الإسلام وقضايا السياسة والحكم، أبحاث في الخلافة والإصلاح الديني – حلقة (3)

ثانيا: الإمامة والخلافة في الإسلام ـ مواقف عملية  2 / 5

مسألة السلطة وأسلوب الحكم قضية شائكة في المجتمع الإسلامي، وإشكالية السلطة ظهرت منذ اللحظات الأولى على انتشار خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أصحاب النبي استطاعوا أن يؤسسوا معالم السلطة الإسلامية بسرعة فائقة متجاوزين محنتهم بوفاة الرسول والقائد، وتشكلت معالم السلطة الجديدة في اجتماع “سقيفة بني ساعدة”، هذا الاجتماع الذي تحددت فيه الكثير من الأسس التي طبعت مرحلة الخلفاء الراشدين، والتي تعتبر الصورة المثلى لطبيعة السلطة الإسلامية التي قامت على مجموعة من الأسس:

أولها: إنها خلافة عن رسول الله، وهي بهذا تحمل طابعاً مميزاً يفرقها عن الملك الذي كان تأنف منه الكثير من قبائل العرب وعلى رأسها قريش1، في الوقت عينه لا تعتبر فيه هذه السلطة استمراراً على نحو آلي لسلطة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، القائمة على سلطان النبوة. وقد عبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن هذه الطبيعة للسلطة الجديدة بموقفين:

الأول في خطابه الذي ألقاه بعد أن تمت له البيعة، والذي جاء فيه: “يا أيها الناس أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله يطيقه، إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات وإنما أنا متبع وليس بمبدع … (2).

الثاني من خلال رفضه إطلاق تسمية خليفة الله على منصبه الجديد بما تحمله هذه العبارة من معاني التقديس، وقوله لمخاطبه: “لا بل أنا خليفة رسول الله” (3).

ثانيها: إنها تقوم على قاعدة البيعة، وعلى النهج عينه الذي سلّم فيه الأنصار الأوائل سلطة مدينتهم إلى النبي f.

والبيعة التزام متبادل بين الأمير والرعية، تتحدد فيه التزامات كل طرف تجاه الآخر، يلتزم الأمير بقيادة المسلمين وسياسة دنياهم وحراسة دينهم، ويلتزم المسلمون بالطاعة والنصرة، تطبيقاً لقوله تعالى في كتابه الحكيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء آية 59](4) .

ثالثها: إنها تقوم على قاعدة “المشورة والاختيار”، ففي السقيفة طرحت أسماء متعددة لتولي منصب الخلافة، الأنصار رشحوا في بادئ الأمر سعد بن عبادة، وأبو بكر الصديق رشح عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح، ورشح عمر أبا بكر الصديق الذي استقرت عليه البيعة، وآلت إليه الخلافة.

رابعها: أن اجتماع السقيفة حسم وحدة الإمارة والأمة، فلقد رفض عمر مقولة الحباب بن منذر: ” منا أمير ومنكم أمير”، بقوله: لا يَجتمعُ سيفان في غمد (5). أمام هذا المنطق وتمام الحرص على وحدة الأمة تجاوز المجتمعون في الحال هذا الرأي.

خامسها: حصر الخلافة -الإمارة – في قريش، ولم يكن هذا الحصر عفوياً ولا تلقائيا، وإنما جاء نتيجة حوار وتعليل ومنطق، قبل به المجتمعون من الأنصار والمهاجرين، هذا التعليل الذي حدده ابن الخطاب بقوله: “لكن العرب لا تمتنع إن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمرهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين”(6) .

وكان رد “بشير بن سعد أبو النعمان” الأنصاري الخزرجي أكبر إقرار بقبول هذا التعليل وهذه الحجة حين قال: “ألا إن محمداً من قريش وقومه أحق به وأولى، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم”(7).

لكن اجتماع السقيفة لم يحسم الأمور كلها، بل ترك منافذ للاختلاف والنزاع، ساهمت فيما بعد في فتح أبواب للاجتهاد والتعليل لتلك الاختلافات والمواقف، وسمحت باتساع جوانب الاختلاف لتصبح فتناً وصراعات دامية، فلقد انتهى اجتماع سقيفة بني ساعدة بمبايعة أبي بكر الصديق بالخلافة مع استمرار رفض سعد بن عبادة ورهطه البيعة، وهو رفض لم تنفع فيه كل الضغوط التي مورست عليه، وخارج الاجتماع كان الرفض الآخر الأكثر تأثيراً والأشد إيقاعاً، ألا وهو رفض آل هاشم، آل بيت الرسول ﷺ وعلى رأسهم فاطمة بنت محمد، وعمه العباس، وعلي بن أبي طالب عمه وزوج ابنته.

هذان الموقفان الرافضان من قبل بعض الأنصار ومن معظم آل بيت الرسول سمحا للجدل المطول حول بعض قواعد الخلافة التي أقرت في اجتماع السقيفة:

** البيعة والشورى، هل تقتضيان إجماع أهل العقد والحل وهم كبار القوم، أصحاب المنعة والقوة والتأثير، أم يكتفى ببعضهم ؟

** القرشية كشرط للولاية والإمارة وهل هي أصل أم نتيجة ؟

** طبيعة علاقة آل البيت بالسلطة هل هي حق لهم بحكم الأفضلية القائمة على التعليل أم بحكم النص ؟ أم حقهم فيها كحق سائر المسلمين ؟

لكن، على الرغم من بوادر هذا الجدل فإننا نرى أن خلافة أبي بكر هي انعكاس دقيق لاجتماع السقيفة، ثبت خلالها نوع من أنواع التوافق في قيادة الأمة بين الأنصار وقريش، وتكرس دور قريش حين صمدت في وجه الردة التي شاركت فيها معظم القبائل والممالك العربية.

صمدت قريش التي وقفت وقفة رجل واحد ومعها الأنصار في المدينة، وبني ثقيف في الطائف مدافعة عن الرسالة، وعن الدولة الجديدة في وقت واحد، مكرسة بوقفتها وانتصارها أمرين:

الأول: مفهوم السلطة الجديدة وطبيعتها كحارسة للدين والدنيا، إذ كانت حروب الردة تأكيداً لدور الدولة في مجال الدعوة والعقيدة والمحافظة عليها من جهة، وتأكيداً لمركزية الدولة من خلال رفض الخليفة أبي بكر مهادنة من رفض مجرد تسليم الزكاة لبيت مال المسلمين وقوله: ” والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه”(8).

الثاني: مكانة ومنعة قريش بين القبائل العربية، حين استطاعت حشد كل طاقات المسلمين، وإخماد نار فتنة المرتدين التي انتشرت على طول أراضي الدولة الإسلامية الفتية.

وجاءت خلافة عمر بن الخطاب التي كانت استمراراً لخلافة أبي بكر لتحمل في طياتها نوعاً من الجدل حول مكانة وطبيعة الشورى في اختيار الخليفة، تلك الشورى التي مورست بشكل ما، خلال اجتماع السقيفة وتولية أبي بكر، فقد سمى أبو بكر عمراً خليفة له قبيل موته9، وتمت البيعة له على هذا الأساس، وأُخذ هذا النهج، واستخدم بشكل متعسف لتحويل الخلافة إلى ملك في مرحلة تالية، في أيام حكم الأمويين والعباسيين من خلال تسمية ولي العهد، وأخذ البيعة له في حياة الخليفة.

وقولنا استخدم بشكل متعسف لسببين:

أولهما: أن بعض الروايات التاريخية تذكر أن أبا بكر استشار عدداً من الصحابة من أهل العقد والحل في ترشيح عمر للخلافة من بعده، وأن البيعة تمت له بإقرار طوعي من قبل جميع أهل العقد والحل.

ثانيهما: أن استخلاف عمر لم يأت عبر ولاية لقريب على عمود النسب، وإنما جاءت لأحد المرشحين الرئيسيين للخلافة في اجتماع السقيفة.

وفي خلافة عمر تستوقفنا مسألة هامة تتعلق بطبيعة الخلافة، وهي تغيير تسمية منصب الخلافة إلى “إمارة” المسلمين، وهي تسمية تتضمن معنى أدق لطبيعة علاقة هذا المنصب بالمسلمين ومصالحهم من حيث هم “أتباع الدولة الإسلامية ورعيتها”، ومن حيث أن الحاكم المسلم يستمد صلاحية منصبه من هؤلاء المسلمين.

وبعد مقتل عمر بن الخطاب جاء عثمان بن عفان إلى الخلافة من خلال مجلس الشورى السداسي الذي عينه الخليفة الراحل وهو على فراش الموت، كان مجلس الشورى نوعا من الحل الوسط بين اجتماع السقيفة المفتوح للمسلمين، وبين أسلوب اختيار عمر للخلافة عبر قرار من سلفه، وانتهت خلافة عثمان بأول ثورة داخلية ضد خليفة المسلمين، لتفتح بذلك طريقا ومنهجا في العمل للوصول إلى الإمارة لدى بعض المسلمين، عماده سعي مجموعة من المسلمين إلى التقاطر على الخليفة ومنازعته سلطانه، عبر التشكيك بأحقيته، أو صلاحيته للإمارة، بينما كانت أساليب المعارضة من قبل قد اقتصرت على المقاطعة وعدم إعطاء المبايعة.

في أجواء الفتنة والثورة، أتى علي بن أبي طالب إلى الخلافة عبر مبايعة مختلفة عن مبايعة سابقيه، فقد جاءت مبايعته من قبل عامة أهل المدينة، بينما كانت بيعات من سبقه تقوم على مبايعة الخاصة، وفي عهد علي كثرت النزاعات والفتن، ولم يعد لمنصب الخلافة ذلك التقديس الذي شهدته أيام أبي بكر وعمر والنصف الأول من خلافة عثمان، وفي زمن خلافة علي ظهر النزاع على السلطة على أشد ما يكون، واتخذ صحابة النبي ﷺ مواقف شديدة التباين بحيث ظهر خلل واضح فيما اعتبر سابقاً وكأنه استقرار على أسس معينة في أصول الحكم وطرق انتخاب الأمير وشروط منصب الخلافة.

فقد رأى العديد من الصحابة أن الخلافة قد انعقدت لعلي، فهو المرشح الثاني من مجلس الشورى المعين لخلافة عمر وحاز بيعة “عامة” من أهل المدينة، وقام حقا بمهام الخلافة.

ومن الناحية العملية، لم يتصوّر هؤلاء شغور منصب الخلافة بعد مقتل الخليفة السابق، وعلى رأس أولئك الصحابة، عبد الله بن العباس أكثر فقهاء المسلمين علما (10)، وعمار بن ياسر الموعود بالجنة، وأبو أيوب الأنصاري، وغيرهم.

واجتهد آخرون بالنٌّكُوص عن البيعة التي أعطوها لعلي، وعلى رأس هؤلاء الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وهما مرشحان آخران للولاية ضمن المجلس الاستشاري قائلين: إن البيعة أخذت منهما بالإكراه (11)، وبـ ” عدم صحة بيعة المكره”.

وارتأى آخرون أن البيعة لم تنعقد في الأصل لغياب الكثير من صحابة رسول الله، وأن مسألة الخلافة مستأخَرة لحين البت في أمر دم عثمان، والاقتصاص من قتلته، وعلى رأس هؤلاء أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وآل سفيان.

هذا، بينما قعد بعض الصحابة في بيوتهم رافضين الاشتراك في الجدل الدائر والفتن المنتشرة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص (12).

وبمقتل علي على يد الخوارج، أصبحت الخلافة الإسلامية خلافتين:

** الأولى، في الكوفة للحسن بن علي الذي تلقى البيعة من أصحاب أبيه.

** والثانية، لمعاوية بن أبي سفيان الذي أخذ البيعة لنفسه مؤيدا بأمصار الشام ومصر واليمن، وبعض أطراف الحجاز.

ثم تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة لخصمه معاوية وأداً لنزاع طويل، وخوفا من تمزق أمة شتـَّتتها الفتن، وغٌيٍب الحق فيها، ليضيع في أُتون التعصب للرأي وللأنصار.

ومع نهاية خلافة معاوية شهد هذا المنصب قفزة غير مألوفة حين وضعت قاعدة ولاية العهد، وأضحت الولاية إرثا ينتقل ضمن العائلة، ولم تعد مواصفات الخليفة وأهليته الشرعية محل اعتبار، وتحولت الخلافة إلى مُلك عضوض.

رضخ معظم المسلمين لهذا التحول الذي أصاب “مفهوم الخلافة” تحت ضغط عاملين:

الأول: الحفاظ على وحدة الأمة، والخروج من أجواء الحروب والفتن وإيقاف اهراق الدماء دونما مسوغ جوهري(13).

والثاني: الخوف من بطش السلطان وسطوته.

ورفض الحسين بن علي حفيد الرسول (y) هذا التحول في طبيعة السلطة، وثار عن اقتناع بشرعية ثورته، ضد متسلط فاسد هو يزيد بن معاوية ثاني خلفاء بني أمية، والذين اعترضوا على ثورة الحسين وخروجه، وقد جاءت اعتراضاتهم من منطلقين مختلفين:

  • مجموعة الراضخين والمؤيدين لحكم بني أمية الذين استفاد بعضهم وتأمنت مصالحه.
  • ومجموعه الذين سيطرت عليهم غلبة وأد الفتنة، وكان اعتراض هذه المجموعة ناتجاً عن حسابات عملية بعدم توفر إمكانية النجاح لهذه الثورة، وعلى رأس هؤلاء كان عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن الزبير.

ما يستوقفنا في هذا العرض السريع لمسألة الخلافة حتى منتصف القرن الأول للهجرة، وهي المرحلة التي شهدت فيها أوقاتها الذهبية أيام الخلافة الراشدة، أنها شهدت أيضا الفتنة الكبرى التي امتدت منذ قبيل مقتل الخليفة عثمان بن عفان، حتى مقتل الحسين بن علي، وفي هذا يقول الشهرستاني: “أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة” (14).

وإننا لنعتقد بأن الخلاف بين المسلمين وقادتهم على منصب الإمامة كان طبيعيا، نظرا لمكانة هذا المنصب الخطير، الذي كان له جلاله وإغراؤه، فهو منصب استظل بالدين من أول يومه، فكان له في الناس، وعلى الناس، سلطانان: سلطان الدين، وسلطان الدنيا، سلطان الروح، وسلطان المادة، والناس مفتونون بالسلطان، أي سلطان يسعون إليه، ويقتتلون من أجله، ولو لم تكن الخلافة على هذا النحو الذي ظهرت به متصلة بالدين، وكانت سلطاناً دنيوياً محضاً لكان الخلاف فيها، والإغراء بها، والتهالك عليها، والقتال من اجلها، أقل وطأة، وأخفُ حدّةً، لكنها إذ لبست ثوب الدين فقد أصبحت أكثر من سلطان، وأشهى من مجرد حكم، إنها سلطان لا حد له، يخضع له كيان الإنسان جميعه ظاهره وباطنه، روحه وجسده.

أيضا تستوقفنا ملاحظة أنه كلما وقع خلاف شديد على منصب الخلافة، وعلى شروطها، استنبط قادة الصراع “مواقف عملية”، وفق قناعاتهم واجتهاداتهم لحل ما يواجهونه من إشكالات ومصاعب.

كما تستوقنا ملاحظة أن الخلافة والصراع عليها شارك فيه معظم الصحابة، وهم رجال لا يعقل التشكيك في صحة إيمانهم وعملهم ونواياهم (15)، وإلا طال التشكيك الكثير بما هو ثابت في قناعاتنا ورؤيتنا التاريخية، فقد أَعَمل أولئك الصحابة – بمجموعهم وبمواقفهم المتباينة – عقولهم لاستنباط المواقف التي يرونها منسجمة مع روح الشرع الذي استقر في قلوبهم، ومع مصالح المسلمين من وجهة نظرهم.

في تلك المرحلة لم يكن يَهُمُّ هؤلاء الصحابة تنظير آرائهم ومواقفهم ما لم يجدوا سنداً ثابتاً غير مُؤَوَّل من كتاب الله وسُنّة نبيه، فقد كانت صحبتهم للرسول ومعايشتهم لزمن النبوة، وانطباعهم بالإسلام سلوكاً ونهجاً وفكراً هي سندهم في أحكامهم ومواقفهم، غير أنه بتعاقب الزمن وتغلب المصالح الدنيوية، أصبحت المواقف بحاجة إلى تعليل وتنظير وإسناد، وتكرست مذهبية التفكير والموقف.

ومن تلك المسائل التي عمل الفقهاء والعلماء على تثبيتها، مسألة الخلافة والسلطة، وتحديد شروطها، وواجباتها، وطرق اختيار الخليفة، ومواصفاته، وتحول الخلافة إلى ملك، ووجوب طاعة الخليفة.

يتبع / حلقة 4

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى