من خلال الجزء الأول لسلسلة الفساد التي أظهرت تغلغل هذه الآفة عبر الأجهزة الأمنية وكيف جعل منها النظام ( الفساد لإدارة البلاد ) سنلقي نظرة على دوائر الدولة وكيف كانت تعمل وفق تلك المنظومة، وصل من وصل الى الدوائر عبر حزب البعث ومنهم عبر المهارة والبعض عبر الوساطات لمراكز حساسة وصاحبة قرار بشؤون المواطن، وكان العصب الأساسي الذي يريد التغلغل اليه النظام هو الاقتصاد بجميع مرافقه وأهم دائرتين هما مديرية الاقتصاد ومديرية الصناعة بالمحافظات وعبرهما يستطيع مراقبة ومعرفة كل ما يدور ويحدث ، لذلك وزع أعينه ومراقبيه وأدخل مفهوم الرشاوي لتسيير أصغر معاملة ، بلا شك هناك موظفون لم ترض أخلاقياتهم ولا تربيتهم ذلك مما جعل منهم منعزلين حتى ابعدوا عن مراكز القرار .
لكل مشروع ينوي المواطن القيام به خطوات ادارية لابد منها ( تراخيص ، وثائق ، بيانات ملكية ، دراسة جدوى اقتصادية ) مما خلق دورة مستندية وثقل بيروقراطي قاتل ، وبدول الفساد كلما كثرت المستندات والتواقيع كلما كثرت أبواب الفساد والرشاوي وبالفعل هذا ما حدث . وضعت أجهزة الأمن على كل قسم مدير تستطيع من خلاله مراقبة ما يحدث وتوقيف المشروع الذي تراه جيد لكي تشارك صاحبه بشكل مستتر وبطريقة شيطانية تصل الرسالة لصاحب المشروع أنه لا أمل بنجاح المشروع إذا لم يكن هناك شريك من قبل المنظومة الأمنية للدولة ، وبالفعل هذا ما حدث لأغلبية الصناعات الحساسة ( أدوية ، غزل نسيج ، حديد ، اسمنت ، مشاريع بناء ، تعهدات ) .
لو توقف الموضوع على هذه النقطة حينها سنقول الحمد لله، ولكن حتى نصل الى اقلاع المشروع يلزمنا نسبة تتجاوز ال 10% من كلفة المشروع بما يسمى الأكلاف المستترة ، ( أذكر خلال مشاركتي بمؤتمر المصارف الحرة بدمشق ومن خلال كلمتي التي وضحت بها العقبات التي تواجه الصناعي أو المستثمر حينما طرح علي ما أقصد بالأكلاف المستترة ) ، رشاوي تدفع للحصول على تلك الموافقة ، ورأي هذا الخبير ، وكشف تلك اللجنة دبَّ بالصالة الصمت بعض الشيء من ثم تبعه تصفيق حاد ، فلجنة الكشف الصناعي لا تتحرك من مكاتبها إلا بمبلغ يكون جاهز مع عزيمة غداء ، أما إذا كانت اللجنة من دمشق ، فالفندق ومصاريف المهمة تدفع من قبل الصناعي وصاحب المشروع ، وهذا ما تقوم به لجان الكشف الصناعي التابعة للوزارة أو المديرية علما أن الدراسة تكون مسبقا قد حصلت من جميع الدوائر على الموافقات وبعد دفع المعلوم وبنسب تتراوح من رئيس قسم إلى موظف ديوان عادي وبدون ذلك يمكن الاضبارة أن تضيع أو تنام في درج أحد المسؤولين الذي قد أخذ إجازة لعدة أيام وهكذا .
إحدى الشركات الخارجية قدمت مشروع فندق بمدينة حلب التي كانت بأشد الحاجة لفندق اربعة نجوم وفعلا المشروع متكامل يحتوي على 280 غرفة والمشغل هوليدي ان ( دار سينما ، محلات تجارية مختلفة النشاطات ، مقاهي ، مطاعم بالإجمالي 80 محل ) ووفق قانون السياحة يعفى الفندق 7 سنوات من الضرائب ، من ثم يدفع 50% من الضريبة المفروضة طالما الفندق قائم ، المعضلة التي اعترضت المشروع أنهم اعتبروا المحلات غير سياحية ذات نشاط تجاري علما أنهم ضمن مبنى الفندق والشركة التي سيتم ترخيصها ، ويريدون أن تخضع للضريبة كأي نشاط تجاري من السنة الأولى وبعد الأخذ والرد والنقاش المطول مع مكتب التراخيص بالوزارة بدمشق وصلت الشركة التي تريد الاستثمار بهذا المشروع إلى نتيجة أن الوزارة والمقربين منها يطلبون مبلغ خيالي لتشميل كل المشروع بالقانون السياحي واستثناء المحلات التجارية من القانون التجاري وتشميلها بالقانون السياحي ، مما أجبر الشركة على (ضبضبة) أوراقها وخروجها من سورية سعيا وراء تحقيقه في دولة أخرى ، ( فقط كمعلومة المشروع كان سينفذ بالمستودعات المجاورة للملعب البلدي بحلب ويملك الأرض رجل أعمال سوري يعتبر من كبار تجار الذهب والصياغة في السعودية ) .
