الإسلام وقضايا السياسة والحكم، أبحاث في الخلافة والإصلاح الديني – حلقة (7) /1

الحلقة السابعة / 1

البحث الثاني

العروبة والإصلاح الديني

عبد الرحمن الكواكبي والشيخ عبد الحميد بن باديس

مقدمة عامة

مع ظهور آثار تحول الخلافة من العرب إلى غيرهم، والتي بدت واضحة بشكل جلي خلال عصري المماليك والعثمانيين، بدأت الحضارة الإسلامية تسير إلى عصر الانحطاط الذي نجم عن انفصال السلطة التي بقيت محافظة على “اسلاميتها” عن الثقافة المُعتمِدة أصلا على العربية.

في هذه المرحلة لم يبق للأمة من الإسلام الدين، ولا من الإسلام الحضارة سوى الشكل والرسوم والطقوس.. اللهم إلا حركات ضعيفة ومحدودة للمقاومة حفظت نبض الدين والحضارة، دون أن تقوى على مغالبة عوامل الانحطاط ومظاهره التي طبعت المجتمع بطابعها العام (1).

وتمحورت مظاهر القوة في تلك المرحلة – في بعض الأوقات – في العمل العسكري، فظهرت مقاومة شُجاعة للغزو على غرار دحر الحملات المغولية والصليبية، كما قامت هذه السلطات في مراحل معينة بفتح مناطق واسعة وصلت إلى البلقان في قلب أوروبا.

وبسبب ذلك الانفصال انطفأت كل المنارات الفكرية والعلمية، وأوقفت الدولة اهتمامها غالباً وأساسا على الأشكال والأوعية والقشور، فاهتمت بعمارة المساجد والمدارس وزخرفتها، على حين كانت العلوم التي تُدَرَّس في تلك المدارس، والفكر الذي يُلقى في هذه المساجد مثقلاً بالجمود والشعوذة والخرافات (2) .

ومقابل الابداع في الاجتهاد الفقهي، وانتشار المذاهب كتعبير عن محاولة المجتهدين تفسير أصول الشريعة وفروعها من أجل تسهيل وضعها موضع التطبيق، انتشرت في مرحلة الانفصال تكايا التصوف وطرقه، وامتلأت تكايا المتصوفين بالأدعياء وأصحاب الشعوذات، والحيل، على حساب ذلك الجيل من أصحاب الفكر الصوفي الفلسفي المبدع.

وعلى المستوى الأدبي تكاثر ـ في أحسن الظروف ـ المدونون والمصنفون والشارحون وكتاب الحواشي، بدل كتاب المتون والمبدعين.

السبب الأساسي لذلك يعود إلى أن أصحاب السلطان لم يكونوا يفقهون اللغة والثقافة العربيتين اللتين تعبران عن روح الجماعة الإسلامية، أوأنهم بعيدون عن روحها على الأقل.

في هذه الأجواء ظهر الصراع بين العروبيين ورؤوس السلطات الإسلامية، وكان محور هذا الصراع في البداية ذلك الاشتراط بأن تكون الخلافة في العرب وفي قريش تحديداً، والغاية من طرح هذا الشرط أنه يعيد التواصل بين عروبة السلطة وإسلاميتها، وكان الانحياز إلى هذا الشرط في الأعم والأغلب تعبيرا عن الانحياز إلى الترابط بين العروبة والإسلام، بينما كان الانحياز إلى الاجتهادات المغايرة هو انحياز لهذا الانفصال.

لقد أضحت عقيدة الدولة في ظل هذه العهود مرتكزة على العنصر الديني وعلى عصبيته، وتجاهلت كل ما يشير إلى ذلك الارتباط بين الدين الإسلامي والعروبة، بل هي عملت في كثير من الأحيان على التقليل من شأن العرب من خلال نشر ثقافة مشبوهة، وتفسيرات مغلوطة تجعل من العرب أمة متخلفة، وجاهلة بدون الإسلام وقبله، بينما يقول العالم الإسلامي الجليل الشيخ ابن باديس:

“يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لا يصلحون لدنيا ولا لدين، حتى جاء الإسلام فاهتدوا به، فأخرجهم من الظلمات إلى النور … والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي أن القرآن وحده هو الذي أنصف العرب، والناس بعد نزول القرآن قصروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب، فنشأ ذلك التخيل الجائر عن قصد…والتاريخ يجب ألا ينظر إليه من جهة واحدة، بل ينظر إليه من جهات متعددة، ” وفي العرب نواح تجتبى، ونواح تجتنب، وجهات تذم، وتقبح، وجهات يثنى عليها وتمدح، وهذه طريقة القرآن بعينها، فهو يعيب على العرب رذائلهم النفسية كالوثنية، ونقائصهم الفعلية كالقسوة والقتل، وينوه بصفاتهم الإنسانية التي شادوا بها مدنياتهم السالفة، واستحقوا بها النهوض بمدنية المدنيان. ولنذكر “عاد” فهي أمة عربية ذات تاريخ قديم، ومدنية باذخة ذكرها القرآن، فذكرها ب القوة والصولة وعزة الجانب، ونعى عليها الصفات الذميمة التي تنشأ عن القوة، فقال تعالى:

﴿ فَأَمَّا عَادٞ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُواْ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ  ﴾ [ فصلت: 15]، ومن هذه الآية وحدها نستفيد أن عادا كانت أشد الأمم قوة، وأنها ما بلغت هذه الدرجة من القوة إلا بمؤهلات جنسية طبيعية للملك وتعمير الأرض، وأن تلك المؤهلات فيها، وفي غيرها من شعوب العرب هي التي أعدتهم للنهوض بالرسالة الإلهية” (3) .

ونحن طرحنا هذا القول لابن باديس لكي نلقي نظرة على خطر تلك الثقافة التي رُوج لها خلال مرحلة الانحطاط، بهدف تبرير الانفصال بين السلطة الإسلامية وبين العرب.

ونحن عندما نتحدث عن آثار الانفصال، ونقطة البداية،  لا نريد أن تدخل في جدل عن آثار “الحكم العربي الأموي”، وعلاقته بالشعوب التي دخلت الإسلام،  فذلك خارج عن بحثنا، ولكن ما نريد أن نؤكده أن هذا الانفصال بين العروبة والإسلام لم يكن من صنع العرب والسلطات الإسلامية العربية، وإنما هو خارج عنها منذ البداية، وقد عمل العثمانيون على تزكيته، ثم تحول هذا الانفصال إلى تصادم في مراحل لاحقة بفعل تدخلات خارجية غربية، وبفعل ممارسات طورانية، فقد ساعد الغرب دولة محمد علي على الانفصال، وتحدي السلطة الإسلامية العثمانية، ثم انقلبوا على دولة محمد علي لصالح العثمانيين (4)، وغذوا  الحركات القومية العربية، كما غذوا قبلها الحركة الطورانية، ثم انقلبوا على مؤيديهم العرب ونكلوا بهم، وبدعوتهم القومية، وساندوا حلفا إسلاميا ضد “العروبة الناصرية”، وبعدها دعموا عملية القضاء على “الإسلاميين”.

المهم ان الجدل دخل إلى قلب الأمة العربية، وهو لا يزال دائرا في مشرق الوطن العربي منذ الأيام الأخيرة للعهد العثماني، حول طبيعة العلاقة بين العروبة والإسلام، وتشكلت منذ ذلك الحين تيارات سياسية على قاعدة هذا الجدل، فنشأ تيار الجامعة الإسلامية (5)، وتيار الجامعة العربية، وتحول الجدل في بعض الأحيان إلى صراعات دموية، وأدى إلى انقسامات وشروخ لا يزال الغرب المستفيد الوحيد منها، يتدخل لإذكاء الصراع، ويقف مع جانب ضد الآخر، مغيرا مواقفه في خدمة مصالحه وحدها.

