يقول ابن خلدون في مقدمته “الظلم مؤذنٌ بخراب العمران”. ويقول عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد ..”: “الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع”. لذا ليس غريبا أن تراهن الأنظمة المستبدة على استمرار الظلم والاستبداد واعتبارهما دعامتين أساسيتين لحماية بقائها الذي سيزول مهما طال، ولإعادة إنتاج ثقافة الخوف والخنوع التي كانت ثورات الربيع العربي قد كسرتها وكسرت كل دعائمها في غفلة عن هذه الأنظمة.
ولأجل أن تعيد هذه الأنظمة الشمولية المتوحشة ثقافة التركيع فهي مستعدة لأن تعتمد كل الأساليب التي بين أيديها، مهما كانت هذه الأساليب بعيدة عن الإنسانية وعن أبسط القوانين الدولية والحضارية، الأمر الذي جعلها تستخدم أسلوب القمع المفرط للثورات والقتل المباشر والاعتقالات، وخروج مئات الشهداء تحت التعذيب، بالإضافة إلى الاختفاءات القسرية، وقصف المدن فوق رؤوس سكانها، وصناعة ثورة مضادة شيطانية، مهمتها تخريب وجه الثورة الحقيقي، بالاعتماد على فزاعة الإرهاب الجاهز دائما لكل المقاسات.
لم يتوان النظام السوري، وشركاؤه الداعمون له، عن استخدام أجهزتهم الأمنية التي تجيد اللعب بكل الأوراق المتاحة بين أيديها، وتبرع في توظيف التناقضات المجتمعية واللعب من خلالها، حيث اختلقت هذه الأجهزة الأزمات بين الجماعات الإثنية والطوائف والمذاهب والأعراق المختلفة في المجتمع السوري الغني بهذا الموزاييك المتعدّد والمتعايش منذ مئات السنين. عملت هذه الأجهزة دائما على تفتيت هذه الوحدة السورية المتعددة، وراحت دائما تدفع الأحداث بالاتجاهات التي تريدها، لإيجاد حالة من الفوضى، ومن الحروب الهامشية التي تشتت الوعي الجمعي لمن في البلاد، وتشتت حالة الثورة نفسها وتستنزفها.
وهذا تحديدا ما حاولت الأجهزة الأمنية تفعيله بشدة بين أبناء المحافظتين الجنوبيتين الجارتين،
“يحرق رئيس البلاد وداعموه قوتها المزروع، لكي يبقى هذا الرئيس الدمية على كرسيه المكسور”السويداء ودرعا، في السنوات التسع للثورة، والذي اتضح أخيرا في مجزرة بلدة القريا المحاذية لبلدة بصرى الشام في شهر إبريل/ نيسان الماضي، وراح ضحيتها خمسة عشر شابا من أهل السويداء خلال ساعة، في افتعال تافه فقط لإثارة النعرات الطائفية بين الجارتين، وبغرض معاقبة السويداء التي لم تقبل إرسال أبنائها إلى الخدمة في جيش الأسد، مثلما عاقبتها الأجهزة نفسها، حين أعطت الأوامر لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالدخول إلى محافظة السويداء صيف 2018، وقتل ما يزيد عن ثلاثمائة مدني في ساعات قليلة وهم نيام.
واستمرارا في سياسة التجويع والتركيع والمعاقبة، تنتهج هذه الأجهزة الأمنية حاليا، بغرض إذلال المواطن السوري في كل المحافظات، وفي السويداء تحديدا، حرق محاصيل المحافظة وأشجارها وبساتينها، في الموسم الوحيد الذي ينتظره سكان المحافظة لأجل سد رمق أسرهم بعدما هوى سعر الليرة السورية، وأصبح المواطن عاجزا حتى عن شراء الخبز لأطفاله. ويأخذ النظام بالسياسة هذه نفسها في محافظات الجزيرة السورية التي كان قمحها يصدّر إلى كل دول الجوار، والتي كانت تطعم الداخل السوري عشر سنوات مقبلة، وقد أصبحت آلاف الهكتارات أرضا من رماد.
سورية البلد الأول في العالم الذي زرع القمح، وحصده، وجمعه، والذي اكتشف إمكانية تحويله إلى طحين، واكتشف أول مطحنة في العالم، ثم اكتشف كيف يعجن القمح ويخبزه.. سورية بلد الحضارة الأولى التي علمت العالم كيف يحصل على غذائه الأول، تجوع الآن، لأن النظام وحلفاؤه يحرقون آلاف الهكتارات من الأراضي التي كانت مزروعة بأجود أنواع القمح، يحرقونها وقت حصادها، ويحرقون قلوب فلاحيها وناسها.
مئات الدونمات تحترق، والنار تحيط المدن والناس، وطائرات النظام وطائرات روسيا تقصف المدنيين في إدلب، فيما إطفاء الحرائق لا علاقة لها به، وربما لم تتعلمه يوما، فهي تعرف فقط كيفية إشعالها. امتدت الحرائق ووصلت إلى كروم العنب وأشجار التفاح والفستق الحلبي التي ربما أصابها كل شبر بألف نذر، وإلى الأحراش التي كانت الرئة الوحيدة التي تتنفس منها المدن السورية.
يحرق رئيس البلاد وداعموه قوتها المزروع، لكي يبقى هذا الرئيس الدمية على كرسيه المكسور، وكي يعقد صفقات شراء قمح من روسيا التي صارت الآمرة الناهية في سورية. وقد جاء العيد أخيرا إلى السوريين محروقا متفحما، بلا كعك، بلا ملابس، بلا فرح أو حب، بلا خبز خاص بالعيد، فقط طعم النار والرماد والخوف من الموت جوعا.
ولا عيد مع أنظمة تنتهج ثقافة الأرض المحروقة مع شعبها، ثقافة الخوف والرعب والحرق والتجويع والتركيع. لا يأتي العيد حين لا يجد السوريون ما يقدمونه لهذا الضيف الغالي، فالموسم احترق.
المصدر: العربي الجديد