لا يوجد حلبي إلا ويعرف معنى الأراضي التي تم تخصيصها لمشاريع صناعية ، لا اتحدث عن المنطقة الصناعية ( الشيخ نجار ) فهي موضوع آخر ، سأتحدث عن أراضي تم استملاكها من قبل بلدية حلب وراحت تبيعها لمستثمرين من حلب يريدون انشاء فعاليات صناعية مختلفة وهذه الظاهرة ظهرت بعدة أطراف من المدينة وريفها ، والأهم من ذلك كانت منطقة جبرين التي كما بينت استطاعت بلدية حلب استملاك الأراضي من الملاكين الأساسيين بأسعار منخفضة جدا من ثم بدأ تقسيمها الى محاضر وعرضها للبيع بعد ان تم الوعد بتحسينها خدميا وتوصيل ما يلزم اليها من كهرباء وماء ومصارف صحية ، هذا الشيء بلا شك رفع سعر المتر المربع الى أرقام خيالية بالنسبة للمالك الذي اجبر على البيع بأسعار زهيدة ، والشيء الواضح أن بلدية حلب برئيسها قد استطاعت الاتفاق على فوارق بسعر المتر مع المشتري ووضعوا هذه الأموال بجيوبهم وكأنها أراضي ورثوها عن أهاليهم .
حينما بدأ تنفيذ المشاريع انتبهت أهالي القرى المحيطة وأصحاب الأراضي فرفعوا دعوى على البلدية وراحت القصة بين شد ومط ومحكمة وأخرى وتغير رئيس بلدية ليأتي آخر ويتم الاتفاق على تعويض أصحاب الأراضي بفارق بسيط اضافي الى ما حصلوا عليه والبعض رفض ولكن من تحمل هذا الفارق ، بلا شك الملاك الجديد ، وبقيت المشاكل قائمة بين الملاكين الاصليين والجدد ورؤساء البلدية الذين مروا على المشاريع المماثلة ( ميرو ، محمد صطيف ، الشبلي ) والشيء المؤكد أن الصناعيين باشروا عمل مصانعهم وبتلك الفترة استرجعوا أضعاف أضعاف ما دفعوا من رشاوي وحصص ومشاركات من وراء معاملهم .
الذي نستنتجه من تلك القصة ، لا أعتقد أن النظام وأجهزة الأمنية غائبون عما يحدث ولا اعتقد أنهم ليسوا بصورة كل سطر مكتوب بمحاضر الدعاوي ، ولكن كان شريك بما يحصل ويسكت عما يحصل ، والكل يذكر جيدا كيف طالب الشعب الحلبي إقالة ميرو حينما صار محافظ حلب وبلا شك اقاله النظام ليعينه رئيس مجلس الوزراء حتى تستمر نظرية إدارة البلاد بالفساد ، علما أنني تركت حلب وهناك بعض الأسر مازالت تطالب بتطبيق سعر السوق على أراضيها ولم ترض بما صدر كحكم وهذه الاسر حينما اندلعت الثورة أول من نزل للشارع للمطالبة بقمع الفساد حتى أنهم حملوا السلاح ومنهم من اندمج بالعصابات التي لا توفر شيء بطريقها ، ونتساءل كيف خلقت الفوضى وكيف نزل المواطن للشارع .
موضوع كيف حصل الصناعي على موافقاته وكيف تجاوز الكثير من العقبات وكيفية الحصول على الاستثناءات للقيام بمشاريع تخالف قوانين البيئة، كيف تجاوز بالبناء لما هو مرخص وتمرير الموضوع بين نقابة المهندسين والبلدية والصناعة والاقتصاد فهذا شيء لا خوف منه، طالما هناك من يسعر كل مشكلة ويقدر خطة سير مستنداتها والمبالغ المفروضة، لا خوف حينها مطلقا، ابتداءً من الوزير الى المحافظ ورئيس البلدية وحتى رئيس فرع الأمن المعني أو الذي يعتبر شريك غير مباشر. لمديرية التراخيص بالبلدية مفتاح، لمدير الصناعة مفتاح، للجان الكشف، وهكذا الكل يأكل والكل مبسوط والمواطن مذبوح.
…