وبرز داخل كل فريق دعوات واتجاهات مختلفة، فضمن تيار الجامعة الإسلامية كان من يرى للعرب دورا متميزا، والتمايز عند البعض اقتصر على عروبة أو قرشية الخليفة، كمجرد رمز، بينما رأى فريق آخر أن الجامعة الإسلامية تمر عبر قناة الوحدة العربية، باعتبارها طريقا ومدخلا للوحدة الإسلامية، وكان بعضهم في هذه الجامعة يشده الحنين لخلافة بني عثمان، أو خلافة إسلامية جامعة على غرارها، بعيدا عن المحتوى المذهبي، وكانت الوحدة الإسلامية هي الهدف والغاية لا يهم الطريق الذي تصل إليه، سواء عبر البوابة العربية، أو غيرها، فالأصل عندهم تكوين “الجماعة الإسلامية” بعيدا عن الأصول القومية والوطنية الخ…

وبرزت في تيار الجامعة العربية اتجاهات تأثرت بالعلمانية الغربية، ورأت في العروبة حائطا أمام أي توجه إسلامي، بل رأت في العروبة مناقضا ومناهضا لأسلمة الدولة سواء أكان هذا التوجه، وتلك الأسلمة في البعد الفكري العقيدي، أو الحضاري، أو في البعد الجغرافي، لتشمل شعوبا إسلامية غير عربية، والإسلام بالنسبة لهذه الاتجاهات ينظر إليه باعتباره مجرد تراث تاريخي يجب التعامل معه مثل أي تراث حضاري أخر.

بينما ظهرت اتجاهات أخرى ترى وجود علاقة وثيقة بين العروبة والإسلام، وإن الإسلام أكثر من مجرد تراث وتاريخ مجيد، وإنما هو عامل مهم يدخل في تركيب جميع المقومات القومية للعرب، وغير العرب، وهذه خصوصية تمتاز بها الحركة القومية العربية، عن معظم النظريات القومية (6).

ورغم الاختلاف بين تياري الجامعتين، والصدام بينهما، إلا أن الآمال بتضييق هذه الهوة بينهما بقيت مفتوحة طوال الوقت، وتتسع هذه الآمال كلما قويت الاتجاهات المنفتحة داخل كل منهما، وهي تتسع أيضا كلما استشعر هذان التياران بأنهما مستهدفان معا من المشروع الغربي والصهيوني الذي استفاد وحده من صراعاتهما وتناقضهما.

واليوم مع تزايد انتشار البحث عن القواسم المشتركة، ومع تأسيس الجمعيات والمؤتمرات وإقامة المئات من الندوات تحت هذا الشعار، يبقى من الضروري إزالة المتاريس التي تحولت إليها الأفكار، وردم الأخاديد التي شقتها أنهر الدماء، دماء التعصب والغلو والتطرف، ودماء ضحايا القمع والتسلط.

وقد أردت الوقوف عند عينة من أهل الفكر والتأثير في المسار المشترك للجامعتين العربية والإسلامية في الوطن العربي، فاخترت الوقوف أمام عبد الرحمن الكواكبي، وهو من أهم معالم النهضة العربية والإسلامية في القرن التاسع عشر، وقد وصفه الدكتور محمد عمارة بأنه “شهيد الحرية ومجدد الإسلام”، كذلك اخترت الوقوف مع الشيخ عبد الحميد بن باديس باعتباره أحد معالم النهضة العربية الإسلامية في المغرب العربي في النصف الأول من القرن العشرين وعلى جهوده اتكأت الثورة الجزائرية وتغذى جيلها.

ومع هذين العلمين البارزين في تاريخنا الفكري والحضاري الحديث أسلط الضوء على مفهومي العروبة والإصلاح الديني، مساهمة في البحث عن الحقيقة، قبل أن تضيع في عتمة الظلام من جهة، ولتأسيس قواعد مشتركة في الحوار بين العروبيين والإسلاميين على طريق حركة تستهدف نهضة عربية إسلامية موحدة.

الفصل الأول: عبد الرحمن الكواكبي ودعوة الإصلاح

أولا: الكواكبي الرجل والمرحلة:

ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب في اقصى الشمال الشامي لعائلة من “الأشراف” الذين ينتسبون إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم الرسول f ، وقد احتكرت عائلته منصب نقيب الأشراف لفترة طويلة، وكان مولده عام ۲۳ شوال ۱۲۷۱ هجري/ الموافق ١٨٥٤ ميلادي على أرجح الروايات(1)، بينما تفيد الوثائق الرسمية أنه من مواليد ١٨٤٨م، إلا أن هذا الاختلاف يعزى إلى أنه أجرى تعديلا في عمره لكي يتمكن من خوض انتخابات مجلس “المبعوثين”.

والده هو السيد أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي، الذي شغل منصب أمين الفتوى في ولاية حلب، وكان حجة في علم الفرائض “الميراث”، وعمل قاضيا وخطيبا وإماما في مسجد جده أبي يحيى، كما عمل مدرسا، ومن ثم مديرا في المدرسة الكواكبية.

وجده لأمه هو مسعود آل النقيب، مفتي مدينة أنطاكية، توفيت والدته وهو في السادسة من عمره، فاحتضنته خالته التي عاش معها في أنطاكية حيث تعلم اللغة التركية كما تعلم اللغة الفارسية في صباه أيضا(2) .

اهتم بالعمران فعمل على إنشاء سد السويدية، ومد خط حديدي يربط هذا الميناء بمدينة حلب، وسعى لإيصال مياه “نهر الساجور” من عينتاب إلى حلب التي تشهد شحا في مياه الشرب، وسعى إلى توليد الطاقة الكهربائية، وتزويد حلب بها من خلال شلال مائي بالقرب من بلدة دركوش، كما عمل على تأميم شركة “حصر التبغ-الريجي “(3).

تقلده المناصب الرسمية لم يكن يعني أنه كان متوافقا مع السلطة، بل على العكس تماما، فقد اعتقل عام ١٨٨٦ بعد محاولة اغتيال قام بها أحد المواطنين الأرمن لوالي المدينة، إلا أن السلطات العثمانية اضطرت للإفراج عنه بعد أحد عشر يوما تحت ضغط التظاهرات الشعبية، وفي عام ۱۸۹۲ اختفى من البلدة بعد ملاحقات ومضايقات، وهاجر سرا إلى استانبول، كما سجن للمرة الثانية بتهمة الاتصال بدولة أجنبية، وحكم عليه بالإعدام من قبل محكمة حلب الجزائية، إلا أن ضغوطا شعبية كبيرة فرضت إعادة محاكمته أمام محكمة بيروت، حيث برأت المحكمة ساحته.

إلا أن مضايقات السلطات العثمانية استمرت تلاحقه بعد أن انضم إلى الحملة ضد الباب العالي وبعض الأعيان، فاغتصبت أراضيه، ودمرت مزروعاته، وبذلت جهود كبيرة لخسارة تجارته، وتم الاعتداء عليه بالضرب من قبل مأجورين، فنصح بالهجرة من حلب الى منطقة خارج نطاق السيطرة العثمانية فاختار القاهرة التي هاجر إليها سرا في عام 1899، وكان يبلغ الـ 44 من العمر.

وأقام في القاهرة سنتان ونصف، اتصل بأحرارها، واستمر في إصدار المطبوعات والمشاركة في تحرير الصحف، فكتب في صحيفة “المؤيد” التي أصدرها “علي يوسف”، وفي “المنار” التي كان يصدرها “السيد رشيد رضا”، وفي صحيفة “العمران” أو صحيفة “القاهرة”، فطالبت به السلطات العثمانية، وتمكنت بعد ذلك من دس السم له، حيث قضى وهو لم يتجاوز السابعة والأربعين من العمر.

واللافت في هذا العرض أن ثورة الكواكبي على السلطة العثمانية لم تكن ناجمة عن حرمان شخصي، وطلب لمكانة اجتماعية مفتقدة، أو سعيا لثروة، فقد كان يملك من الثروة والجاه الكثير، وعلى العكس من ذلك فإن نزعة العداء للعثمانيين جاءت نتيجة قناعة فكرية وإمعان وتقليب النظر في حال الأمة.

ويعتبر كتابا “أم القرى، وطبائع الاستبداد” من أبرز مؤلفاته التي حوت أفكاره، إضافة إلى مقالاته الصحفية، حيث يتحدث في الأول عن القضية القومية والإصلاح الديني، بينما يركز في الثاني على قضية الحرية.

عصر الحرية

حتى تستقيم معرفة الرجل لابد من الإحاطة بعصره، وهي إحاطة ضرورية جدا لفهم أفكاره التي جاءت استجابة لهذا العصر، ومحاولة لوضع حلول للإشكالات التي يعانيها، فقد عاش الكواكبي في وقت بدأ يُطلَق فيه على الدولة العثمانية تسمية “الرجل المريض”، حيث بدأ عصر الانحلال في الدولة، وكثرت فيها الفتن والصراعات، وتراكمت الديون، واستفحل الفساد فيها، وتفاقمت الأطماع الأوربية التي خططت لاقتسام تركة الرجل المريض، فانتشرت الحروب والفتن في أنحاء متفرقة من الإمبراطورية، وخصوصا في البلقان، إضافة إلى الحرب الروسية العثمانية التي استنزف الكثير من طاقات السلطنة.

كما بدأت الأطماع الصهيونية بالاستيطان في فلسطين، ومع التدخل الأوربي في شؤون السلطنة تصاعد احتكاك العرب بأفكار التنوير الأوربية، وإذا عدنا إلى كتابات الكواكبي سواء في جريدتي الشهباء والاعتدال أو في كتابيه أم القرى وطبائع الاستبداد فإننا نجد صورة واضحة للمدى الذي وصلت إليه الإدارة في فسادها، والسلطة في جورها، والدولة في تمزقها، حيث جاء في افتتاحية العدد العاشر من الشهباء الصادر في 25 / 1 / ۱۸۷۸: إن الجمهور أصبح ينادي بصوت عال متضجرا من اختلال الإدارة، مترقبا بفارغ صبر الإصلاحات الموعود بها، مؤملا إدراك غاية قريبة للتخلص من ضيم استيلاء الفساد على سياسة المملكة، ويزيد من فداحة سوء الإدارة استبعاد العرب الذين يشكلون جزءا كبيرا من مواطني السلطنة من المشاركة في السلطة والإدارة، وعن هذا الإحساس بالغبن يقول الكواكبي: “أما التغلب فمن آثاره عدم وجود وزراء أوليين سوى من طائفة واحدة، ولا يمكن أن يقال أنه منذ ثلاثمائة سنة إلى الآن لم يوجد في العرب من فيه كفاءة لمنصب عال من الوزارات.

ثانيا: أعماله ونشاطاته

خلال استعراض سيرة عبد الرحمن الكواكبي لمسنا أن نشاطاته توزعت في عدة اتجاهات أبرزها:

** مجال الدعوة والفكر، وذلك من خلال عمله الصحفي الذي استهل به نشاطاته العامة سواء في كتاباته بجريدة الفرات، أو من خلال إصداره لجريدتي “الشهباء والاعتدال” اللتين شنتا معركة ضروسا ضد الفساد وضد رجال الإدارة وطالبنا بحقوق العرب، مما دفع السلطات إلى تعطيل هاتين الصحيفتين تباعا، وفي وقت مبكر، حيث لم تصدر جريدة الشهباء إلا ستة عشر عددا فقط أما. جريدة الاعتدال فقد عطلت بعد شهرين ونصف على صدورها (4).

** وكان الكواكبي عموما يستمد موضوعاته في الواقع، ومن الأحداث الساخنة التي تتعرض لها بلاده من قريب أو بعيد، وكانت تتوزع بين الترجمات والقوانين والأخبار المحلية والخارجية، كما احتلت الحرب الروسية – العثمانية جزءا كبيرا من صحيفته “الشهباء”، من خلال إيراده الأخبار والتعليقات عليها، أما تركيزه الأساسي فقد كان على قضايا الإصلاح وخصوصا في صحيفة “اعتدال”

** وبسبب إغلاق مجال العمل الصحفي أمام الكواكبي ركز نشاطاته على العمل الإداري والوظيفي، الذي وظفه في خدمة مواطنيه، وبرز انغماسه في العمل الشعبي من خلال تركيزه على كتابة العرائض لمواطنيه، وأصحاب الشكاوى من رجال السلطنة.

وخلال هذه الفترة كانت له اتصالات ونشاطات، مع مثقفين من غير العرب، ومع بعض رجال السلك الدبلوماسي الأجنبي (5)، واتهم بسبب هذه الاتصالات بالعمالة لدولة أجنبية وهي إنكلترا، إلا أن محكمة تتمتع ببعض الاستقلال، وهي محكمة بيروت برأته من هذه التهمة بعد أن كانت محكمة حلب قد إدانته.

** وقد استمر الكواكبي في الكتابة الصحفية فنشر مقالات له في جريدة “الأهرام” المصرية وصحيفة “النحلة” التي تصدر في بريطانيا، وفي “لسان العرب” التي تصدر في مصر” و “المصباح” التي تصدر في جبل لبنان.

وكانت مقالاته في هذه الصحف التي كتبت بأسماء مستعارة تهاجم بعنف رجال الدولة والقناصل الأجانب، وتوجه انتقادات سياسية حادة.

** في عام ۱۸۹۹ هاجر إلى مصر، واتصل هناك بالخديوي إسماعيل “حاكم مصر، كما اتصل بعدد من الأحرار العرب المصريين والسوريين واللبنانيين، وأبرزهم محمد رشيد رضا، وعلى يوسف.

** وخلال هذه المرحلة نشر كتابيه “أم القرى، وطبائع الاستبداد” على حلقات في عدد من الصحف المصرية، وفي مقدمتها “المؤيد” و”المنار”، وتؤكد كافة المصادر أن كتاب “أم القرى” قد كتب أصلا في حلب قبل الهجرة، وأم القرى هو وصف واسم لمدينة مكة المكرمة.

والكتاب عبارة عن محاضر مفترضة لمؤتمر عقد في مكة بين مفكرين ممثلين للأقطار الإسلامية المختلفة تحت شعار “لا نعبد الا الله”، وغاية الاجتماع المفترض التداول في أحوال المسلمين وأسباب تأخرهم، وتراس الاجتماع ممثل مكة، وشغل الفراتي ـ أي الكواكبي ـ منصب أمين السر.

وتفيد الروايات غير المؤكدة أن أم القرى لم يكن مؤتمرا متخيلا، وإنما هو تنظيم جدي، ضم بعض المثقفين إلا أن هذه الرواية لم نجد لها من سند حقيقي.

** وتتركز الأفكار التي سادت المؤتمر على ضرورة إحداث نهضة كبرى في العالم الإسلامي، لتواكب النهضة الاوربية، وطرح أسس هذه النهضة، التي ترتكز على عامل التوحيد، وخلوص العبودية لله وحده، وعلى ضرورة مقاومة البدع، ونشر المفاهيم الديموقراطية، ومقاومة فكر التعصب المذهبي.

** أما كتاب طبائع الاستبداد فقد كتب رؤوس عناوينه في حلب، وجرى تفصيلها خلال اقامته في مصر، ويتحدث فيه عن الاستبداد السياسي، وما يتعلق به من امراض واشكالات.

** وقبيل وفاته قام بجولة على بعض البلدان العربية والإسلامية بتكليف من الخديوي إسماعيل، وكان مقررا أن يكتب عن هذه الرحلة، إلا أن ملابسات وفاته غيبت أية آثار أو مخطوطات عن هذه الرحلة.

يتبع الحلقة السابعة – 2

الهوامش

1ـ محمد عمارة ، الإسلام والعروبة والعلمانية ـ ص 119

2 ـ م، س ـ ص19

3 ـ عبد الحميد بم باديس ـ الآثار الكاملة ، ج2، مجلد 2 ـ ص63

4 ـ طلال خالدي ـ مفهوم العروبة والإصلاح الديني ـ ص1

5 ـ م ، س ـ ص4

6 ـ م، س ـ ص 6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى