

في لقائه مع مراسلين عسكرييين، أضاف بوتين “أن الاتفاق، الذي جاء بواسطة الأمم المتحدة وتركيا، كان يهدف لمساعدة الدول الصديقة، في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن أوروبا كانت أكبر مستورد للحبوب الأوكرانية التي صارت مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية في كييف”.

في ذلك التوقيت هددت روسيا بالانسحاب من اتفاق الحبوب، إذا لم تتم تلبية مطالبها بتحسين صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة، ووقتها أكد سيرغي فيرشينين، نائب وزير الخارجية الروسي عن عدم رضى موسكو على تنفيذ الاتفاق.

بعد شهر تحديداً، وفي 17 يوليو (تموز) الجاري أخطرت روسيا الأمم المتحدة وتركيا وأوكرانيا بأنها لن تجدد اتفاق الحبوب المهم الذي سمح لأوكرانيا بالتصدير عبر البحر الأسود.

ما هي قصة هذا الاتفاق ولماذا انسحبت روسيا منه؟ وهل تعمد بذلك إلى استخدام الحبوب كسلاح في معركتها مع الغرب؟ وهل من أخلاقية ما في تلك الحرب، أم أنه في الحرب تضحى كل الأسلحة متاحة من غير حدود؟ ثم يبقى التساؤل الأهم: ما هي تبعات هذا الانسحاب على بقاع جغرافية بعينها حول الكرة الأرضية، لا سيما تلك التي تعتمد في مصادرها الغذائية على الحبوب الأوكرانية؟

اتفاق لتخفيف حدة الأزمة الغذائية

بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، توسطت الأمم المتحدة لتخفيف أزمة الغذاء العالمية، عبر السماح بتصدير الحبوب الأوكرانية التي عطلتها الحرب.

كان الهدف الرئيس من الاتفاق هو تخفيف حدة أزمة الغذاء التي اجتاحت العالم منذ بداية الأزمة في أواخر فبراير (شباط) من عام 2022، والتي بسببها تعذر تصدير الحبوب الأوكرانية للعديد من دول العالم.

لم تكن الموافقة الروسية على الاتفاقية مجانية، إذ طالبت في المقابل بإعادة ربط بنكها الزراعي بنظام “سويفت” والذي تم قطعه من قبل الاتحاد الأوروبي بعد الحرب، والمعروف أن هذا النظام هو من ينسق التعاملات المالية لأهم بنوك العالم ومنها بنوك روسيا المشرفة على تصدير العديد من أنواع الحبوب للعالم برمته.

ما هي أبرز بنود الاتفاقية؟

باختصار غير مخل، يمكن الإشارة إلى أهم النقاط التالية:

ـ تفتيش السفن عند الدخول والخروج: وذلك بهدف التأكد من أنها لا تحمل أسلحة للجانب الأوكراني، بما يعزز من قدرتهم العسكرية.

ـ تصدير الحبوب من 3 موانئ: وهي أوديسا، وجورنوموركس، ويوزهنو، المطلة على البحر الأسود، وأهمها بلاشك أوديسا.

ـ المرور الآمن: من وإلى الموانئ الأوكرانية، حيث تبحر السفن التي يشملها الاتفاق إلى مضيق البوسفور التركي ومنه إلى الأسواق العالمية.

لم يكن الانسحاب الأخير هو الأول من نوعه، فقد سبقه انسحاب آخر في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، على خلفية تفجير الجانب الأوكراني لجسر القرم، لا سيما أن التحقيقات الروسية أثبتت وجود متفجرات في إحدى شاحنات الحبوب الأوكرانية.

تسبب استهداف السفن الروسية بطائرات الدرونز الأوكرانية في ميناء سيفاستوبول، بتعزيز رغبة موسكو في الخروج من الاتفاق، لا سيما أنها خرجت من ميناء أوديسا باتجاه شبه جزيرة القرم.

لاحقاً تراجعت روسيا عن هذا القرار في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 عقب مباحثات بين كلا الجانبين التركي والروسي، والتي أدت إلى ضمانات جديدة تؤكد للجانب الروسي عدم التعرض لأسطوله، كما أرسلت أوكرانيا تعهداً كتابياً للحكومة الروسية بعدم استخدام الممر الآمن في العمليات العسكرية.

لماذا الانسحاب هذه المرة أيضاً؟

وصف الرئيس الروسي بوتين في وقت سابق، صفقة الحبوب عبر البحر الأسود بأنها “لعبة أحادية الجانب”، حيث لم يتم تنفيذ أي عناصر من الاتفاقية تتعلق بمصالح روسيا، لا سيما تصدير الأسمدة والأغذية.

بوتين كذلك أكد أن الحبوب لم تورد للدول الفقيرة، على رغم أن هذا كان شرطاً للاتفاق.

المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، اعتبر أن الأمر وصل إلى نهايته، بحكم الأمر الواقع.

أما وزارة الخارجية الروسية فقد جددت الشكوى، متهمة الغرب بـ”التخريب المستمر” و”الأنانية” وتقديم المصالح التجارية للاتفاق قبل أهدافه الإنسانية.

هل هناك في واقع الحال أسباب أخرى دعت الجانب الروسي للتسريع بالانسحاب من الاتفاق؟

مؤكد أن ذلك كذلك، فقد جاء إعلان الكرملين بعد ساعات فقط من إعلان أوكرانيا مسؤوليتها عن هجوم شن على جسر في شبه جزيرة القرم أسفر عن مقتل مدنيين.

لكن الإدارة الروسية حاولت أن لا تربط بين الأمرين، فقد صرح بيسكوف بأن سماح روسيا بإنهاء صلاحية الاتفاق أمر لا علاقة له بالهجوم، وقال للصحافيين في موسكو: “الرئيس بوتين أعلن قبل هذا الهجوم الموقف الجديد”.

ترى روسيا أنها نفذت بنود الاتفاقية، فقد ضمنت عبور السفن الأوكرانية المحملة بالحبوب بأمان، لكن الجزء الثاني من الصفقة، المتعلق بوصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، لم يتم تنفيذه نظراً لوقوف العقوبات الغربية حجر عثرة على طريق تطبيق الاتفاقية، حيث تعاقب شركات التأمين وخدمات الموانئ السفن التي تتعامل مع روسيا، كما ترفض أوكرانيا إطلاق خط أنابيب الأمونيا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، والمعروف أيضاً أن قوات كييف كانت قد قامت لاحقاً بتفجير الخط بعد إعلان روسيا تعليق تسجيل السفن الأوكرانية في الموانئ حتى إطلاق خط أنابيب الأمونيا.

كان الجميع يتوقع أن تقدم روسيا على مثل هذا التعليق، لا سيما بعد المكالمة الهاتفية التي أجريت بين الرئيس الروسي بوتين، ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، وفيها أشار بوتين إلى العوائق القائمة أمام الصادرات الروسية والتي كان ينبغي إزالتها في إطار صفقة الحبوب، وشدد على أن الاتزامات المنصوص عليها في مذكرة روسيا والأمم المتحدة، والخاصة بإزالة العوائق أمام تصدير الأغذية والأسمدة الروسية لم يتم تنفيذها حتى الآن، وإضافة إلى ذلك، لم يتحقق الهدف الرئيسي من الصفقة “ألا وهو توريد الحبوب إلى البلدان المحتاجة، بما في ذلك القارة الأفريقية”.

تعتقد موسكو أن اتفاقية الحبوب لم تدر عليها سوى المزيد من الألم، وهو ما يتضح جلياً في البيان الصادر عن وزارة الخارجية الروسية والذي أكد على استخدام الموانئ التي تسيطر عليها كييف والممر الآمن الذي فتحته روسيا لتصدير الحبوب الأوكرانية، لتنفيذ الهجمات الإرهابية.

