تابعنا في الجزئين السابقين كيف استطاع النظام توصيل ونشر فساده إلى المؤسسة العسكرية ومرافق الدولة بكل تشعباتها، واليوم نتحدث عن مديرية الجمارك التابعة لوزارة المالية والتي تعتبر بوابة الاستيراد والتصدير وتعد من أكبر دوائر النظام فساداً علماً أنها ليست مختصة بالبضائع فقط، بل تشمل كل ما يمكن ادخاله إلى البلاد من سلاح ومخدرات وغيره من الممنوعات المتعارف عليها دوليا، وصولاً إلى السيارات المسروقة في أوربا ودخولها وبيعها بالسوق السورية ومن خلالها تشكلت عصابات تدير مؤسسات وشركات بطريقة غير مباشرة.
كنت أسمع عن ذلك الفساد الذي يخيم على هذه المؤسسة الحكومية ولكن حينما دخلت بشكل فعلي إليها بمقتضى عملي كإداري لأكبر منشأة صناعية في سورية تحتاج للتعامل مع الجمارك كمستورد وكمصدر وكنت آخذ الموضوع ببساطة وهي أنها لا تختلف عن المديريات والمؤسسات الاخرى العسكرية ودوائر الدولة من مالية إلى اقتصاد إلى الصناعة وغيرها ، ولكن بحقيقة الأمر وجدت نفسي امام منظومة لا يمكن حتى اختراقها أو العبور منها دون أن ندفع شيء من أنفسنا ، ولا يهمها لا كبير ولا صغير ، ولا تخشى لا قانون ولا نظام ، وليتبين لي أن لها قوانينها الخاصة التي تحميها حيث تهيمن بمعنى الكلمة على كل شاردة وواردة تدخل أو تخرج من الوطن ، وكلمة الوطن بالحقيقة لا تعني لها شيئا سوى أنها ارض ذات حدود وهي تملك تلك الحدود ، وحينما نقول حدود يعني أتاوات بمعنى الكلمة للعبور بأي اتجاه كان .
كلنا يعلم أنه لا يوجد صناعة بسورية لا تحتاج الى آلات ، مواد خام ، أو حتى قطع غيار ومستلزمات من الخارج ، وهنا نجد أنهم بالواقع الشريك الأكبر لهذا الصناعي بكل مستورداته ، فما بالك أيضا بالمصدر ، ولكي نتفهم طبيعة عملهم وبكل بساطه يقوم الصناعي انطلاقا من طبيعة فكرته تقديم طلب استيراد وفق الانظمة السارية ودفع ما يلزم من رشاوي للحصول على تلك التراخيص حتى يصل لمرحلة الاستيراد لتلك الآلات ، ولنقل أن آلاته وصلت ويتوجب عليه القيام بعملية التخليص الجمركي بموجب الإجازة والوثائق المطلوبة ، ووفق أحكام القانون وطبيعة المنشأة المرخصة ، أي تحت أي قانون تم الترخيص ، صناعي ، تجاري ، قانون عشرة الشهير ، وشهادة التسجيل الصناعي تبدأ للكشاف الجمركي خطة العمل الفعلية .
بالشكل العام يكون عمل الكشاف مرتكز على مطابقة المستوردات مع ما هو مبين بإجازة الاستيراد ، بالحقيقة هو يبحث عن أي مخالفة تحقق له وسيلة الابتزاز ، ويمكن أن يكون الاختلاف بالتسمية والتوصيف للسلعة أو الآلة ، ويمكن أن يكون بطبيعتها بين ميكانيكية إلى كهربائية أو الكترونية ويبقى هذا الموضوع وفق مزاجيته الخاصة ومعرفته بالصناعي أو من يمثله أمام الجمارك ، وتبدأ المساومات وفق وقائع المخالفة التي ابتكرها وليس حقيقتها ، لتصل إلى مبالغ خيالية يخضع في أغلب الأحيان الصناعي للأمر الواقع ويدفع ، كونه في أمس الحاجة لهذه البضائع أو القطع وأن معمله متوقف عن الإنتاج بسببها وكل يوم يكلفه مبالغ طائلة وخاصة إذا كان بالمعمل خبراء تركيب أجانب ، ساعات عملهم ، اقامتهم وما إلى ذلك ، فيحسبها الصناعي ويدفع المعلوم وهو ساكت لتصل بعض الأحيان المبالغ إلى أرقام خيالية ، خوفا من (اللكعة) والتعرض للمخالفة الجمركية التي يطول التراضي عليها مع ادارة الجمارك ومحاكمها بعض الأحيان لأشهر كاملة .
ولنقل أن كل شيء مطابق ووفق الانظمة، حينها يتوجب دفع المعلوم كرسم محبة وعربون صداقة مع الكشاف، والسؤال يطرح لماذا، لأن الكشاف مفروض عليه مبلغ معين يوميا يتوجب دفعه لرؤسائه وإلا يتم تحويله لوظيفة أخرى تكون مرابحها من الرشاوي أقل بكثير أو فيها ارهاق وتعب على الفاضي، وتشعر حينها أن الكشاف او حتى رئيس القسم يقول لك بكل صراحة (منتفاهم في المرة القادمة) مما يعني انتظرك للعملية القادمة وساعتها ستكون المبالغ مضاعفة في المساومة ليحقق ما فاته من اكراميات كما يسمونها.
بلا شك الدولة تعرف هذا الموضوع جيدا ولكي تثبت حسن نية وأنها ضد هذه الاساليب وضعت بكل بوابة جمركية مفرزة أمنية على أساس دورها ردع هذه الظاهرة وبالوقت ذاته مراقبة ما يدخل ويخرج ، إن كان مخالف كسلاح ومخدرات وبضائع مقاطعة حينها يتدخل عنصر الأمن ، ولكن بالواقع بات هذا العنصر شريك ويحاصص الجمارك بكل مبلغ وتم تعينه من قبل رؤساء فروع الأمن لكي يكون أيضا لهم نصيب غير مباشر بواردات الجمارك من الفساد ومعرفة بالوقت ذاته أي صناعة أو أي صناعي يستورد أو يصدر أكثر حتى تتم من جهة أخرى مراقبة أرباحه ومحاصصته من الداخل ومواجهته بواقع الارباح ، وبعض الاحيان تلبيسه طربوش وتهمة تهز كيانه وتحيله لفروع الأمن والمحاكم الجمركية تغلق بموجبها كل نشاطاته ، وبهذا الشكل اصبحت البوابة الجمركية فلتر بالوقت ذاته ومكبرة توضح أرباح النشاطات التي يحاول الصناعيون التهرب من بيانها لهم .
أذكر للمرة الأولى التي تدخلت بها جمارك (المسلمية) بحلب ، كانت فترة إجازات سنوية فاضطررت للنزول لتخليص صندوق قطع غيار لمولدات الكهرباء بالمعمل ، لأفهم من مدير القسم أنه هناك مشكلة والأفضل أن أعود مساء لمناقشتها معه “على رواق” ، وبالفعل عدت مساء للمكتب ، يفاجئني الأخ بأن البضائع لا يوجد عليها أي مشكلة ولكن ينوي الذهاب إلى العمرة مع أسر مسكينة فقيرة ويريد مساعدتهم بأكلاف السفر للسعودية ، كانت المفاجأة لي كبيرة ولم أعلم ما يتوجب عمله ، وكالعادة أنا لا أدخل بهذا النوع من النقاش مطلقا ، عدت إلى مكتبي متحججاً بأني لا أحمل نقوداً مطلقا ولم أتوقع هذا الطلب ، في اليوم التالي بعد التحدث مع الإدارة فهمنا ما هو المبلغ الذي يجب ان ندفعه له وبالفعل ارسلنا الموظف المختص ليقوم بالمهمة ، ومنذ ذاك لم أعد أذهب ولا على دائرة حكومية خلال كل فترة تواجدي بالإدارة الصناعية بسورية.
وأنشأنا قسم خاص ترتكز مهمته على التعامل مع الجمارك والتخليص الجمركي ، علما أننا كنا من أصحاب الخبرة بكل القوانين الجمركية والرسوم المطبقة وفق النظام الجمركي ببروكسل والقانون المحلي للترسيم ونصدر إجازاتنا على اساسها متحاشين أي هفوة أو غلطة قد تعرضنا للمساومات ، ولكن يبقى لهم الكلمة الأخيرة ، وقادرين على ايجاد مبررات وتهم وأغلاط لا تخطر على بال الشيطان الأحمر ، وهذا أمر طبيعي ، مهنتهم ويعرفونها جيدا ، ومهما درسنا الأساليب هم أعلم بخفاياها ، والسبب الأساسي هو حماية هذه المهنة أو باب الرزق الذي يسترزق منه كبار مسؤولين النظام ، حيث وظيفة الكشاف أن يدفع مبالغ كبيرة للحصول عليها ،مدير بوابة جمركية يتدخل كبير الوزراء وضباط الأمن لتعينه ، ومن البداية يعلم ماهي المبالغ المفروضة عليه يوميا أو شهريا ، من الإدارة العامة حتى ضباط الأمن بفروعه التي تشرف على البوابات ، منها الامن السياسي ، والبعض الأمن العسكري والمطار يخضع للأمن الجوي والأمن السياسي بالوقت ذاته على أساس مراقبة بعضهم ولكن في الحقيقة للمحاصصة .
التسعيرات المتداولة والمفروضة على الصناعي وفقاً للمخالفات أو عدم المطابقة ، وطريقة الترسيم ، وعلى سبيل المثال ، بضاعة واصلة بموجب اجازة ومبين فيها قطع غيار لآلات صناعية ، عددها ووزنها ومصدرها وثمنها واضح ، وبالشكل العام هناك رسوم تفرض بين الـ 7% تصل إلى 35 % من القيمة المعلنة بالفاتورة ، وهنا دور الكشاف الذي يرفض توصيف القطع على أنها ميكانيكية لكونها تحمل شريط كهربائي ودارة الكترونية حينها تتحول إلى قطع إلكترونية تخضع في بعض الأحيان إلى رسوم 50% من قيمتها المعلنة ويبدأ المساومة أو التعرض لمخالفة أو حجز البضاعة ، وبلا شك هذا يسبب خراب بيت الصناعي فيدفع بالتي هي أحسن ، ويحاصصك بنسبة بين الرسم الذي أراد فرضه وبين اضعافه.
فلنتصور أن القيمة الإجمالية لتلك البضائع التي تصل أحيانا لعشرات الآلاف من الدولارات، وفي بعض الأحيان يرفض القيم المعلنة أو يعتبرها ضعيفة أو كبيرة ويصارحك أنها ستسبب له مشكلة مع التدقيق كونه أدخل مشابه بالأمس وبسعر أكثر أو أقل وفق ما يحتاجه كمبرر لكي يساومك على الرشوة ، ويرفض الفاتورة كلها ويعرضك لمخالفة في الأسعار وهنا مشكلة كبيرة ، واتهام بالتهريب أو التزوير وما إلى ذلك ووضع اسم الشركة المصدرة على القائمة السوداء ومراقبة كل فواتيرها اللاحقة فيما بعد ، فتخضع بلا نقاش إلى ما يطلبونه منك ، تركت سورية وأنا أعلم أن أكبر أثرياء سورية من الموظفين هم طاقم الجمارك وما يلوذ بهم من مخلصين وعناصر كشف ورؤساء أقسام إلى مدققين حتى باتت الوظيفة بالجمارك تباع وتشترى، وهذا كله بفضل مفاهيم هذه المنظومة التي عمل عليها النظام ورسخها كي يستطيع إدارة البلاد بمفهوم الفساد.