بيان الخارجية الروسية يلفت كذلك إلى أن أقل من 3 في المئة من المواد الغذائية ذهبت إلى أفقر البلدان في صفقة الحبوب، وأكثر من 70 في المئة ذهبت إلى البلدان ذات الدخل المرتفع.

هل العالم على موعد مع أزمة غذائية؟

في نهايات يناير (كانون الثاني) الماضي، كان أليكس ليسيستيا، المدير التنفيذي لشركة “إي أم سي” الزراعية ورئيس رابطة نادي الأعمال الزراعية الأوكراني، يقطع بأن محصول الحبوب في أوكرانيا سينخفض إلى ما بين 35 و40 مليون طن في 2023، على الأرجح، إذ سيتراوح إنتاج القمح بين 12 و15 مليون طن والذرة بين 15 و17 مليوناً.

حكماً يبدو جلياً أن هذا الانخفاض في الإنتاج، سببه الرئيس تعرض مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية، لا سيما في شرق وجنوب وشمال البلاد للاحتلال أو التدمير بسبب الأعمال العسكرية.

هنا يبدو انخفاض إنتاج القمح الأوكراني بنوع خاص، عاملاً مؤكداً في طريق نقص الحبوب اللازمة للاستهلاك المحلي، مما قد يفضي إلى فرض قيود على صادرات القمح من أوكرانيا.

تحوز روسيا وأوكرانيا على 30 في المئة من صادرات الحبوب العالمية، وفي السنوات الأخيرة ازداد إنتاجهما بشكل مطرد مع احتلال روسيا رأس قائمة الدول المصدرة فيما كانت أوكرانيا في طريقها إلى أن تصبح الثالثة.

أدى إغلاق بحر آزوف والحصار الذي فرض على الموانئ الأوكرانية الواقعة على البحر الأسود، إلى حرمان الأسواق من أكثر من 25 مليون طن من الحبوب التي أصبحت عالقة في المزارع أو في مستودعات الموانئ.

هل ستحدث انتكاسة على صعيد الأسعار العالمية للغذاء، الأمر الذي سيصيب قطاعات واسعة حول العالم بمزيد من نقص الغذاء، أي اتساع رقعة الجوع عالمياً؟

الثابت أنه وفقاً لمركز التنسيق المشترك بين أطراف الاتفاق، الذي يقع مقره في إسطنبول، فإن الاتفاق الهادف إلى منع ارتفاع الأسعار والجوع في الدول الأكثر هشاشة عاد بالنفع على 45 دولة مستوردة، أولها الصين (7.5 مليون طن) ثم إسبانيا (5.6) مليون طن، وتركيا (3.1) مليون طن.

كما تمكن برنامج الأغذية العالمي من توفير 725 ألف طن من القمح للدول التي تمر بأزمات، مثل أفغانستان وإثيوبيا وكينيا والصومال والسودان واليمن.

تقطع الأمم المتحدة بأن حرمان العالم من الحبوب الأوكرانية سيؤثر في حياة الملايين في المجتمعات الأكثر فقراً، ولهذا أبدى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أسفه الشديد لقرار إنهاء اتفاق حبوب البحر الأسود، محذراً من أن ملايين الأشخاص حول العالم سيدفعون الثمن.

جاءت مصر كأكبر مستفيد من الاتفاقية، إذ استوردت ما يزيد على 1.55 مليون طن من الحبوب منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، منها أكثر من 713 ألف طن من الحبوب الأوكرانية.

بينما كانت ليبيا ثالث أكبر مستفيد بواقع 558 ألف طن، تليها اليمن بواقع 260 ألف طن من خلال برنامج المساعدات الخاص بالأمم المتحدة، بينما استورد العراق 146 ألف طن عبر الاتفاقية، والجزائر 212 ألف طن، والمغرب 111 ألف طن، ولبنان 98 ألف طن، وعمان 86 ألف طن، والسودان 95 ألف طن، والسعودية 246 ألف طن، والإمارات 65 ألف طن.

ومع القرار الروسي بالانسحاب من اتفاقية الحبوب، والارتفاع المتوقع لأسعار الحبوب حول العالم، بسبب نقص المعروض، يبدو أن هناك تساؤلاً خاصاً لجهة أوروبا… ماذا عن هذا؟

هل ستغير أوروبا موقفها من موسكو؟

يتساءل المراقبون حول العالم: هل الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب، سوف يضر أوروبا بنوع خاص؟

في أبريل (نيسان) الماضي، دب خلاف جديد داخل الكتلة الأوروبية، وذلك مع فرض خمس دول منها حظراً على واردات الحبوب الأوكرانية الضخمة والتي تضر بالقطاع الزراعي لديها باعتبارها أرخص سعراً، إلا أن المفوضية الأوروبية رفضت القيود التي فرضتها بولندا وبلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفيكيا على استيراد الحبوب الأوكرانية.

في منتصف يوليو (تموز) الجاري، أظهرت دراسة أعدتها وكالة “نوفوستي” لبيانات الأمم المتحدة، أن دول الاتحاد الأوروبي بالذات كانت المستلم الرئيسي للمنتجات الزراعية الأوكرانية بموجب صفقة الحبوب.

ووفقا لهذه البيانات، بشكل إجمالي، تسلم الاتحاد الأوروبي 12.4 مليون طن من هذه المنتجات، أو 38 في المئة من جميع الإمدادات، بحسب الاتفاق نفسه.

تضم قائمة أكبر عشرين دولة مستلمة للمنتجات الزراعية الأوكرانية، البرتغال وبلجيكا وألمانيا وفرنسا ورومانيا.

سيكون من الطبيعي جداً إذن أن تكون تلك الدول الأوروبية، في مقدم الذين سيتأثرون سلباً من وقف تصدير الحبوب، وهو أمر يفهم بشكل واضح في ضوء المواقف الأوروبية من الحرب الأوكرانية، حيث تمضي غالبية دول القارة المؤثرة في طريق دعم أوكرانيا عسكرياً، والاتساق مع الجانب الأميركي، على رغم الكلفة الباهظة التي تتحملها، علاوة على الضرر البالغ الذي منيت به اقتصاداتها على نحو متفاوت جراء العقوبات المفروضة على روسيا والتي انعكست على معظم دول أوروبا.

هل يمكن لانسحاب روسيا الأخير أن يدفع الدول الأوروبية في طريق تغيير مواقفها من الحرب الدائرة بين موسكو وكييف؟

المؤكد أن هناك عدداً من السياسيين الغربيين يغلبون النظرة الواقعية، على النظرة المثالية، لا سيما بعد أن أدركوا أن عواصم القارة الأوروبية، واقعة بين مطرقة الروس، وسندان الأميركيين.

المفارقة هنا أن الجانب الأميركي، وعلى رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها أوروبا لدعم أوكرانيا، منذ انطلاق الحرب، لم يقدم للأوروبيين هامشاً من المنافع، بل العكس هو ما حدث، فقد باعوا لهم النفط بأسعار مضاعفة، وكذلك الحبوب، الأمر الذي دعا الرئيس الفرنسي ماكرون للتساؤل عن معنى مثل هذه الصداقة، في صيغة استنكارية لا تغفلها الأذن.

الواقعيون الأوروبيون، والمتحمسون لإنهاء الحرب، ينادون بضرورة إبقاء الخطوط مفتوحة مع روسيا، وبما يمكن من خلالها تحقيق اختراقات على مسار أي مفاوضات مقبلة لإنهاء الحرب، وتقليص فرص تصعيد المواجهة.

بل أبعد من ذلك، فإنهم يوصون بضرورة التوصل لتفاهمات اقتصادية حول القضايا الرئيسية، مثل ملف “تصدير الحبوب”، وغيرها من الملفات التي يمكن معالجتها بتقديم تنازلات محدودة أو التوصل لاتفاقات مرضية لجميع الأطراف.

تبدو هناك تغيرات حقيقية على الأرض، أشارت إليها صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، ومنها أن الاتحاد الأوروبي يدرس مقترحاً للبنك الزراعي الروسي لإنشاء شركة فرعية تتيح له إعادة الاتصال بالشبكة المالية العالمية كوسيلة لترضية موسكو.

وتقول الصحيفة البريطانية الشهيرة، إنه في ظل خضوع البنك لعقوبات، تستهدف هذه الخطوة حماية اتفاق تصدير الحبوب عبر موانئ البحر الأسود التي تسمح لأوكرانيا بتصدير الغذاء إلى الأسواق العالمية.

يكاد الأوروبيون يصلون لقناعة أنهم أخطاوا في ما يخص تقديم الدعم بهذا الشكل الكبير والواضح لأوكرانيا، الأمر الذي كلفهم ضياع فرصة واحدة من أهم الفرص التاريخية التي حلم بها قادة أوروبا الكبار، مثل الرئيس الفرنسي شارل ديغول، الرجل الذي حلم بقيام أوروبا وآسيا، ببلورة الكيان الأوراسي، ذاك الذي يبدأ من المحيط الأطلسي غرباً، وصولاً إلى جبال الأورال شرقاً.

هنا لم يعد سراً القول إن عدداً من المسؤولين الأوروبيين الكبار يسعون في طريق الإبقاء على خطوط الاتصال مفتوحة مع روسيا، لا سيما بعد أن باتت تبعيتهم للولايات المتحدة كارثية، وباتت التهديدات الروسية لهم فاغرة أفواهها، وبخاصة إذا تم استخدام أسلحة الدمار الشامل.

هل هذا التوجه الجديد يتسبب في مخاوف كبيرة وواضحة للجانب الأوكراني؟

مؤكد أن الأوكرانيين يخشون من أن تشكل خطوط الاتصال المقترحة بين الأوروبيين والروس، مساحة للتخلي عن كييف والتوصل لصفقة غير مرضية لها، وهو ما أظهرته بوضوح ردود الأفعال الأوكرانية على المحادثات التي تم الكشف عنها أخيراً، والتي تمت بين مسؤولين أميركيين سابقين اجتمعوا مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في نيويورك في أبريل (نيسان) الماضي وانضم إليهم ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي السابق والرئيس المنتهية ولايته لمجلس العلاقات الخارجية، إضافة إلى اثنين من المساعدين السابقين في البيت الأبيض.

بدت هذه اللقاءات بالنسبة للأوكرانيين نوعاً من أنواع الخيانة الأميركية، واليوم وبعد أن تفعل العقوبات الروسية الخاصة بالحبوب فعلها في الجانب الأوروبي، سوف يعتبر الأوكرانيون أن الجانبين الأميركي والأوروبي قد وقعا في فخ روسي، سيقود إلى إنهاء الحرب لمصلحة بوتين.

وفي كل الأحوال فإن التوجه المؤكد لأوروبا اليوم هو “إبقاء خطوط اتصال مفتوحة مع موسكو”، لأن قطع الاتصال يعني التوجه نحو نزاع مسلح مباشر.

سلاح الحبوب في مواجهة العقوبات

هل عرف العالم خلال الحرب الروسية – الأوكرانية نوعاً جديداً من أنواع الأسلحة والتي لم تكن معروفة من قبل؟

الشاهد أن هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الحبوب بهدف التأثير في التوازنات العسكرية.

يعتبر القمح الذي يستهلكه مليارات الأشخاص والمدعوم في دول كثيرة، الحبوب الرئيسية للأمن الغذائي العالمي، كما يؤكد سباستيان أبيس، الباحث المشارك في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس (إيريس). أما الذرة “فتستخدم لتغذية الحيوانات أو للحاجات الصناعية”.

وبحسب الأمم المتحدة يعاني أكثر من 200 مليون شخص حول العالم من جوع شديد، ولهذا فإن المنظمة الدولية تخشى “إعصار مجاعة” جديداً جراء ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل حاد.

كيف سيكون المشهد العالمي بعد الانسحاب الروسي الأخير وتهديد القوات المسلحة الروسية بالتعامل مع أي سفينة أوكرانية تحمل شحنات من الحبوب في البحر الأسود، كأنها تحمل أسلحة؟

يقول الخبير الاقتصادي الفرنسي برونو بارمنتيه مؤلف كتاب “نورير لومانيتيه” إن “القمح يأكله الجميع، لكن لا يستطيع الجميع إنتاجه”.

اليوم هناك عدة دول فقط تنتج ما يكفي من القمح لتتمكن من تصديره: الصين هي أكبر منتج في العالم للقمح لكنها أيضاً مستورد لهذه الحبوب، إذ إن إنتاجها لا يكفي لإطعام سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار شخص.

تبدو روسيا – بوتين وكأنها قد حزمت أمرها، وعقدت العزم على الانتقام المزدوج من أوروبا وأوكرانيا.

أولاً أوروبا بسب دعمها العسكري لأوكرانيا، لا سيما بعد صفقات الأسلحة الحديثة من دبابات وصواريخ، التي لم تفلح في أن تجعل معركة أوكرانيا المضادة قاطعة، ما يعني إطالة زمن المعركة من جهة، والتعرض لخسائر اقتصادية وعسكرية من جهة ثانية.

أما أوكرانيا، فعن طريق حرمانها من الحصول على العائدات بالعملة الصعبة، أي الدولار واليورو والاسترليني.

هل استخدام غذاء الإنسان في المعارك والحروب مسألة أخلاقية؟ ومن قال إن الحروب دائرة صراع أخلاقي، فهل كانت قنابل هيروشيما ونغازاكي في الحرب العالمية الثانية أخلاقية؟ والقنابل العنقودية في فيتنام والعراق هل كانت أخلاقية بدورها؟

في الأول من يونيو (حزيران) 2022 وبعد أول انسحاب روسي من اتفاقية تصدير الحبوب، تحدث البابا فرنسيس في ميدان القديس بطرس بالقول: “الحبوب لا يمكن أن تستخدم كسلاح للحرب”.

ويومها أضاف أمام آلاف الأشخاص: “إن الملايين، لا سيما في الدول الأفقر في العالم، يعتمدون على القمح من أوكرانيا”، ودعا إلى رفع الحصار.

في اللقاء نفسه ووسط تصفيق من الحشود المجتمعة أضاف فرنسيس: “أدعو من صميم القلب أن يتم بذل كل جهد لحل هذه المشكلة لضمان حق الجميع في التغذية. من فضلكم لا تستخدموا القمح، وهو مادة غذائية أساسية، كسلاح حرب”.

هل استمع بوتين لنداء فرنسيس؟

غالب الظن أن القيصر ترددت في أذنيه أصداء تعليق سلفه ستالين على رغبة البابا بيوس الثاني عشر في المشاركة في مؤتمر “يالطا”، الذي جرت به المقادير بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قال ستالين يومها: “كم فرقة عسكرية يمتلك البابا”.

اليوم كذلك لا يظن أحد أن البابا فرنسيس قادر من جديد على ردع بوتين عن استخدام سلاح الحبوب، حتى لو أدى ذلك إلى هلاك ملايين البشر جوعاً، وغالب الظن أن مهمة الكاردينال “زوبي” التي أرسله فيها لموسكو، وتالياً إلى واشنطن لن تنجح في وقف واحدة من المعارك العبثية في حاضرات أيامنا، والكفيلة بإشعال نيران حرب عالمية ثالثة.

ويظل التساؤل: هل يمكن إيجاد بديل للحبوب الأوكرانية، أو طرق بديلة للبحر الأسود لتعبر منها سفن أوكرانيا بأمان؟ الإجابة لا تكمن في خرائط الجغرافيا فقط.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى